الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السخرية في النقد الديني

وجدي وهبه

2016 / 6 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لو حضرتك مؤمن البرنامج ده ممكن يكفرك
لو حضرتك صايم البرنامج ده ممكن يفطرك
ولو متحبش التفكير البرنامج ده أكيد هيفكرك
الزعل ممنوع واللي بيزعل يقوم
وتعويرة في الوش مفيهاش معلش
ورمضان كريم!
(مقدمة برنامج آية وتعليق)

بحكم دراستي وكذلك اهتمامي الشخصي، أتابع مؤخرًا برنامج "أية وتعليق" الذي يقدمه الكاتب اللاديني حامد عبد الصمد والإذاعي المتحول من الإسلام إلى المسيحية الأخ رشيد على موقع اليوتيوب الإلكتروني. البرنامج لا يزيد وقت حلقته عن 10 دقائق، وهو يتبع منهج التعليق على آيات قرآنية ونصوص إسلامية والسعي لإظهار الإشكاليات الفكرية والأخلاقية والعقائدية في هذه النصوص التي يقدسها المسلمون.
الحقيقة أن الكثير من المحتوى الذي يُقدَم في هذا البرنامج أصبح معلومًا لكل من يداوم على متابعة البرامج والكتابات التي تنقد الإسلام. لكن أكثر ما جذب انتباهي هو الأسلوب الساخر الذي يمثل السمة الرئيسية لهذا البرنامج. هناك الكثير من عبارات السخرية من أمور كانت حتى وقت قريب من المحرمات التي لا يمكن مناقشتها فما بالك بالسخرية منها. على سبيل المثال، في الحلقة 14 يقول حامد عبد الصمد إن محمد لأجل إثبات نبوته كان عليه بالأحرى أن يصور مشهد الإسراء أو يقوم بهذه المعجزة أمام الناس لا في الخفاء، ليقول للناس "شفتوني وأنا طاير". ثم يلي ذلك مباشرة لقطة لعادل إمام من مسرحية "مدرسة المشاغبين" وهو يقول "شفتوني وأنا ميت. أجنن وأنا ميت." ثم يسخر من المنطق الدائري الذي يتبعه نبي الإسلام وينتهي إلى قوله: "يخرب بيت أم الحشيش." في حلقة أخرى يشبه خطاب التهديد والوعيد الإلهي في القرآن بأقوال بوحه في تهديده لأولاد أبو إسماعيل، وغيرها الكثير مما يطول مجال سرده.
بينما أشاهد هذه الحلقات دار بفكري سؤال بشأن مدى فعالية وجدوى أسلوب السخرية في الجدل الديني. ففي الشرق يخشى معظم الناس مجرد التفكير في بعض ثوابت الدين، فكيف بالحري أن نمزح بشأنها ونُقدمها في قالب فكاهي ونضحك عليها. هناك من يرى أن هذا الأسلوب سيجعل أتباع الدين يزدادون تشددًا وكراهية للآخر الذي "يسخر من مقدساتهم." والبعض، ولعل من بينهم بعض اللادينيين، انتقد عبد الصمد لكونه يسخر فقط من الإسلام دون المسيحية والأديان الأخرى. وهكذا يتم تحويل الأمر إلى طابع شخصي وجعل القضية كلها أشبه بمشاجرة في الشارع بين أشخاص يسبون بعضهم البعض.
السخرية في مجال الجدل الديني ليست حديثة كما يظن البعض لكنها قديمة قدم الأديان نفسها. فقد سخرت الأديان التوحيدية من أتباع الديانات التعددية ومن آلهاتهم. دعنا نلقي نظرة وجيزة على القصة القرآنية عن تحطيم إبراهيم لتماثيل آلهة أبيه والسخرية منهم قائلًا "أفلا تأكلون. مالكم لا تنطقون..." (سورة الصافات 91-96). وهذه القصة يتم تكميلها بما يرويه كبار المفسرين الإسلاميين عن تحطيم إبراهيم لجميع الأصنام ماعدا كبيرهم، ثم الاستهزاء بهذه الآلهة أمام أبيه، متهمًا الصنم الأكبر بتحطيم بقية الأصنام لكي يظهر لأبيه أنها حجارة لا تعقل. وتوجد نسخة مبكرة من هذه القصة في التفسيرات اليهودية القديمة لسفر التكوين. كذلك في الكتاب المقدس نرى النبي إيليا يستهزأ بأنبياء البعل وبإلههم قائلًا: "ادعوا بصوت عال لأنه إله! لعله مستغرق أو في خلوة أو في سفر! أو لعله نائم فيتنبه." (سفر ملوك الأول 18: 27). أما في الجدليات الدينية عبر التاريخ فهناك الكثير من الأمثلة التي فيها يسخر أتباع ديانة ما من عقائد ومبادئ ونصوص الديانات الأخرى، والأمر نفسه ينطبق على الجدل بين الطوائف والشيع الدينية المختلفة. إذن السخرية والنقد ذو الطابع الفكاهي ليست أمور غريبة عن النقاش والجدال الديني بشكل عام. لكن المعضلة أننا في الشرق نتصور دائمًا أن مقدساتنا لا يمكن المساس بها، ونظن أن علينا إجبار غير المؤمنين بعقائدنا على احترام العقيدة من منطق القوة والاستعلاء الديني.
