الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أصل العائلة وإرادة الخلود4

محمد سرتي

2016 / 6 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أصل العائلة وإرادة الخلود (الجزء الرابع)
كيف ساهم ظهور الأسرة النووية في انحراف إرادة الخلود عن مسارها الصحيح؟ أو لنقل: كيف كان سيتحول مسار التطور البشري لو رفض آدم الأكل من الشجرة؟
بداية؛ فلنحاول فهم "إرادة الخلود" من خلال نقيضها الجدلي: وهو "القلق الوجودي تجاه الفناء". فليس صحيحاً أن هذا القلق بدأ فقط مع النياندرثال. فعملية التكاثر ذاتها تعبير صارخ عن هذا القلق. أي أن أول تمظهر بيولوجي للقلق تجاه الفناء بدأ مع ظهور أول خلية أميبا من خلال التكاثر الكمي الهائل والسريع والمتواصل. إذاً فإرادة الخلود لدى الأميبا متوجهة نحو النوع، كل خلية تحاول تخليد نفسها في النوع من خلال الانقسام والتكاثر الكمي. ثم كلما تدرجنا في سلم التطور البيولوجي نجد هذا التكاثر ينحو نحواً نوعياً qualitative على حساب الكم. وقد ضربت مثالاً في الجزء الأول بالصراع بين الذكور في مواسم الإخصاب لاختيار الأفضل، والأفضلية في عالم الحيوان غالباً تكون للقوة البدنية. وهنا أيضاً نلاحظ أن الصراع بين الذكور صراع تضحوي إيثاري غايته ليس فقط خلود النوع بل وتطويره أيضاً، أي أن الذكور يقدمون أنفسهم فداءً للنوع، من خلال عملية فرز قاسية يضحون فيها بالأضعف من أجل إنتاج جيل أكثر قوة وقدرة على البقاء، دون أن تثمر هذه التضحية عن فائدة شخصية آنية لأي منهم. كل ذلك يحصل تلقائياً دون إرادة واعية. أي أن إرادة الخلود في ما عدا الإنسان تتميز بخصائص ثلاث: الأولى أنها تعمل فقط من خلال اللاوعي. والثانية أنها شمولية؛ تهدف فقط لخلود النوع على حساب فناء الأفراد. أما الثالثة فهي أنها إرادة ذكورية بامتياز.
في الأميبا تتمظهر إرادة الخلود كإرادة للحياة، بينما تتمظهر في الحيوانات الأرقى كإرادة للقوة. ولكن منذ النياندرثال فصاعداً تبدأ إرادة الخلود تعرب عن نفسها خارج اللاوعي، لتمنح القلق الوجودي تجاه الفناء طابعاً ميتافيزيقياً، يتمظهر بداية في طقوس الدفن التي هي في الحقيقة ليست مجرد شكل من أشكال الاعتراض على الموت أو تسجيل موقف احتجاجي ضده؛ بل ربما الأكثر وضوحاً هو تعبيرها عن تقديس الجسد كشكل من اشكال تقديس الحياة المادية بشكل عام. فالأديان الأولى كانت في مجملها تحوم حول هذه العقيدة: تقديس الأرض، تقديس الماء، تقديس النار، تقديس الزرع، الحيوانات الداجنة، الخصوبة، مواسم الحصاد، الشمس، وكل ما له علاقة بالحياة الأرضية، بالبركة والتكاثر والرخاء. في المقابل كان الموت هو الخطيئة الكبرى، هو جريمة ضد الحياة، وكذلك الحال بالنسبة لكل ما من شأنه تعكير صفو الحياة أو النيل من بركتها ورخائها: كالمرض والوباء والفقر والمجاعة والجفاف والجدب والكوارث الطبيعية.....
إذاً هنالك بعد جديد لإرادة الخلود ظهر لدى الإنسان وهو البعد المكاني، أو الأرض. فبالإضافة إلى أن إرادة الخلود في الإنسان ظلت ذكورية بامتياز، وظلت أيضاً إرادة شمولية، فالمجتمع البشري الأول كان مجتمعاً شيوعياً؛ إلا أن تقديس الإنسان الأول للطبيعة إلى حد العبادة شكل نقلة نوعية لإرادة الخلود في طريق وعيها بذاتها من خلال العقل البشري. فهذا الالتصاق بالأرض، وبمكوناتها الطبيعية، يوحي بأن إرادة الخلود تسير في اتجاه تحويل هذا الكوكب إلى جنة الخلد، أي تحقيق الخلود هنا على الأرض، وليس في السماء. فتصرف الإنسان الأول مع الطبيعة/الأرض ليس بتصرف كائن عابر، أو نزيل مؤقت، بل تصرف من ينوي الإقامة إلى الأبد، تصرف من ينوي الخلود. أو ربما تصرف من يشعر بمسؤولية ذاتية تجاه بقاء النوع البشري وخلوده على هذه الأرض.
من هذا السياق يتضح مدى الانحراف الذي أحدثه ظهور الأسرة النووية في مسار هذه الإرادة. ويتضح أيضاً كم كان هذا الانحراف ذكورياً بامتياز: فبدأت إرادة الخلود لدى الذكور تنكفيء على ذاتها وتتحول عن طبيعتها الشمولية. فكان ظهور الملكية الخاصة، وتنامي الشعور بالفردية وحب التملك الذي يرجع إليه الفضل في إشعال لهيب الصراع الطبقي عبر التاريخ.
يحاول الذكر من خلال الأسرة النووية تحقيق خلوده الذاتي عن طريق النسب الأبوي. ولضمان نقاء هذا النسب يتم فرض أقسى أشكال التابو الجنسي على الأم. يفرح الأب كثيراً بمولوده الذكر دون الأنثى، فهو ينظر إلى الذكر كنسخة منه قابلة للتناسخ أبد الدهر، يخلد من خلالها اسمه وصورته. يعمل الأب على توريث ابنه كل شيء يخصه: دينه، فكره، مهنته، توجهه السياسي، حتى يضمن أن تبقى النسخة أقرب ما تكون إلى الأصل، فيبقى الأصل أقرب ما يمكن من الخلود. وفي المقابل لا نجد الأنثى تحرص على بقاء اسمها متوارثاً في أبنائها، أو بناتها.
وصف هيجل هذه الإرادة بأنها "إرادة الحرية" باعتبارها تمثلاً للعقل الكلي، أو الله، والذي هو الحرية المطلقة. ولكن هذا الوصف (الحرية) أوقع الجدل الهيجلي في مأزق تصارع الحريات الفردية، والذي حاول هيجل معالجته عن طريق "الدولة" باعتبارها التمثل الموضوعي للعقل الكلي، وبالتالي فإن استلاب الحرية الفردية من قبل الدولة يعتبر –بالنسبة لهيجل- أمراً مبرراً. ولكن هذه المعالجة لم تعجب، أو ربما لم تقنع ماركس الذي حاول تصحيح هذا الخطأ الجدلي بتحويله إلى "صراع طبقات". ولربما جاءت "إرادة القوة" النيتشوية في ذات السياق التصحيحي، لتقدم جدلية من نوع آخر، فهي قوة ليست موجهة ضد الغير، أو ضد الآخر، بقدر ما هي ضد الذات بغرض تجاوزها إلى ما وراء الشعور بالفردية، ما وراء الخير والشر.
إن نقطة الضعف الرئيسة في جميع الجدليات السابقة هي نظرتها السلبية لطبيعة الإنسان، فكلها تجمع على أن الإنسان كائن شرير وأناني بالفطرة. وهو مأزق السوسيولوجيا أيضاً، التي لم تتمكن حتى الآن من تقديم تفسير منطقي لبقاء المجتمع متماسكاً لزعمها بالقطيعة التكوينية بين الفعل الاجتماعي والبنية الاجتماعية، والتي ترجع في الأساس –حسب زعمهم- لأنانية الإنسان التكوينية، أي الفطرية.
إن إرادة الخلود لدى الإنسان هي أكثر رقياً وتطوراً بكثير، مقارنة بها لدى الحيوان. وإذا كانت إرادة الخلود في الحيوان هي إرادة شمولية تضحوية إيثارية، فكيف بها لدى الإنسان؟
إن الإنسان في أصالته كائن تضحوي إيثاري إجتماعي ومسئول، كائن محب ومسالم بالفطرة، لولا ذلك الانحراف السطحي الذي طرأ على فطرته السليمة بعد تبنيه لنظام الأسرة النووية، وما استتبعه من شعور بالفردية وحب التملك، الذي أنشأ بدوره نظام الطبقية الاجتماعية القائم على الملكية الخاصة بالدرجة الأولى. وما صراع الطبقات سوى إحدى تمظهرات القلق الوجودي لدى الإنسان ليس تجاه الفناء الفردي؛ بل فناء النوع. إن ذكر الإنسان، بطبعه، أكثر حرصاً على بقاء نوعه من ذكر الحيوان. فإرادة الخلود لدى الإنسان اكتسبت قوة إضافية هائلة من خلال تمظهرها في الوعي، وإدراكها لذاتها في العقل البشري، لتتحول إلى قوة ذكية وخلاقة من جهة، وأخلاقية من جهة أخرى. فجميع القيم الأخلاقية لدى الإنسان، والتي توصف عادة بأنها فطرية، تتمحور حول مبدأ الفداء والتضحية من أجل الآخر، ويدخل في ذلك تقديس الإنسان للمعرفة، وبحثه الدائم عن الحقيقة، كتعبير فينومينولوجي عن أنبل شعور تضحوي على الإطلاق وهو إرادة تحقيق الكمال للنوع، ليس فقط إرادة الخلود للكائن البشري، بل الدفع به نحو تحقيق الكمال المطلق.
عندما نفهم الجدلية من منظور إرادة الخلود، خصوصاً لدى الذكور، يتكشف لنا سر التماسك الاعجازي بين الفعل والبنية الاجتماعيتين بشكل واضح. فالذكر مدفوع فطرياً بمسئوليته نحو بقاء النوع وصيرورته نحو الكمال، وفي نفس الوقت يتعرض لدفع مضاد يستلبه نحو الفردية. وفي كل اتجاه من الاتجاهين تتمظهر إرادة الخلود بطريقة مختلفة عن الاتجاه الآخر: ففي الاستلاب الفردي تتمظهر بأوضح تجلياتها في فعل "التابو الجنسي" كرمزية للخلود الفردي عن طريق حفظ النسب الأبوي وما يستتبعه من "ملكية خاصة"، أما في إتجاه حفظ البنية الاجتماعية فتتمظهر إرادة الخلود، بأوضح تجلياتها أيضاً، من خلال الانخراط السياسي، والذي هو في الحقيقة عمل تضحوي فدائي، أو لنقل: نشاط اجتماعي خيري يهدف لإبقاء المجتمع متماسكاً، آمناً، مزدهراً، ومندفعاً نحو الكمال، وهو أيضاً (الانخراط السياسي) عمل ذكوري بالدرجة الأولى.
إن استجابة الذكور –عادة- لأي خلل يحصل في البنية الاجتماعية هي استجابة فطرية عفوية لإرادة خلود النوع. وعلى قدر شدة الخلل وتهديده لبقاء البنية وتماسكها تتحدد شدة الاستجابة، والتي قد تصل إلى إنشاء صراع طبقي يؤدي إما إلى تصحيح الخلل وإما إلى تفكك البنية واستبدالها بأخرى تكون أكثر قدرة على حفظ النوع من جهة والدفع به نحو الكمال من جهة أخرى. وهنا لن يتوقف هذا الصراع طالما بقيت هذه الجدلية قائمة: الملكية الخاصة مقابل المصلحة العامة. أو بصياغة أخرى: الخلود الفردي مقابل خلود النوع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مؤتمر باريس حول السودان: ماكرون يعلن تعهد المانحين بتوفير مس


.. آلاف المستوطنين يعتدون على قرى فلسطينية في محافظتي رام الله




.. مطالبات بوقف إطلاق النار بغزة في منتدى الشباب الأوروبي


.. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي: هجوم إيران خلق فرص تعاون جديدة




.. وزارة الصحة في غزة: ارتفاع عدد الضحايا في قطاع غزة إلى 33757