الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية - مقدمة جورج لابيكا لكتاب لينين

حسان خالد شاتيلا

2016 / 6 / 4
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


 الـمــلـحـــق السابع: الإمـبريالــية أعــلى مراحــل  الرأســمالية 
                                                                                                                    ‏‏(مـقدمــة جــورج لابيكــا لكــتاب لــينين) ‏
 
‏* جورج لابيكا، مقدمة ل/الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية‎ ‎‏( دراسة في متناول كافة الناس) ‏تأليف لينين
V. Lénine, L’impérialisme stade suprême du capitalisme(Essai de ‎vulgarisation), vulgarisation) ‎‏ ‏introduction Georges Labica, Le Temps ‎des cerises, 2001‎
‎ ‎
 
كتب لينين "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، دراسة في متناول كافة الناس"، في فصل الربيع من  ‏العام 1916. ويشير جورج لابيكا في مقدمته لطبعة جديدة من هذا المؤلف للينين، والتي ظهرت في ‏فرنسا في العام 2001، إلى أن لينين كان مقيما في زيوريخ عندما كتبه، إلا أن هذا العمل لم يُنشر لأول ‏مرة إلا في العام 1917. ويحرص لابيكا منذ الأسطر الأولى لمقدمته على التذكير بأن هذا العمل وليد ‏السياق التاريخي للحرب العالمية الأولى، ووثيق الصلة بوقائعها الملموسة، وهو تحليل ملموس لمكوناتها ‏السياسية والاقتصادية والإيديولوجية والمجتمعية. إن هذا العمل، على حد قول لابيكا، يستجيب لأمر كان ‏يحتاج في حينه إلى معالجة فورية. إذ إن طبيعة الحرب العالمية الأولى المشتعلة حينذاك كانت تحتاج إلى ‏تفكير في أمرها لتوضيح طبائعها وتحديد موقف الاشتراكيين حيالها. إن لينين يبيِّن هنا أن الحرب مرتبطة ‏بمرحلة جديدة وصلت إليها الرأسمالية، وهذه المرحلة إمبريالية، وإن ظروفها الموضوعية تشكِّل توطئة ‏للثورة الاشتراكية.  وهذه الأطروحة التي يدافع عنها لينين هنا هي، في وقت واحد، اقتصادية من جهة، ‏طالما تؤكِّد أن الإمبريالية  نتاج لتطور الرأسمالية، والإمبريالية  بهذا المعنى ليست سياسة يمكن ‏معارضتها. والإمبريالية، من جهة ثانية سياسية، طالما تكشف عبر اجتماع البورجوازية تحت سقفها عن ‏الشوفينية الاجتماعية التي لا تقتصر على خيانة الاشتراكية فقط للبروليتاريا، وإنما تبدو علاوة على ذلك ‏عاجزة عن فهم الفرصة التي تمنحها الحرب للبروليتاريا  كي ما تنتصر. والتحليل اللينيني، إذ يرفض كل ‏حياد‎ ‎‏ إزاء الإمبريالية، فإنه يشخِّص انقساما في صفوف الاشتراكية. حيث يتعارض التيار الإصلاحي ‏وعلى رأسه قائد الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا كارل كاوتسكي، مع التيار الثوري ممثلا بروزا ‏لوكسمبورغ. ‏
ويلاحظ لابيكا في مقدمته أن الإمبريالية في كتابات لينين تمسك، من حيث هي حالة تاريخية، ‏بمكونات المرحلة ، من نمط الإنتاج إلى الصراع الطبقي، إلى المسألة القومية، وغير هذه وتلك من مكوِّنات ‏المرحلة. فنظرية الإمبريالية لدى لينين تشكِّل نقطة التداخل ما بين صراع متعدد الأشكال، إيديولوجي ‏واستراتيجي. ويبلغ هذا الصراع أوجه مع ثورة أكتوبر. هذا يعني أن نظرية الإمبريالية تُمْسِك في حزمة ‏واحدة مداخلات لينين كلها، سواء ما كان منها يتعلق بخصوصية الحروب، أم المسألة القومية وحق ‏الشعوب في تقرير مصيرها، وشروط كل من الثورة الاشتراكية، والديمقراطية الكاملة (يَعْقد لينين في ‏الثورة الاشتراكية وحق الشعوب في تقرير مصيرها  صلة وثيقة ما بين نضال البروليتارية من أجل ‏انتصار الثورة الاشتراكية، والنضال البروليتاري الشامل والمُنَظَّم من أجل إنجاز الديمقراطية الكاملة)، ‏والصراع ما بين القوتين في العالم، والأممية. وكان لينين كتب في مقدمته لكراس نيكولاي بوخارين "‏الاقتصاد العالمي والإمبريالية:: لقد بات من المسلم به أن إدراك الحرب الراهنة  بصورة تاريخية وملموسة ‏متعذِّر ما لم يَستَنِد هذا الإدراك إلى كشف كامل للإمبريالية وطبيعتها الاقتصادية والسياسية. وكان جورج ‏لوكاش، على حد قول لابيكا، أول من أرجع في العام 1924 تفوُّق لينين إلى معرفته كيف يربط بصورة ‏ملموسة وكاملة النظرية الاقتصادية للإمبريالية بكل المشاكل السياسية المرتبطة بالحدث الراهن - وفي ‏ذلك إنجاز نظري لا يضاهيه إنجاز – وكيف يجعل من المضمون الاقتصادي لهذه المرحلة الجديدة الخيط ‏الموجِّه لكل الأفعال في عالم منظَّم على هذا النحو.‏
ويلاحظ لابيكا بأن تعبير "أعلى" الوارد في العنوان ليس معناه آخر مراحل الرأسمالية، آخر ‏المراحل التي ينتهي إليها التطور، وإنما يعني المعاصرة أو ما هو راهن. وقد أوضح لينين ذلك بنفسه ‏عندما اقترح عنوانا لعمله، حيث كَتَب الإمبريالية مرحلة عليا (معاصرة) للرأسمالية (الأعمال الكاملة ‏بالفرنسية، المجلد 22، ص 106، وذلك في الدفتر الذي يحتوي على ملاحظات لينين حول ‏الإمبريالية)، بالإضافة إلى عدد آخر من المصادر التي تشير بقلم لينين إلى أن المعنى المقصود من ‏‏"أعلى" هو المعاصرة وليس نهاية التطور الرأسمالي (انظر مقدمة لابيكا ص- ص 10 و11). وفي هذا ‏السياق من تطور الرأسمالية إلى مرحلة عليا أو معاصرة هي الإمبريالية، تأتي العولمة من حيث هي ‏مرحلة إمبريالية، أو ترجمة جديدة عنها. وكان لينين ميَّز، حسب ما يلاحظ لابيكا، الإمبريالية الجديدة عن ‏إمبريالية سابقة، من حيث هي تُحِّل محل إمبراطورية واحدة في حال التوسُّع، نظرية وممارسات ‏إمبراطوريات متنازعة تقود كلُ منها التطلعات نفسها إلى التوسُّع السياسي والربح التجاري. هذا أولا. ‏ومن حيث هي تسجِّل، ثانيا، لسيطرة المصالح المالية أو ما كان منها متعلقا باستثمار رؤوس الأموال ‏‏(لينين، دفاتر الإمبريالية، المجلد 22، ص 109). فقد ماتت الإمبريالية القديمة في سانت هيلين، الجزيرة ‏التي نُفي إليها نابليون، ومع موت هذا الأخير، لتلد ما بعد ذلك الإمبراطورية العالمية لبريطانيا العظمى ‏التي تجر وراءها الأمم وتقود إلى المنافسة الاقتصادية مع غيرها من الشعوب. ‏
ولتعريف الإمبريالية في خطوطها العريضة التي تميِّزها، يعود لابيكا إلى عمل آخر للينين يحمل ‏عنوان  الإمبريالية وانقسام الاشتراكية، حيث يرسم لينين في هذا العمل لوحة توضيحية تتضَّح معالمها ‏على النحو التالي: ‏
‏1-الإمبريالية مرحلة تاريخية مرتبطة بصورة خاصة بالرأسمالية التي بلغت إلى مرحلة الرأسمالية ‏الاحتكارية، والتي تعبِّر عن نفسها عبر مراحل خمسة، وهي:‏
‏-‏/ كارتيلات، نقابات أرباب العمل، وهي نتاج للمركزية في الإنتاج.‏
‏-/‏ البنوك الكبرى.‏
‏-‏/ الاستيلاء على مصادر المواد الأولية من قبل التروستات والأُوليغارشية (حكم القلة) المالية. ‏وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرأس المال المالي = الرأس مال الصناعي المحْتَكَر + رأس المال ‏البنكي.‏
‏-‏/ التقاسم الاقتصادي للعالم من قِبَل الكارتيلات الدولية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تصدير ‏رؤوس الأموال يَخْلُفُ تصدير البضائع الذي يميِّز الرأسمالية غير الاحتكارية. ‏
‏-‏/ نهاية تقاسم أراضي العالم (المستعمرات).‏
‏ وقد انتهى التكوُّن الذاتي  للإمبريالية ما بين العام 1898 و1914 (الحروب الإسبانية الأمريكية‏ للعام 1898، والحروب ما بين بريطانيا والمعمِّرين من العرق الأبيض في إفريقيا ما بين 1899 ‏و1902، والحرب الروسية اليابانية ما بين 1904 و1905، والأزمة الاقتصادية الأوروبية للعام 1900.  ‏
 
‏2- الإمبريالية رأسمالية طفيلية، أو رأسمالية في حال التفسخ. والملاحظ هنا أن التعبيرات التي تختلف هنا ‏من حيث طبيعتها عن النقاط الواردة أعلاه، تبدو وكأنها أحكام قيمة، إلا أنها في الواقع اقتصادية، وتكشف ‏عن النتائج السياسية للتحليل:‏
‏-‏/ بالرغم من أن بعض فروع الصناعة تتطور في أغلب الأحيان بصورة سريعة، إلا أن ‏البورجوازية الإمبريالية آيلة إلى التفسخ لأنها أصبحت رجعية بعدما كانت جمهورية ‏وديمقراطية في عهد رأسمالية التنافس الحر. ‏
‏-‏/ تَشَكُّل شريحة واسعة من أصحاب الإيرادات التي تعيش من اجتزاز القسائم. ‏
‏-‏/ تصدير رؤوس الأموال والذي يُعْتَبَر طفيليا بصورة مضاعَفة. ‏
‏-‏/ الرجعية السياسية، وهي من مميِّزات الإمبريالية، وهي مبدأ شراء الذمم. ‏
‏-‏/ استغلال الأمم المضطَهَدَة: العالم "المتحضِّر" يعيش بصورة طفيلية من جسم العالم غير ‏المتحضِّر. ‏
‏-‏/ ملاحظة: هذا يصح أيضا على شريحة من البروليتارية في أوروبا متمتِّعة بامتيازات.‏
‏3-الإمبريالية من حيث هي رأسمالية تلفظ أنفاسها الأخيرة وتؤرِّخ للانتقال إلى الاشتراكية من جراء ‏التطور الذي يَلحَق بعلاقات وقوى وأدوات الإنتاج ضمن نمط الإنتاج الرأسمالي في المرحلة الإمبريالية ‏نحو الاشتراكية ، سواء من حيث تشكُّل البروليتارية كطبقة واعية، أم من حيث ظهور المَصْنَع كحيز ‏مجتمعي وسياسي مفكر وفاعل في المجتمع والدولة، فضلا عن التحولات الواسعة التي تأتي مع ‏الرأسمالية الصناعية . وهنا يبرز عدد من الخطوط الرئيسة:‏
‏-‏/ الإمبريالية نتاج ضروري لتطور الرأسمالية، وذلك حسب "المعادلات" - إن صح التعبير- ‏التالية:‏
‏-/ الرأسمالية = المنافسة الحرة = الديمقراطية. ‏
‏-/ الإمبريالية = نظام الاحتكار في الاقتصاد = الرجعية. ‏
‏-/ العلاقة ما بين "المعادلتين" أو الصعيدين، الاقتصادي (وضع القوى العاملة)، والسياسي ‏‏(طبيعة العلاقات المجتمعية) تحمل بالتالي معها وبصورة جلية واقعة قوامها التناقض ما بين ‏الإمبريالية والديمقراطية. ويستنتج لينين من هذا التناقض – حسب لابيكا - نتيجة مؤداها أن ‏الفصل ما بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية – حسب ما جاء بقلم لينين – منافٍ للعلم. ‏ذلك أن الإمبريالية تكرِّس في الداخل كما في الخارج لانتصار الرجعية.     ‏
‏-‏/ الإمبريالية بنية عليا للرأسمالية: وقد استخدم لينين هذه الصيغة في تقرير حول برنامج الحزب ‏‏(19 آذار/مارس 1919، المجلد 29، ص166-167)، حيث يعرض لثلاث مقترحات:‏
‏-/ لا تظهر الإمبريالية بدون رأسمالية قديمة.‏
‏-/ عندما تنهار الإمبريالية تتكشف بجلاء أسسها.‏
‏-/ يجب بالتالي مراعاة رأسمالية قديمة منتشرة بصورة واسعة تحت الأرض. ‏
وكان لينين- حسب ما يلاحظ لابيكا أوضح ذلك في تطور الرأسمالية في روسيا، أو عندما يحلِّل ‏التداخل ما بين مختلف أنماط الإنتاج كإحدى مميِّزات البنية الاقتصادية لروسيا. ويأتي هنا مصطلح البنية ‏العليا ليحدِّد الطبيعة الخصوصية للإمبريالية من حيث هي أحد أشكال الرأسمالية (العنصر الاقتصادي)، ‏وأحد أشكال النشاط الطبقي للبورجوازية ( العنصر الاجتماعي)، وأحد أشكال الدولة (العنصر السياسي)، ‏والعناصر كلها متداخلة في ما بينها بصورة لا تنفصل. ‏
يُبيّن لابيكا أن أطروحات لينين بصورة عامة، وما جاء منها بوجه خاص في "الإمبريالية أعلى ‏مراحل.."، ما تزال راهنة. ويرد هنا جورج لابيكا في هذه المقدمة على أولئك الذين يعتقدون أن تجاوز ‏الرأسمالية أو الانتقال من نمط الإنتاج الرأسمالي إلى نمط إنتاج اشتراكي ضربٌ من المستحيل. ويُوضِّح ‏أن هذا العمل ما يزال عملا راهنا بصورة قوية طالما يُعنى بشاغل يحتل حيزا مركزيا في اهتمامات ‏العصر، ألا وهو العولمة. هذه العولمة ليست أمرا آخر حسب ما يكتب لابيكا غير الإمبريالية الجديدة التي ‏كان يتحدَّث عنها لينين وقد بلغت مستوى أعلى من التطوُّر. و لا يكتفي لابيكا من أجل التدليل بـأن ‏أطروحات لينين وتحليله لها ما تزال راهنة إذا ما وُضِعَت على محك وقائع المرحلة الراهنة، بل وأنه يضع ‏الإمبريالية من حيث هي إحدى المكونات المادية للتاريخ على رأس مجموعة من التكوينات التاريخية، ‏كالرأسمالية، والاستغلال، والملكية، وصراع الطبقات، والديمقراطية الاجتماعية، والانتقال الثوري.  ويبيِّن ‏أن "الخطوط البارزة" للإمبريالية كما استخلصها لينين في ضوء معطيات عصره ما تزال أكثرية منها  ‏تحتفظ بقيمتها كاملة، بل وأن بعضاً منها ما يزال حاضرا أكثر من أي وقت مضى. ومنها على سبيل المثال ‏سيطرة الرأسمال المالي أو "مبدأ الفساد" الذي يَنحَل كالعفن بعد مرور القرن في كافة دواليب القيادة في ‏المجتمع، ويَظهر من حيث هو أحد مميزات العولمة الليبرالية. ‏
ويرى لابيكا، في هذا المعرض، أن مصطلح الإمبريالية أصدق من العولمة الليبرالية، وأقرب منها ‏إلى الواقع، من حيث هو تسمية أصوب لها، لأنه يحيط ليس بنظامها المالي فقط وهو يحاول أن يضع ‏ضوابط لها، وإنما يمتد ويتسع ليشمل علاوة على ذلك ما تحمله العولمة من تحوُّلات جوهرية في ‏تشكيلتها. فالإمبريالية لم تحتفظ فقط بخطوطها العريضة التي كانت سائدة في القرن الماضي، وإنما تشهد ‏بروزا أقوى لهذه الخطوط تحت تأثير ثلاث ظواهر: سيطرة رأس المال المالي المضارب، والثورات ‏التكنولوجية وبوجه خاص في مجال المعلوماتية والاتصالات، وانهيار ما كان يسمى البلدان الاشتراكية. ‏وقد أدى تدفق رؤوس الأموال إلى اندماج مُنَظَّم يسمح للاحتكارات أن تَعْتَبَر العالم حقلا واحدا وشاملا في ‏خدمة مصالحها، ويضع العالم بمساعدة المنظمات الدولية المختصة، من البنك الدولي إلى منظمة التجارة ‏العالمية مرورا بصندوق النقد الدولي، والتي تُشكِّل حكومة كونية، تحت رقابتها. ولما كانت الكتل ‏المتصارعة معدومة في هذا السياق، فإن قوة عظمى واحدة هي الولايات المتحدة الأمريكية وَجَدَت ‏فسحة أمامها لتفرض نفسها ولتمارس هيمنتها على العالم في جميع المجالات. والولايات المتحدة تَشْغَل ‏اليوم المكان الذي كانت بريطانيا تشغله في مطلع القرن الماضي. ولم يغب عن لينين – حسب ما يلاحظ ‏لابيكا - هذا الانتقال للسلطة العالمية. فقد أدرك لينين في العام 1915 أن الولايات المتحدة هي بلد الطليعة ‏الرأسمالية المعاصرة...وتشكل من حيث عدد من العلاقات، نموذجا مثاليا لحضارتنا البورجوازية ‏‏(الرأسمالية والزراعة في الولايات المتحدة الأمريكية، المجلد 22 من الأعمال الكاملة بالفرنسية، ص ‏‏13). ‏
ويتقصى لابيكا في مقدمته للينين ما يرافق الإمبريالية الجديدة من ظواهر على صعيد النظامين ‏السياسي والإيديولوجي. فعلى الصعيد السياسي تظهر ثلاثة عناصر، وهي:‏
‏-/ إن الرجعية، في ما تَشْهَد صلاحيات الدولة حالة من التقلُّص، تضع الدولة في خدمة الشركات متعددة ‏الجنسيات (الخصخصة، وتخفيف الأعباء الضرائبية ونفقات التأمينات الاجتماعية، إلخ)، وتتخلَّى في الوقت ‏نفسه عن السيادة الضرورية أو عقلية المنافسة الضرورية للتمركز الاقتصادي، كما تتخلى عن السيادة ‏السياسية كما هو حال الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ويرافق ذلك كله، تدمير الخدمات ‏العامة، وتفكيك لحقوق العمل، ومحو الاستقلال الذاتي للثقافات.‏
‏-/ التحاق أحزاب الاشتراكية الديمقراطية، والأحزاب الشيوعية التي لحقت بالأولى، في إدارة الرأسمالية ‏وأزماتها بدلا عنها. ‏
‏-/ الهزيمة التي لحقت بالحركة الثورية تحت تأثير العولمة وانهيار "المعسكر الاشتراكي". ‏
وتَظهر على الصعيد الإيديولوجي الظواهر التالية: ‏
‏-/ تأخذ الديمقراطية بعدا واحدا وضيقا من حيث هي نموذجٌ يحتذى به لبلدان أوروبا الشرقية بوجه خاص. ‏إنها هي ديمقراطية السوق، وذلك في ما يسود خطاب القانون والحقوق بجميع أشكاله، من "دولة ‏القانون"، إلى "حقوق الإنسان"، إلى القانون الدولي"، بالإضافة إلى "حق التدخُّل" الذي لا هدف له ‏سوى ترسيخ قاعدة الخيار الوحيد الذي لا خيار سواه. هذه القاعدة هي بمثابة ملكة جمال التاتشيرية ‏والانقياد الجبري للنيوليبرالية، على حد قول لابيكا. والوجه الآخر السيء لهذه العملة يتجلَّى عبر الانغلاق ‏الديني والقوماني، والابتعاد عن السياسة، والتماهي بالجماعة، وذلك في ما يتَّسع ويتعمَّق التفاوت ‏الطبقي. ويذكِّر لابيكا في هذا المعرض أن النظرية القائلة بأن من الممكن الاختيار ما بين الأخذ ب/ ‏‏"العولمة السعيدة" التي تضمن النمو، واحترام التمايزات، والترقي الاجتماعي، وحرية التنقل عبر ‏‏"القرية العالمية"، كما انتشار نظام المعلوماتية، أو نبذ العولمة الوحشية، ما هي إلا محاولة إيديولوجية ‏يراد منها أن  يُدفن الوعي في عالم موهوم. ‏
                 إن العولمة تكشف بأنظاره عن الوجه الجديد للإمبريالية، وهذه الأخيرة هي التي تُوَصِّف تكوينات  ‏الواقع الراهن بصورة أفضل من تعبير العولمة نفسه. إن وقائع الحدث الراهن تفيد بأن سقوط الاتحاد ‏السوفياتي يتوافق مع الصعود السريع للولايات المتحدة الأمريكية من حيث هي أول وأقوى قوة في ‏العالم. وتقوم إستراتيجيتها إذا ما تحدَّثنا بلغة الإمبراطوريات، على أسس من تحاشي الصدام مع الحلفاء، ‏وتربية الرعية على الانقياد، والحيلولة دون أن يشيِّد "البرابرة" أحلافا هجومية ضد الإمبراطورية، ‏ومقاربة القوى العظمى الناشئة مقاربة تحول دون أن تهدِّد هذه القوى الناشئة هيمنة الولايات المتحدة، ‏وتوسيع أوروبا والحلف الأطلسي بحيث يَخدم هذا التوسيع على المدى البعيد السياسة الأمريكية. والحال، ‏إن مصطلح العولمة ما هو إلا التعبير الأسطوري الذي يُخفي الإمبريالية، حسب ما يردِّد لابيكا نقلا عن ‏برنارد جيربيه،  والتفاوت غير العادل لتوزيع رأس المال على صعيد الكوكب.  والنيوليبرالية لا تدلِّل على ‏اكتساب الرأسمالية الحرة والتنافسية التي كانت سائدة في القرن الماضي لحيوية جديدة، وإنما تشير في ‏المقام الأول إلى النظرية التي تمنح الشرعية لما يسمَّى بالإمبريالية. ‏
وأمام مفترق الطرق الذي كان يقف أمامه البلاشفة في المرحلة الأخيرة من حياة لينين ما بين ‏نجاح الثورة الاشتراكية وفشلها، يتساءل جورج لابيكا عن العلاقة ما بين الإمبريالية والانتقال الاشتراكي ‏حسب ما يعرض له لينين. "أليس هذا الانتقال – على حد قول لابيكا - هو نفسه المَوِضِع الذي يُبْطِل ‏النظرية برمتها؟، لاسيما وأننا نعلم علم اليقين أن المسار الثوري الذي كان بدأ في العام 1917 لم يفِ ‏بوعوده، بل وأنه انهار مع انهيار النظام السوفياتي في العام 1989، وذلك فيما ينجح النظام الرأسمالي ‏كما يزعمون في تجاوز أزماته ليستمر على قيد الحياة". يجيب لابيكا على السؤال بالعودة إلى العولمة. ‏فيذكِّر بأنها مسار قيد الإنجاز، ولم ينته بعد، ومن الصعوبة بمكان أن نتنبأ بمستقبله. إلا أنه يلاحظ ‏بالمقابل  أن هذا المسار متناقض تحت تأثير المفاجآت، وتحرِّكه يد خفية تفعل ما يحلو لها، من الأزمة ‏المكسيكية إلى الأزمة الآسيوية إلى إفلاس ناسداك (الجمعية الوطنية الأمريكية لوكلاء البورصة). هذا ‏المسار للعولمة (لابيكا كما هو معلوم حرَّر هذه المقدمة في العام ألفين، أي قبل نشوب الأزمة الاقتصادية ‏والمالية في النصف الثاني من العام 2008 بنحو ثمان سنوات) متناقض أيضا تحت تأثير الخصومات ما ‏بين البلدان العظمى الناشئة، الهند والبرازيل والصين، وما يمكن أن تؤول إليه هذه الخصومات في ‏المستقبلر (اجع في ما يتعلق بالتناقضات المزروعة كالألغام في النظام النيوليبرالي والتي تَحُوُل دون أن ‏يُنجز أهدافه: سوزان جورج، تقرير لوغانو ‏Susan Georges, Le rapport Lugano, trad. ‎Fr., Fayard, Paris, 2000‎‏).  وهو أمر لم يخف على المستشار برزينسكي نفسه، والذي يعترف بأن ‏سيادة الأمة لا تستمر أكثر من جيل واحد، وأن من غير المستبعد أن يكون وضعا ثوريا قد بدأ يتكوَّن ‏‏(المرجع السابق، ص250-251).‏
ويجيب أيضا لابيكا على هذه التساؤلات حول مصداقية العلاقة ما بين الإمبريالية والانتقال ‏الاشتراكي بإدراج الأجوبة التي تفنِّد العلاقة أو تؤيِّدها في السياق التاريخي لكل منها. فإذا كان لينين يؤكِّد ‏أن البوادر الأولية للنظام الاشتراكي تَظهَر تحت سقف الإمبريالية التي تزيد من سرعة هذه البوادر ‏بالمقارنة مع الرأسمالية القديمة والتنافس ما بين الإنتاج المتوسط والإنتاج الصغير، وإذا كان يَنتظر ‏ظهور البوادر الأولية للثورة الاشتراكية تحت تأثير حالات من النضال القاسي من جراء النزاع العالمي - ‏ولينين هنا يردِّد أصداء "البيان الشيوعي" الذي يُسجِّل لثورة مستمرة في علاقات الإنتاج تحت تأثير ‏الرأسمالية. ولا تعدم هذه النظرة من رؤية غائية للتقدم – فإن هذا التحليل لا يعود إلى طبعه المتفائل، ‏وإنما يرجع إلى الظروف التي كانت سائدة والتي عاشها، أو إلى الوضع الملموس الذي كان هو فيه. كان ‏لينين ما يزال يحمل بعض أفكار عصر التنوير، وهو وريث قرن من الدماء والدمار والمذابح، فلم ير في ‏ذلك كله سوى البوادر الأولية لما نجرؤ على تسميته ب"المعاصرة". وإن هذه الدماء والمذابح، وهذا ‏الدمار الذي كان يحمل لينين على التفاؤل، هو نفسه الذي يَحمل اليوم على التشاؤم والنكوص عن الثورة ‏بدعوى أن الثورة تمخضت عن أنظمة مستبدَّة وآلت إلى الفشل والانهيار.  فالنكوص عن الثورة يندرج ‏بدوره في سياق تاريخي. إنه انعكاس لإمبريالية اليأس التي تسمَّى عولمة، طالما يصبح الوعي الواضح ‏مُصادرا من قِبَل السلبية القوية التي تلازم العولمة أو الإمبريالية الجديدة. إن التشخيص اللينيني يحتفظ ‏على هذا النحو بصلاته الوثيقة بالواقع، بما في ذلك ما كان منها يتعلق بالنظام البديل عن الرأسمالية، على ‏حد قول لابيكا. ‏
ليس النكوص عن الثورة والتشكيك بالعلاقة القائمة ما بين الإمبريالية والانتقال إلى الاشتراكية، ‏وما يرافقها من تشاؤم، بأنظار لابيكا، وليد الشيوعيين والحالات من الشيوعية التي مرت بالقرن العشرين ‏كما يزعم المضلِّلون. إن ما يعتري الحركة الشاملة لتقويض النظام الرأسمالي العالمي من وهن يعود أولا ‏وبصورة جوهرية إلى الإمبريالية وحدها وما يرافقها في عهد العولمة من حالة يأس من الثورة. العولمة ‏التي تدمِّر الأحزاب والنقابات والتشكيلات السياسية. إلا أن هذا اليأس يعود أيضا إلى حقيقة واقعة مؤداها ‏أن الرأسمالية من حيث طبيعتها ما تزال هي نفسها منذ كتابة رأس المال، وحتى غاية تاريخ من الكوارث ‏الإمبريالية التي ما انفكّت تتوالى حاملة معها انقلابات هامة في أنماط رؤيتنا للعالم، ودلائل قوية على ما ‏يصاحب هذه الكوارث والانقلابات من أضرار. إن الرأسمالية هذه تحمل معها سيولا من الأضرار، حتى بات ‏من الضروري والحيوي تغيير هذا العالم. ‏
ويتساءل لابيكا في ختام هذه المقدمة حول ما إذا كانت العولمة التي يحلم بها كل أممي هي التي ‏سَتَخرج رابحة إذا ما رَسَمت برنامجا لتغيير العالم؟ إن الجواب يأتينا من روزا لوكسمبورغ التي تعرِّي ‏الإمبريالية من أسرارها وتنزع عنها كل الألغاز العالقة بها: إن الرأسمالية عاجزة عن إنجاز العولمة، ذلك ‏أن تناقضاتها الداخلية ستلتهمها قبل أن تبلغ إليها. إن الاشتراكية وحدها قادرة على البلوغ إليها. ‏
إن الثورات التي اجتازت القرن العشرين لم تُوَفَّق كما كانت تريد في بناء المجتمع والدولة على ‏مسار شيوعي، إن لم تكن شوَّهت الثورة والشيوعية، لتنتهي إلى حبسها في عالم الرغبات المحظورة. لذا ‏ترى لابيكا يُنهي مقدِّمته للينين بالرجوع إلى روزا لوكسمبورغ صاحبة النظرية والممارسة الثورية، ‏والتي قُتِلت بأيدي الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان، والتي كانت وقفت بنفسها في العام 1918 عبر ‏مؤلَّفها "الثورة الروسية" على ما يجتاز الدولة البلشفية من عوائق منذ اليوم الأول لتأسيسها. إنها ‏تَستنتج من المعطيات أن هذه الدولة هي في الواقع "حكومة تكتُل، ونظام ديكتاتوري، وهو ليس بوجه ‏اليقين نظام ديكتاتورية البروليتاريا، وإنما ديكتاتورية قبضة من السياسيين، أي أنها ديكتاتورية بالمعنى ‏البورجوازي، بما تحمله الهيمنة بالمفهوم الجاكوبيني من معنى. ‏
إن لابيكا في مقدمته يدعونا إلى اكتشاف ما وراء التحولات الإمبريالية للرأسمالية ديمومة نظام ما ‏يزال بصورة أساسية ومن حيث طبيعته هو نفسه. ولابيكا هنا يُدرِج ضرورة تغيير العالم ضمن المهام ‏الفورية العاجلة بعدما أصبح العالم تحت تأثير الإمبريالية أو العولمة غير قابل للعيش. فالإمبريالية كانت ‏وما تزال أعلى مراحل الرأسمالية، وتحمل معها الشروط الموضوعية لتكوُّن مرحلة الانتقال إلى ‏الاشتراكية تحت سقف الإمبريالية. وكانت مقدمة لابيكا للطبعة الجديدة لهذا العمل للينين والتي صدرت في ‏العام 2001 ضرورية للتنبيه بأن العولمة في مطلع القرن الواحد والعشرين ما هي - حسب ما يَكتب ‏لابيكا - إلا الإمبريالية الجديدة في وجهها الأكثر رجعية . ‏
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز


.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز




.. يوم الأرض بين الاحتفال بالإنجازات ومخاوف تغير المناخ


.. في يوم الأرض.. ما المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي على ا




.. الجزائر: هل ستنضمّ جبهة البوليساريو للتكتل المغاربي الجديد؟