طوال 14 قرنًا كان غير المسلمين في الشرق غير قادرين على نقد الإسلام، فلم تظهر في كتاباتهم وأقوالهم سوى إشارات وتلميحات للإشكاليات اللاهوتية والأخلاقية والفكرية في الإسلام. لكن ظهور وسائل الإعلام الجديد كالقنوات الفضائية والإنترنت جعل من إمكانية السيطرة على ما يقوله الآخرون مهمة شبه مستحيلة. وهكذا في بدايات القرن الحالي ظهرت برامج القنوات الفضائية وغرف الحوار العربية ثم العديد من المواقع وصفحات التواصل الاجتماعي لتغمرنا بفيض من الجدليات التي تنتقد الإسلام بأساليب مختلفة منها ما يتسم بقدر من الموضوعية في النقد الأكاديمي ومنها ما يبالغ في الهجاء بل وحتى التهجم على الدين والعبادات بأسلوب قد يكون مهذبًا أو غير مهذب. وقد تخطى الأمر نطاق الإسلام فقط، فالأديان عمومًا أصبحت في مرمى نيران النقد والسخرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد. بل حتى في برنامج "آية وتعليق" ومع أن أحد مقدميه يعتنق المسيحية، إلا أن الكثير من التعليقات في البرنامج تمثل بالضرورة نقدًا وسخرية من الفكر الديني المسيحي أيضًا.
ما يميز السخرية هي قدرتها الساحرة على تحطيم المحرمات ونزع هالة القدسية عن العقائد الدينية. إنها تجعلنا نضحك على أشياء لم نكن نجرؤ من قبل على التساؤل بشأنها. هذا الأمر الذي قد يزيد من غضب وتشدد البعض لكنه يدفع بالكثيرين إلى التفكير بصورة مغايرة تمامًا. عندما يتم السخرية من شخصية أو عقيدة ما يقع المستمع في أزمة عميقة، فإما أن يكون لديه حجة متينة للدفاع عن قناعاته، وإما سيلجأ للغضب والصراخ والتشنج أو ربما تحاشي مصدر النقد. لكن في أعماق نفسه، سيدرك مدى ضعفه وضعف موقفه وسيسعي للتفكير والحصول على إجابات لكي يهدّأ من انزعاجه ويرد على التساؤلات التي استطاعت العبور إلى داخل عقله عندما ضحك على ما كان يعتبره دائمًا مقدسات وتابوهات عقائدية.
من النماذج التي تستحق الدراسة هنا ما وقع لجماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفي في مصر. فبعد دخولهما معترك الحياة السياسية، كان ذلك سببًا لتعرضهم للنقد وكذلك السخرية من عدة جهات. هل يمكننا نسيان الأقوال الشهيرة مثل "هاتولي راجل" أو "القصاص" وغيرهما الكثير من العبارات التي وظفها باسم يوسف للسخرية من الداعية الإسلامي محمود شعبان ومرشد الإخوان المسلمين. وكانت بذلك إعلان لبداية حقبة من نزع القدسية عن هؤلاء الذين مزجوا الدين بالسياسة. ومع ازدياد التوتر السياسي تزايدت السخرية التي لم يعد من الممكن التمييز فيها بين ما هو سياسي وما هو ديني. وبمتابعة صفحات التواصل الاجتماعي للعديد من رموز التيار الإسلامي أضحى جليًا أن هؤلاء الأشخاص وأقوالهم يتم انتقادها والسخرية منها في ردود المتابعين كمثل أي شخصية عامة أخرى. بالطبع هذا لا ينفي وجود تيار حاشد من الداعمين لهم، ولكن التيار المقابل قد بدأ في الظهور، وامتلك الجراءة لا أن ينقد فقط بل أن يستهزأ ويستهين بهذه الرموز. كذلك عندما بدأ المصريون بطبيعتهم الفكاهية في السخرية والرقص على "صليل الصوارم"، فقدت أنشودة الدولة الإسلامية مكانتها بين عموم الناس، وأصبحت أضحوكة.
إذن فكما أسهمت السخرية السياسية في إزالة الكثير من رهبة الحوار السياسي مع من يرفعون شعارات دينية، هكذا هو الحال بالنسبة للجدال الديني. فإذا ضحك الناس سيفكرون وسيتذكرون، ولعل الكثير منهم سيطورون منهجًا نقديًا في مقاربته للدين. وما كان محرمًا منذ عدة سنوات سيكون الآن موضوعًا لنقاشات ونقد متزايد شئنا ذلك أم أبينا. السخرية الدينية هي إحدى مكونات حركة مستمرة لإعادة قراءة المقدس الديني ودوره في الحياة العامة والخاصة، والتي بلا شك ستؤتي ثمارها ولو بعد حين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب


.. مأزق العقل العربي الراهن




.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah