الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديمقراطية والثورة

حسان خالد شاتيلا

2016 / 6 / 11
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


الـمــلحـــق الــثامـن
‏ ‎‏ الـد يـمــقـراطـــية والــثـــورة

جورج لابيكا، الديمقراطية والثورة، باريس، لوتان دي سوريز (زمن الكرز)، ‏
Georges Labica, Démocratie et Révolution, Paris, Le Temps des cerises, 2003‎
أولا: مقدمة: الديمقراطية الثورية، والإيديولوجية من هي كلب الحراسة
‏1-‏ هذا العمل إسهام نظري ونضالي من أجل بناء بديل متحرِّر من الرأسمالية والإيديولوجية الليبرالية ‏التي تفرض نفسها بإكراه متعدِّد الأشكال، الظاهر منها والخفي،‎ ‎على العالم أجمع. وينطلق‎ ‎جورج لابيكا في ‏‏"الديمقراطية والثورة" من‏‎ ‎الديمقراطية بوصفها القاسم المشترك الأعظم الذي يَجمَع ما بين كل الحركات التي ‏تقاوم النظام العالمي الجديد، ليرسم الخط الأحمر الذي سوف يحفر حدود القطيعة في المستقبل مع النظام ‏الرأسمالي. هذه الديمقراطية كقاسم مشترك أعظم ما بين الحركات المقاومة لليبرالية الجديدة، "ليست، كما يقول ‏لابيكا في المقدمة، "الديمقراطية المُسْتَنفَدَة، الواهية، والمريضة، والتي نلقاها مجسَّدَة في الديمقراطية الغربية.". ‏وإنما "الديمقراطية الاجتماعية"...التي تعبِّر عن إرادة كل رجل مسؤول عن مصيره الفردي والجماعي، والذي يَرفض ‏قدرية التنافس والربح، وزيفهما. وها هنا، تستطيع الماركسية انطلاقا من هذه النقطة، وبعدما تتحرَّر مما يُثْقِل ‏عليها الحمل، أن تأتي بالدليل، وهو نظري ونضالي بصورة مترابطة لا انفصال فيها، بأن هذه الديمقراطية خلاَّقة، ولنقل بدون وجل أنها ثورية".‏
هذا العمل يتعقَّب الإيديولوجية المختبئة التي تموِّه عن المجتمع واقعة مؤدَّاها أنها هي المسيطِرَة، وهي التي تدمِّر المفاهيم بدءً من ‏مفهوم الحرية، ناشرة مفردات جديدة تحمل معها خطاب رجال الأعمال، ولا توفِّر جهدا من أجل إرجاع كل شيء إلى الفرد، ‏ومحو كل أثر للنزاع المجتمعي والسيطرة الطبقية للبورجوازية. وفي تعقُّبه هذا لأثر الإيديولوجية يُفكِّك المؤلِّف تحت عنوان ‏فصل في "التوافقات" العبارات اليومية المعتادة، من عبارة "هذا واضح"، إلى عبارة "قليلا"، ليبيِّن إلى أي مدى فَرَّغت ‏الإيديولوجية الفكر من القدرة على الفعل، دون أن يترك جورج لابيكا لهذه اللصوصية الإيديولوجية التي تجعل من المواطن ‏‏"كلب حراسة"، لايترك لها أية فرصة للإفلات. ‏

‏2-‏ ثانيا: ينقسم هذا العمل إلى ثلاثة أبواب تَحمِل على التوالي العناوين التالية: "الكلمات"، ثم "المفاهيم"، ‏ف"الأشياء": وفي الباب الأول يفكِّك لابيكا المفردات الشائعة في اللغة السياسية، حيث يضع يده على المزالق ‏والفِخاخ المنصوبة لنا في اللغة السياسية الراهنة ومفرداتها الدارجة، وهي من إنتاج الإيديولوجية، وتَعمل من أجل ‏الإيقاع بنا وتحويلنا إلى "كلاب حراسة لها". وفي الباب الثاني يعود المؤلِّف إلى عدد من المفاهيم الأساسية في ‏الماركسية، كالحقوق، والمساواة، والعنف. والباب الأخير يحتوي على تحليل ملموس للوضع الراهن، الفرنسي ‏والدولي، كما يتعقب عددا من المسارات التي تقود إلى التفكير ببديل ثوري ممكن للرأسمالية المعولمة. وفي هذا ‏الباب من "الديمقراطية والثورة" فصل يحمل العنوان التالي: "في إعادة التوهج لمفهوم الثورة". ويكون ذلك ‏برفض الوفاق والتدابير الإصلاحية كأفق وحيد ممكن، والعمل كي تستعيد السياسة علاقتها بالواقع، بعدما تحولت ‏إلى خطاب لرجال الأعمال، فتضع السياسة النضال كجواب ضروري على حالات القمع والسيطرة التي انتشرت ‏واتسعت، وتعيد الحياة للتطلعات والأهداف الثورية. ‏
ثانيا: العنف الثوري هو الجواب الوحيد لدحر ديمقراطية السوق
يَستَنتِج لابيكا من وقائع المعركة ضد النظام العالمي الجديد، وما يرافقها من حالات للنضال متجدِّدة من أجل تغيير ‏جذري للعالم، محصِّلَة نظرية ونضالية على حد سواء. إنه، إذ يُعْمِل النقد الماركسي في ثلاثة أبواب، هي "الكلمات" و" ‏المفاهيم"، و"الأشياء"، فلينته من معاينته النقدية لعالمنا الراهن إلى نتيجة رئيسة، وهي: "إن الديمقراطية والثورة ‏مترابطان في رباط وثيق لا ينفصم. فالديمقراطية من أجل الثورة، والثورة من أجل الديمقراطية. هذا هو البرنامج لاستعادة ‏السياسة من رجال الإعمال والإيديولوجية السائدة، وكي يَسترجع الشعب سيادته في مجالسه النيابية، وفي صلاته مع ‏ممثليه. برنامج الصراع الطبقي المعادي لليبرالية والإمبريالية، حيث العنف المُسَيْطر والذي بلغ حالات قصوى من التطرف، ‏يستدعي العنف الثوري للمُسَيطَر عليهم من حيث أنه الجواب الملائم الوحيد".‏
ويدافع جورج لابيكا في كتابه "الديمقراطية والثورة" عن ماركسية راهنة أو حاضرة، وهي في قيد التحرٌّر مما ‏علق بها من انحرافات وفشل. وهذا العمل يسير في الاتجاه المعاكس للنيوليبرالية التي تريد أن تقدِّس ديمقراطية السوق. ذلك ‏أن الماركسية الراهنة تعود لتضع الديمقراطية بوصفها حركة وثيقة الصلة بالصراع الطبقي،‎ ‎وفي صف واحد مع الثورة لا ‏تنفصل عنها، بل وإنها ترتبط بها ارتباطا جدليا، لأن "الديمقراطية تمثِّل الطريق إلى الثورة، وسيلتها وغايتها (ص ‏‏158). ‏
إن حيازة الماركسية في وقتنا الراهن ليس أمرا ميسورا، لأن ذلك يستدعي:
4 - رابعا: الممارسة من حيث هي مصدر المعرفة
إزاحة ما علق بها من انحرافات وتشويهات، ومنها فكرة "النظرية"‏‎ ‎بالمعنى المدرسي للكلمة. وتأتي هذه الصعوبة ‏من التنافر ما بين الماركسية والنظرية طالما أن الممارسة، وما تحمله الممارسة من وعي، تَشْغَل حيزا أساسيا في المعرفة ‏والثورة. أي أن الماركسية، من حيث هي تزيح المعرفة من حيِّزها العقلاني المثالي إلى حيِّز الفعل، والممارسة، والتاريخ ‏المتجدِّد، هذا الحيِّز الذي يولِّد المعرفة، فإنها أوسع من النظرية طالما أن الممارسة شأنها شأن التاريخ المتجدِّد تغنى وتجدِّد ‏الوعي والعمل نفسه. لذا، فإن جورج لابيكا يَقترح في أعماله مصطلح "العملية النظرية" عندما يتحدث عن لينين ‏operateur théorique، وهي التي توجِّه عمل لينين، وترافق مقارباته للسياسة الإيديولوجية، وهي التي تحتل الحيز ‏المركزي في الماركسية، لأنها نِتاج الصراع الطبقي، والنزاع ما بين البورجوازية والبرولتيارية، تتبلور بصورة مستديمة ‏وتتطور وفق هذا الصراع المتجدِّد. هذا هو مفهوم العملية النظرية إذا ما أردنا أن نُخلِّص الماركسية مما يُثْقِلها من أنظمة ‏ومذهبية تحت تأثير شتى أنواع الانحرافات المنطقية، والفلسفية، والاقتصادية، والمنهجية، والمادية الميكانيكية، ونَخرج ‏بها من عالم النظرية الذي كان يكبِّلها في سجن مذهبي، لنضعها في حيز التاريخ والممارسة والصراع الطبقي الحي ‏والملموس. وهو الأمر الذي يزيح جانبا عن الماركسية كل القوالب المسبقة ذات الصلة بالمعرفة الكلاسيكية، من فلسفة واقتصاد واجتماع، وغير هذه وتلك من العلوم والمعارف. ‏
وما يزيد من هذه الصعوبة تعقيدا أن القرن العشرين شهد نهاية الاتحاد السوفياتي والحركة الشيوعية الأممية حسب ما عرفناهما. والصعوبة هنا متأتية ‏من أن الماركسية، إذ هي لا تقتصر على تفنيد المجتمع الرأسمالي والآليات التي تمنحه الشرعية القانونية، وتعمل أيضا على ‏دَحض أجهزته الإيديولوجية، بكل ما لديها من إمكانيات هائلة على الهيمنة وابتلاع حركات الاحتجاج وترويضها، فإن الوحدة ‏الجدلية ما بين الممارسة السياسية والنظرية، هذه الوحدة التي تشكل جوهر الماركسية، ملزَمة أيضا بمجابهة الصياغة ‏الرسمية للماركسية اللينينية. إنها صعوبة النضال على جبهتين اثنتين. جبهة الإيديولوجية والفكر المسيطِر، بالإضافة إلى ‏التصدي لمسخ الماركسية إلى مجرد خطاب لتبرير الدولة وأجهزتها ومنحها شرعية قانونية وإيديولوجية. هذا الخطاب الذي ‏كان نِتاج التجارب الثورية في القرن الماضي، والذي قاد هذه التجارب إلى الفشل. إن الديمقراطية والثورة يحتلان في هذه ‏العملية حيزا هاما.‏
والحال أن انهيار الاتحاد السوفياتي قاد مؤقتا المحاولات لحيازة الماركسية إلى طريق مسدود، أو أن الأرثوذكسية الماركسية ‏أغرقت معها وهي تغرق محاولات التجديد، ومختلف محاولات الإصلاح الداخلية التي انبثقت عن الشيوعية النقدية. فإذا ‏بالواقع الراهن للثورة لا يصطدم فقط بهزيمة الستالينية والاشتراكية السوفياتية، وإنما بالهزيمة التي لحقت بالثورة ‏والاشتراكية ككل. ‏
لقد سجّل سقوط الاتحاد السوفياتي وحائط برلين "نهاية كل من الدوغمائية، والأرثوذكسية والديكتاتورية المتخفِّية ‏وراء ماركس، فيما سيطر النظام الرأسمالي والإيديولوجية الليبرالية لنظام العولمة بدون منازع"، ويترتِّب على ذلك ثلاث ‏نتائج:‏
-/ نهاية الصدام ما بين رؤيتين للعالم، ونهاية عالم المعسكرين اثنين، لصالح الخضوع لما يسمى قوانين السوق.‏
-/ سيطرة "الاقتصاد ككل واحد شامل" وكأنه قدر محتوم.‏
-/ ميل السياسات على الصعيد العالمي نحو فقدان خصوصياتها، وهي في حالة من النوصان ما بين "النظام العالمي ‏الجديد الذي يتبجح بانتصاره"، و"الاستسلام لنهاية الإيديولوجية، ونهاية التاريخ، أي الدخول إلى عصر الفراغ". ‏
في هذا السياق يُسَلِّم جورج لابيكا في مؤلَّفه "الديمقراطية والثورة"، عن رضا أو كراهية، بانهيار الاشتراكية ‏السوفياتية وأرثوذوكسيتها، ويَعتَبره تحريرا للماركسية، أي تحويل الانهيار والهزيمة إلى تحرير يفسح المجال أمام إمكانية ‏جديدة. إمكانية، وإن كانت موجودة في الواقع الراهن نفسه، إلا أنها تتجاوزه نحو ما هو جديد في المستقبل. وهذه الأطروحة لا بد منها لأنها وحدها التي تتيح القطيعة مع الانسداد الذي يعلق بالهزيمة التي لحقت بالاتحاد ‏السوفياتي والاشتراكية .‏
خامسا: الحيِّز السياسي من حيث هو مصدر المعرفة
وفي القرن الواحد والعشرين، تَحُول العولمة النيوليبرالية دون بناء الاشتراكية في إقليم أو على أرض ‏واحدة. وتَفنِّد في الوقت نفسه، من الناحية النظرية، كل مزاعم شبه ماركسية تقول بصورة يقينية عمياء بـأن ‏الاشتراكية هي نتاج لنمو طبيعي للطبقة العاملة. ذلك أن التطور الذاتي لرأسمالية المضارِبة أو الرأسمالية المالية، ‏على صعيد عالمي، وبصورة مستقلة عن الرأسمالية الإنتاجية وسوق العمل أو القوى المنتجة، يُبطل النظرية ‏الاقتصادية الآلية التي تزعم بدورها، وبصورة واثقة، بأن الرأسمالية ستُصاب لا محالة بالسكتة القلبية. فإذا كان ‏كل أمل برؤية الرأسمالية وقد سقطت من تلقاء نفسها كما تسقط التفاحة منعدم، فإن تدميرها يتوقف على ‏سواعد من يبادرون إلى التخلُّص منها. ‏
إن إطلاق العنان بقوة وحيوية لهذه السواعد من أجل تدمير الرأسمالية في عهد العولمة النيوليبرالية يستدعي ‏لزوما التخلص من العقائديات التي تعوِّل على الإنتاجية، وتنكر العوامل الذاتية والمناقشات الجماعية. فإذا ما سَقَطت ‏الإنتاجية الآلية التي تقود من تلقاء نفسها إلى الثورة الاشتراكية حسب مزاعمها، فإن هذه السواعد ستتدخل وتعمل في الحقل ‏السياسي، حيث تظهر حينئذ الديمقراطية البورجوازية باعتبارها ديمقراطية السوق، وهي تتقلص إلى حق الدفاع عن حق ‏الملكية، مقابل الديمقراطية الثانية التي تعارض الطبقة المُهيمِنة. وها هنا يَظهر الحقل السياسي من حيث هو حيز للمعرفة أو ‏مصدر لها، ومن حيث هو في الوقت نفسه ميدان الصدام الإيديولوجي. وهذا الحيز السياسي، من حيث هو معرفة وصراع ‏طبقي وإيديولوجي، يزخر بالحركة الثورية التي تنبثق من قلب هذا الحيِّز السياسي. إلا أن هذا الطريق غير مرسوم سلفا. بل ‏إنه يُحْفَر يوميا عبر حيازة جديدة للسياسة التي تتجاوز المباريات الانتخابية وصناديق الاقتراع التي تَتعامل مع المواطنين ‏بوصفهم مجرد مواطنين بالتناوب، أي ناخبين يتوافدون على صناديق الاقتراع بصورة متقطعة، وفي مناسبات سياسية محدَّدَة. ‏السياسة كصراع ومصدر للمعرفة. وفي صميم هذه المعادلة التي تَجْمَع وتُركّب بصورة جدلية ما بين السياسة والمعرفة ‏تظهر الديمقراطية، ليس من حيث هي ديمقراطية السوق، أو الديمقراطية الليبرالية، وإنما من حيث هي ممارسة‎ ‎المحاسبة ‏المستديمة أو المقاضاة من قِبَل الطبقة المهيمَن عليها للطبقة السائدة المهيمِنَة. والديمقراطية من حيث هي كذلك، ومن ‏حيث الممكن على لأقل، فإنها وسيلة للثورة.‏
‏سادسا: ماركسية مَخفِيَّة ما تحت سطح الأرض
من أجل إعادة بناء الثورة يَعرض جورج لابيكا لعدد من الأدوات. إن بنية ‏عمله ترتكز على مفهوم للنظرية يعود إلى ماركسية تحت الأرض والتي تقول بأن الفلسفة لا موضوع لها، وهي لا ‏تعلِن عن القوانين الشمولية للطبيعة والتاريخ. إن العملية النظرية بالمفهوم اللينيني كما يرى لابيكا، وليس النظرية ‏الجامدة بالمفهوم المدرسي الأكاديمي، تنتمي إلى الحيز السياسي، إلى حقل الصراعات الاجتماعية. إنها وليدة الحيَّز ‏السياسي وتعمل وتتدخل ضمنه وفي إطاره. إنها، بالتالي، تَدَخُّلٌ للوعي في وضع محدَّد وملموس، في الظروف ‏الموضوعية، حيث الصراع الطبقي، والحرب ما بين البورجوازية والبروليتارية، بهدف تحريك ونقل الخطوط ‏الفاصلة ما بين موازين القوى، وتوجيه الحركات الاجتماعية، ورسم دور الحزب الجماهيري الواسع للطبقة ‏العالمة كمصدر لسياسية المعرفة، إلخ، ضمن الظروف وحدودها، وذلك من أجل صد الإيديولوجية السائدة، وفتح ‏الطريق، من جهة، أمام إمكانيات جديدة لأوضاع سياسية ومجتمعية واقتصادية وثقافية جديدة، ولخوض معركة، من ‏جهة ثانية، في ميدان الصراع الإيديولوجي. ‏
ويأتي هذا العمل للابيكا "الديمقراطية والثورة" على خلفية كتاباته السابقة، ومنها بوجه خاص "الوضع الفلسفي ‏للماركسية"، حيث يدحض لابيكا مفهوم الفلسفة الماركسية، أو الماركسية من حيث هي فلسفة، مبيِّنا أن الماركسية "مخرجٌ ‏من الفلسفة"، حسب ما جاء في "الإيديولوجية الألمانية" لماركس وإنجلز ‏Ausgang‏ . هذا المَخْرَج يجتاز الفلسفة متوجِّها ‏نحو تجاوزها، ليس من أجل تعالي الفلسفة بحيث تكون علما شموليا حسب الحلم الميتافيزيقي القديم، وإنما من أجل القطيعة ‏مع الفراغ الذي تعيش فيه. ما هو جديد في الماركسية بعدما خرجت من الفلسفة، هو أنها عملية نظرية لا صلة لها بغيرها ‏من النظريات، بما في ذلك المعنى المدرسي للنظرية. وهذه العملية النظرية هي المادية التاريخية، هذا الخليط المزيج من ‏الوعي والعمل، النظرية والممارسة، حيث يأتي إنتاج المعرفة ضمن شروط التدخل في الظروف، التي تجمع ما بين الميدان ‏السياسي والميدان الإيديولوجي، انطلاقا من وضع مرتبط بالمعركة ارتباط المعرفة بالحزب والطبقة، وليس أبدا المعرفة ‏مجردة عن الصراع المجتمعي والواقع المادي. لذا تنتقل المعرفة في ضوء أعمال ماركس وإنجلز ولينين من الحيز النظري ‏المثالي إلى حيز الحركة الاجتماعية والقوى التي تمثلِّها. وهي نتاج هذه الحركة والقوى أو الحزب الشيوعي، وليست نتاج ‏الفكر النظري. ‏
سابعاً:
والعملية النظرية في "الديمقراطية والثورة" تتدخَّل في ظرف مكوَّن من ثلاثة محاور: اللغة، والإيديولوجية ‏السائدة، والنضال السياسي. ‏
آ - في ما يتعلق باللغة من حيث هي أداة إيديولوجية:‏
‏ ليست اللغة أداة محايدة، أو حتى وسيطاً كما يقول هبرماس مُوَجَّه على صعيد متعالٍ نحو الوفاق والخلاف ما بين ‏البشر. إن اللغة في أدنى درجات وحداتها ومفاصلها هي بلورة كما يقول غرامشي للحس المشترك خلال عصر وثقافة بعينها. ‏إنها تَنْقل كثرة متناقضة وغير متلاحمة من المفاهيم عن العالم لتسمح لها بأن تأخذ مكانها في العالم وتترسَّب في كثافته ‏المادية. واللغة، في ضوء ذلك، تضم هذه المفاهيم في عالم الفعل، العالم الفاعل، وتمنحها معنى مساويا للممارسة، ويفعل ‏فعله، ومحمِّل بالنزاع والصراع. لذا، فإن اللغة من الألف إلى الياء، من أول إلى آخر كلمة في قاموس الحس المشترك، هي ‏أداة إيديولوجية. الأمر الذي يجعل منها ساحة تقع تحت احتلال النظريات السياسية. والماركسية بالتالي ليست موجودة خارج ‏الإيديولوجية. والعملية النظرية تُنتج المعارف عبر ما تفعله في ساحة اللغة المتنازع عليها، وذلك بهدف تحريك خطوط ‏القوى. وبتعبير آخر، فإن بلوغ المعرفة والممارسة السياسيتين لا يكون بصورة مباشرة، وإنما بتوسط اللغة، وعبر ‏الإيديولوجية، هذا، وإن كانت العملية النظرية تفنِّد ما علق بالظروف الموضوعية من أوهام وأساطير وحقائق مزيَّفة تحت ‏تأثير الإيديولوجية، وتدحض أيضا ما لحق أيضا بالواقع الموضوعي من صياغات لغوية الغرض منها تمتين الإيديولوجية السائدة. ‏
ولهذا السبب، فإن جورج لابيكا يشن في هذا العمل حربه ضد الكلمات. انظر على سبيل المثال كيف أن التمييز بين ‏‏"أمريكا" و"الولايات المتحدة" ليس وليد لعبة مسلِّية، شأنها شأن "ضربات جراحية"، و"أضرار جانبية"، أو "توفير ‏الحماية للأهداف". إن مثل هاته العبارات والمصطلحات تأتي عن الإيديولوجية السائدة، وهي بمثابة إعلان حرب. إن ‏الإيديولوجية السائدة نَشَرت بصورة غير محدودة مفردات "المواطن"، والكلمات الواردة من اللغة الإنجليزية، والتورية ‏التي تُحَوِّل بصورة سحرية "العامل" إلى "مدير آلة متخصِّص أو مهنة"، وعامل القمامة إلى "فني المساحات"، لتزرع ‏على هذا النحو عبادة الكلمات أو عبادة الأصنام والحجارة، وتَنزع عن الواقع حقيقته. إن مثل هذا التحويل ليس وليد الذوق أو ‏الرأي. بل وإن فضح هذه الإيديولوجية يأتي عن العملية النظرية، ويهدف إلى نشر حقيقة لا تخفى عن المناضلين في ممارساتهم ‏اليومية، طالما أنها تهاجِم أسس الهيمنة في الإيديولوجية السائدة، أي النمط المستخدَم للترويج يوميا لصورة مشوهة عن ‏العلاقات المجتمعية. ولا مجال أمام العملية النظرية وهي تغيِّر هذه العلاقات من أن تسمِّها باسمها، وتنزع عنها ما لحق بها ‏تحت تأثير هيمنة الأيديولوجية السائدة من تشويه. هذه الهيمنة اسمها الليبرالية، الاقتصادية والسياسية. ولها لغتها الخاصة ‏بها. إن وظيفتها الخاصة هذه قوامها الحيلولة، عبر مفرداتها الحاضرة في كل مكان، دون النطق بما هو حقيقي، أي الحيلولة ‏دون التعبير عن النزاع والصراع المجتمعي. وهي، على هذا النحو، تقف وراء تدمير السياسة. هذا التدمير هو – كما يقول ‏لابيكا – العلامة المميِّزة لانتصار الليبرالية. وهذا التدمير يُعْتَبَر أساسها العملي الناجع. إن الليبرالية تدمِّر السياسة لتحل ‏محلها الإدارة أو الحكم كما يقال اليوم ‏‎ gouvernance، وتدمِّر أيضا الفكر لتحل محلّه "الفكر الأُحادي"، أي انعدام ‏الفكر. وعلى هذا النحو، يعود لابيكا في باب "الكلمات"، إلى "الجماهير، الشعب، السيادة"، وما تحمله من طاقات وإمكانيات ‏قوية. إن خلع السيادة عن الشعب يعنى تسليمه إلى السوق والخبراء والربح.‏
وبالمقابل، فإن النضال ضد الهيمنة الإيديولوجية يبدأ بالنضال ضد اللغة وبها. النضال ضد بعض الكلمات التي يراد ‏منها تنحية الطبقات والعمال والشعب وإخفاء الإمبريالية. بيد أن نضال الكلمات هذا لا يقتصر على هجوم ما بين جبهتين أو ‏جبهة ضد جبهة، وإنما يتعداه إلى تحريف معنى الكلمات، والسخرية منها، وشحنها ضد نفسها. إنها أشبه ما تكون بحرب ‏شوارع متحركة الجبهات وممتدة في كل مكان. ‏
‏وتمارس العولمة النيوليبرالية، سياقها ومضمونها، دور العامل المحدِّد في مستقبل الديمقراطية. ففي عالمنا اليوم، ‏وهو موحَّد، بخلاف عالم القطبين الذي كان سائدا في عهد الحرب الباردة، لا يتَّسع المجال أمام أي حيِّز ملموس أو مركز ‏يجسد الآمال بالثورة ضد الرأسمالية. وهو الأمر الذي يملي لزوما وبالإكراه، صداما يوميا مع الإيديولوجية السائدة. وهذا ‏الصدام مع الإيديولوجية السائدة هو الذي يجعل من الثورة الشاملة أمرا راهنا. ثورة لن تنحرف في منحى بيروقراطي، لأن ‏تناقضات البورجوازية تعلِّمنا منذ الآن ما هي الديمقراطية الحقيقية. لذا، فإن لابيكا ينتقد في الفصل الأول والثاني من ‏‏"الديمقراطية والثورة"، تحت عنوان "الكلمات"، و"المفاهيم"، التعبيرات والمصطلحات ذائعة الانتشار والتي تحتاج إلى ‏تدمير أيديولوجي لها كي ما يستعيد مفهوم السيادة الشعبية معناه الكامل في سياق من علاقته بالهدف الشيوعي عبر الملكية ‏الاشتراكية لوسائل الإنتاج.‏
ب : في ما يتعلق بالأيديولوجية السائدة أو التدخل ضد القانون: ‏‎ ‎
لا يقتصر تدخُّل العملية النظرية على اللغة المألوفة التي تطغى عليها تناقضات الحس المشترك الذي يفتقر إلى ‏التجانس. إن مجال تدخلها يمتد إلى مستوى أعلى وأكثر تجريدا وتنظيما من اللغة المألوفة. هذا المجال هو القانون بوصفه ‏هو نفسه الدولة. القانون هو الذي يوحِّد ما بين الأشكال الإيديولوجية، ويسمح لها بالتواصل وتركيز أثرها وفعلها. إن هذه ‏الأشكال الإيديولوجية الأكثر تكلفا هي الإسمنت المسلَّح الذي يوفِّر التلاحم لهيمنة مجموعة بعينها، وهي من اختصاص ‏الأخصائيين. وهؤلاء هم المثقفون الذين يخدمون مجموعة بعينها. والقانون في المجتمع الرأسمالي هو الذي يُقدِّم القالب ‏الإيديولوجي. لذا كان انتقاد القانون يعني شن هجوم على أقوى الحلقات في صميم الإيديولوجية السائدة والمسيطِرة. ‏
إن انتقاد القانون بالمفهوم الماركسي لا يَقتصر على تفنيده ودحضه من حيث هو مؤسسة تمارس وظيفة التلاعب ‏بالواقع وتقليب حقائقه، وإنما مهاجمة أسسه المجبولة بالمزاعم، والتي تُبنى على أسطورة المجتمع المدني، أسطورة تزعم ‏أنه مستقل ذاتيا. كما تُبنى على أسطورة كتلة من الملكية الخاصة أو الحياة الشخصية، كتلة تزعم أن انتهاكها أمرٌ محرَّم. ‏وهو الأمر الذي يقودنا إلى الكشف عن القانون من حيث هو نفسه الدولة، وأن وظائفه وأعماله محض سياسية. وهو يخفي ‏ذلك كله بما يمنحه إياها من معنى ومضمون وشكل متشدِّد وصارم. ولما كان القانون من حيث طبيعته وثيق الصلة بالدولة، ‏وتابع للسياسة، فإنه ليس نقيضاً لانعدام المساواة فحسب، وإنما هو الأداة لتركيب هذا الظلم، وتحويل مستديم ومتجدد لانعدام ‏المساواة حسب الظروف، وبمقتضاها. إنه ليس نقيض العنف، وإنما هو المقنن له، وهو الذي يرسم حدوده وينقلها بصورة ‏مستديمة، فيضيِّقها أو يوسعها. وهو الذي يجعل من العنف تحايلا من ممارسة أجهزة الدولة وحدها تحتكره لنفسها. فإذا كان ‏ما يسمَّى دولة القانون لا يضع حدَّاً لما يأتي عن المضطّهَدين المسيطّر عليهم من عنف مضاد، فإنه يُعدِّل في أشكاله ‏وشروطه، وذلك منذ عهد يعود إلى مختلف أنواع الأنظمة الشعبية المفتقدة للعدالة، وهي فردية أحيانا وجماعية تارة أخرى، ‏حتى غاية العنف الجماهيري الذي يدلّل بما لا يقبل الشك بأن الأوضاع الثورية راهنة وحاضرة. هذا العنف الثوري متأتٍ عن ‏عنف الطبقات السائدة والمهدَّدة مصالحها، كما هو نتيجة للأجهزة القمعية التي تحتكر لنفسها حق استخدام العنف. ‏
إن العالم ما بعد الحرب الباردة يشهد حالة من العنف الشديد والواسع غير مسبوقة. ذلك أن المذابح واسعة النطاق ‏انتشرت، وامتد العنف إلى كل مكان، ليس فقط ضد الخارجين على النظام الغربي الرأسمالي، وإنما في قلب الغرب نفسه. هذه ‏الحالات أو الأنماط من العنف، إن لم تكن واقعية كما هو الحال في الضغوط والتنكيد أثناء العمل، تراها في حالة رمزية، كما ‏هو الأمر في الإعلام والدعاية التجارية. ولقد اجتاز العنف عتبة جديدة خلال السنوات القليلة الماضية عندما قرِّرت ‏الإمبريالية الأمريكية المسيطِرَة، أن تُتْبِع السياسة للحرب بدل أن تتبع الحرب للسياسة حسب صيغة كلاوسفيتس، وأن تستغل ‏إلى الرمق الأخير المعادلة إرهاب / السياسة الأمنية. ‏
‏"إن العنف والإرهاب يترجمان عما هو الأكثر أهمية في أسس زماننا، هذا العنف الذي ازدهر وترقى إلى أن أصبح ‏سوقا متينة ذات مستقبل زاهر. وإن دوامة العنف تندرج في سياق نظام علاقات الإنتاج الرأسمالية التي بَلَغَت مرحلة ‏العولمة، وهي مسجِّلة في متنه". ‏
إن استعادة الشعب للسياسة وحيازته لها لن تجد طريقها إلى الواقع إلا عبر الصراع الطبقي، بله الصراع الطبقي ‏العنيف. ومثل هذه الحيازة للسياسة عبر الصراع الطبقي تسير جنيا إلى جنب مع نقد اللغة والقانون أو الإيديولوجية التي ‏جعلت من المواطن كلب حراسة، والمواطنين كلابا لحراستها يسهرون على الوفاق الجمهوري المزعوم ويروِّجون له ‏آملين، عن وعي أو عن غير وعي، تجنب الصدام مع الطبقة المهيمِنَة. وفي هذا السياق من الصراع الإيديولوجي تنال ‏البورجوازية في ممارساتها الظالمة من الثورة، كما تنال بدورها ما تستحق من عنف من الثورة. فالبورجوازية تخفي بمكر ‏ودهاء عنف علاقات الإنتاج الرأسمالية، وتشوِّه من العنف الخام للمضطَهَدين، وهو ليس سوى رد على العنف الأول. عنف ‏الحروب الاحترازية، والتسريحات الجماعية، والتنكيد النفساني والمعنوي وغيرها من ممارسات شائعة تجتاز بصورة عابرة ‏واعتيادية المناقشات الديمقراطية للطبقة السائدة، وتَشْهَد كلها بأن المجتمع أصبح نهبا لعالم الجريمة، العالم البورجوازي ‏الإجرامي. وحيال هذا الوضع، ليس العنف إلا رد فعل للدفاع عن الحياة.‏
جـ : مسار النضال السياسي من أجل الثورة والديمقراطية. ‏
إن العنف الكامن في السيطرة الليبرالية السائدة في الوقت الراهن يحتل حيِّزا هاما في الواقع، ويُلزم العملية ‏النظرية، من حيث هي الحيِّز السياسي للوعي والعمل، بالتدخل في الواقع لتَكشُف عن مظاهر العنف وجوانب الممارسة ‏العنيفة التي ترافق العمل الإيديولوجي، في اللغة كما في مقولات الهيمنة المسيطِرَة والسائدة. واللغة من حيث هي محمَّلة ‏بشحنات سياسية، فإنها تَنقُل الأيديولوجية السائدة للطبقة المهيمِنة لتغوص في أعماق اللاشعور لمجتمعاتنا التي تتحرك تحت ‏التأثير المغناطيسي للإعلام شبه نائمة ومسيرَّة من قِبَله. إن الممارسات السلطوية التي تَنتقل كالعدوى إلى الأحزاب ‏السياسية، بالإضافة إلى التوافق السطحي أحيانا ما بين الحركات الاجتماعية والحركات السياسية، ومحاولات الأحزاب ‏والنقابات الرامية إلى السيطرة على الحركات الاجتماعية وتسييرها، تقود بدورها إلى تحويل العاملين في المجالات ‏الاجتماعية والسياسية إلى كلاب حراسة، وتكرِّس لهذه الحالة. وليس من علاج ناجع من حالة تنويم الوعي وتسييره ‏بواسطة اللغة سوى بالعودة إلى الصراع المجتمعي في تلقائيته، كثرته وتعدُّديته. ‏
ويقود الكشف عن الممارسة التي ترافق العمل الإيديولوجي للطبقة السائدة، أي ممارسة العنف، إلى الترجمة ‏السياسية لهذه الممارسة، وهي ما يأتي عن الطبقات المضطّهدَة والمسيطَر عليها من عنف مضاد. وعلى هذا النحو، فإن ‏الفكر يتحول إلى فاعل قوي وواقعي، أو كما يقول ماركس في "أطروحات فويرباخ": "الواقع أو قوة الفكر". إن الترجمة ‏السياسية للعمل الإيديولوجي وممارساته العنيفة، وإن كانت مُقنَّعة، فإنها تُخَلِّف نتائج وأثار عديدة، منها أن الخصم ما بعد ‏انهيار الاتحاد السوفياتي وفشل التجارب الثورية في القرن العشرين أصبح خصما واحدا فقط لا يوازيه، من حيث ثقل وزنه، ‏أي خصم آخر، وهو الإمبريالية النيوليبرالية التي ما انفكت تعيد ضبط نظامها الرأسمالي وأزماته، وتطلق العنان في الوقت ‏نفسه لغرائزها وشهواتها القاتلة والمدمِّرة. ‏
لكن هذا الخصم لا يعدم بالرغم من ذلك من قوة ثورية هائلة تنتصب لمواجهته، إلا أنها متنوعة، وذات أشكال ‏متعدِّدة، بل وإنها غير متجانسة، وليس من المتيسِّر التوفيق ما بينها بصورة دائمة ونهائية ما لم تتوفر جهود عظيمة من أجل ‏ذلك. هذا هو الموضوع السياسي للعملية النظرية، موضوع البحث عن أنماط وطرائق للجمع ما بين هذه القوى، ولتوفير ‏الشروط اللازمة من أجل تأسيس كتلة مهيمِنَة قادرة على انتزاع النصر. ‏
ثامنا: الديمقراطية الواسعة والشاملة
ماذا تلقى العملية النظرية وهي تتدخل في موضوعها السياسي داخل ‏نظام الهيمَنَة الليبرالية الراهنة: إن الهيمنة الليبرالية لا تخلو من خطوط ترسم تشقُّقها وما يرافقه من تحطم ‏داخلي ضمن نظامها، بالإضافة إلى تناقضات مكشوفة كما هو الحال في ما يتعلق بالعنف، والتحايل القانوني، ‏والتي تسمح كلها بصياغة سياسة مضادة للهيمنة الليبرالية. ‏
إن هذه السياسة المضادة، برأي جورج لابيكا في "الديمقراطية والثورة" هي المطالبة بالديمقراطية بصورة واسعة ‏وشاملة. ويؤكد لابيكا أن هذا المطلب هو اليوم أكثر وعيا ودراسة من أي وقت مضى. ذلك أن النيوليبرالية، وإن كانت ‏تتظاهر بأنها تحترم الديمقراطية وتنشر أشكالها، إلا أنها عدوة الديمقراطية ومدمِّرة لها، بل وأنها عدوة السياسة ومدمرة ‏لها. والعمل اليوم على تمتين النضال من أجل ترسيخ مسار الانتشار الواسع للديمقراطية، ليس مجرد نضال من أجل ‏المقاومة أمام النيوليرالية المدمِّرة للسياسة والديمقراطية، إنما هو أيضا هجومٌ مضاد، لأن توخي الفعالية لهذا النضال يُلْزِم ‏بالعمل من أجل ترسيخ الانتشار الواسع للديمقراطية. وليس من سبيل إلى مثل هذا الانتشار الواسع للديمقراطية إلا بمهاجمة ‏الملكية الخاصة، والدولة التي تضع يدها سياسيا على السلطة المجتمعية وتركزها بين يديها. لذا، فإن الديمقراطية من حيث ‏هي موضوع العملية النظرية، الديمقراطية الفعلية والمنتصرة، تستدعي لزوما شن معركة مع السلطة، وذلك على نقيض من ‏أدعياء الديمقراطية الذين لا يستغنون، بالرغم من استماتتهم المزعومة من أجل الديمقراطية، ودعواتهم إلى تشييد سلطات ‏مضادة، ومناداتهم بالتعدُّدية، عن السلطة القمعية نفسها. ‏
تاسعاً: ديمقراطية السوق، والديمقراطية الاجتماعية الثورية:
إن "الديمقراطية" السائدة، إذا ما أُخِذّت كما هي ‏بدون زيادة ولا نقصان، مرادفة للسوق، أو لديمقراطية الإنابة والتمثيل. وهي مصدر لحرمان الشعب من ممثليه ‏وسيادته. وهي ليست بالتالي ديمقراطية حقيقية. ذلك أن النواب في ديمقراطية السوق لا يمثِّلون إلا عدداً قليلا من ‏الناس قياسا بالعدد الكبير من الذين انتخبوهم. إن" المماثلة ما بين الديمقراطية والسوق والتي تَمنَح كل السلطات ‏للاقتصاد والربح إلى أقصى حد، تكرِّس السياسة لصالح رجال الأعمال، والمواطن في مثل هذه الحالة ليس سوى ‏دمية يلعب بها المضارب في سوق الأسهم. لذا، فإن وضع نهاية للاحتقان الذي يهدِّد الديمقراطية بالموت، ومن أجل ‏إنعاش المسيرة التي تقود إلى استعادة الديمقراطية، إن ذلك كله يستدعي دحض وتفنيد عالم الأعمال الذي حل محل ‏السياسة. وبتعبير آخر: إن المطلوب هو إعادة السيادة للشعب، أي تحريك الثورة".‏
وليس ثمة من حل آخر في مواجهة العنف المُمَارَس من قِبَل الرأسمالية في ميدان العمل، هذا العنف المقنَّع والذي ما ينفك ‏يشتد في قسوته وبأسه ويتَّسع مع ظهور الرأسمالية المالية، سوى الثورة. و"مفهوم الثورة هو الوحيد الذي يفتح الطريق ‏للخروج من هذا العنف"، الإمبريالي والرأسمالي. الثورة، أي ثورة؟ "الديمقراطية هي الطريق، وسيلة الثورة وغايتها". ‏هذه الديمقراطية لا تمت بصلة إلى ديمقراطية السوق الشائعة في بلدان الغرب الرأسمالية، وهي في الحقيقة ديكتاتورية، أو" ‏ثالوث اللصوص: حرية، مساواة، أخوة". وبتعبير آخر، فإن ديمقراطية السوق كما يقول لاببكا قد أَحَلَّت إدارة الأعمال محل ‏السياسة، والإيديولوجية الليبرالية - "الإيديولوجية الليبرالية هي الإيديولوجية التي تنادي بنهاية كل إيديولوجية" - قد أخذت ‏محل النقاش السياسي. وأمام هذه الأحوال من العنف وأوضاع الاستلاب الإيديولوجي، تصبح كل أشكال الرفض مشروعة، ‏سواء أخذت منحى مقاطعة الانتخابات، أم أنماط من عصيان المسيطر عليهم الذين لا يختارون العنف إلا لأنه الخيار الوحيد ‏المتاح أمامهم. ذلك أن هذا العنف، العنف الثوري، يعبِّر عن المطالبة بالديمقراطية التي أصبحت ضرورة مُلْزِمَة، ‏‏"ضرورة – كما يقول لابيكا – بلغت حالة من النضج لا مثيل لها في السابق، من حيث الدرجة العالية التي ارتقت إليها ‏بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل عقود". ويضع هنا لابيكا النقاط على الحروف: الديمقراطية لا معنى لها ما لم تمثِّل السيادة ‏الشعبية، والأمم ما تزال هي "الموقع الأمامي المقاتل". ‏
إن ساحة النضال من أجل انتشار واسع للديمقراطية تتيح المجال أمام تلاقي القوى المجتمعية التي تناضل ضد رأس ‏المال القهري، وهذه الساحة هي الشكل التنظيمي الوحيد الذي يستطيع أن يجمع ما بينها. وفي هذه الساحة أيضا يظهر العنف ‏الثوري، ليس من حيث هو عنف دفاعي فقط ضد عنف الأقليات المستغِلَّة، وإنما من حيث هو أيضا قطيعة مع الإيديولوجية ‏السائدة، الدولة وقانونها. قطيعة مشروعة تاريخيا بموجب الصراع الطبقي، وموازين القوى، وذلك عندما يحين وقت تعليق ‏القانون مُؤْذِنا بتشييد نظام جديد. هذه الديمقراطية تظهر وتنبثق إذن وقد أُعيدت صناعتها من خلال المسار النضالي لتوزيعها ‏ونشرها وتوسيعها، وذلك على نقيض المسار الليبرالي الذي يَستمد ديمقراطيته الليبرالية الضيقة والمشوَّهة من النظام ‏السياسي، مراسيمه وإجراءاته التنفيذية. إنها ديمقراطية تعبِّر عما للسياسة من قدرة على الاتساع والامتداد ‏والتجديد. ‏
ومستقبل الديمقراطية كمستقبل الثورة يتوقف على توفر شرط رئيس لا غنى عنه، وهو تلاقي أشكال متجدِّدة دوما ‏من الصراع، ونموها في ما بينها بصورة متزامنة وبالمعية، للوصول إلى التغيير. لذا كانت الديمقراطية هدف الثورة. وإن ‏طبيعتها الجدلية تُبْطِل كل مزاعم تقول بأن الديمقراطية نمط ساكن وشامل. ولابيكا يقول: "إن للثورة بداية، إلا أنها لا تعرف ‏النهاية". ‏
الديمقراطية والثورة المترابطان في عنوان هذا المؤلَّف للابيكا، لا ينفصلان بالرغم من تباينهما. تباينٌ ليس بمعنى ‏الاختلاف ما بين أمرين، وإنما من حيث هما مترابطتان لأنهما تدلِّلان على المسيرة الواحدة نفسها بنمطين اثنين، أي عير ‏الحركة التي تَنشر الديمقراطية والثورة معا. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024