الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-التطبيع- - ديكتاتورية اللغة ودورها في قمع الأفكار.

ناصر ثابت

2016 / 6 / 22
القضية الفلسطينية


عندما كنتُ في الصفوف الثانوية، تزامنَ ذلك مع بدايات اوسلو ومؤتمر مدريد. في تلك الحقبة كان القائد مروان البرغوثي أميناً لسر اللجنة الحركية العليا لحركة فتح في الضفة والقطاع. كان البرغوثي قائداً مهماً ومعروفاً بمشاركته شخصياً في الكثير من المظاهرات والتحركات الشعبية.
ومن يتذكرُ تلك الفترة، يتذكر المسيرة الأسبوعية يوم الجمعة، والتي كان مسجد جمال عبدالناصر في مدينة البيرة يشكل نقطة انطلاق هامة لها. ولكن تلك المسيرة كانت أيضا ترتكز على قائدين هامين هما مروان البرغوثي، والشيخ حسن يوسف. كان كل منهما يضعُ يده في يد الآخر، ويتصدران المسيرة السلمية الحاشدة، بمشاركة الآلاف.
لكن ما لا يعرفه الكثيرون، أن السيد البرغوثي كان مشرفاً وبشكل شخصي على إرسال الكثير من وفود الشبيبة الفلسطينية لكي تلتقي بمثيلاتها من وفود الشبيبة الإسرائيلية في القدس وحيفا وتل أبيب وغيرها من المدن والمواقع الإسرائيلية.
كنتُ أنا أحدَ المشاركين، وكنا نذهب للقاء نظرائنا الإسرائيليين على الطرف الآخر من المعادلة. بعضُهم كان ينتمي لشبيبة حزب العمل، والبعض الآخر لأحزاب أخرى. وقد وجدناهم شباناً أعمارهم مثل أعمارنا، يتابعون دروسَهم ويعيشون العصر بكامل تفاصيله، ويستمتعون بآخر ما توصلت إليه الإبداعات البشرية في التكنولوجيا وغيرها. ورغم الاختلاف في الثقافة والأسلوب، إلا أن الحوار كان بالنسبة لكلينا هاماً ومختلفاً، غالباً بلغة محايدة هي الإنجليزية، يتطرق إلى الكثير من المواضيع السياسية والاجتماعية والثقافية والنشاطات الشبابية.
فجأة استطاعَ بعضُ الأصدقاء من أصحابِ الأصوات العالية، والعقلية المتوثبة البعيدة عن المنطق والمليئة بالعاطفة، أن يؤثر عليَّ وأن يقنعني بالعدول عن المشاركة. مذكراً إياي بأنه لا يجوز أن أشارك في "التطبيع".
كانت لفظة "التطبيع" تواصلُ النضوجَ، لتصبحَ من التابوهات العديدة التي يفرضُها المجتمع على نفسه. أنت تذهب للقاء العدو، إذن أنت تقوم بشيء مرفوض. طيب، وما المشكلة في ذلك؟ المشكلة أنك تمارس التطبيع، والتطبيع رجس من عمل الشيطان!
واصلت الأقلام صاحبة الصوت المسموع في مجتمعنا الذي لا يقرأ، مهاجمة الكثير من الشخصيات والقيادات بحجة ممارستها للتطبيع. لم يسلم من ذلك لا محمود درويش ولا سري نسيبة ولا غيرهم. وامتد ذلك إلى الفضائيات التي كانت في بدايات عهدها، وصار الهجوم على التطبيع والمطبعين شيئاً معتاداً يسمعه العامة كل يوم.
والآن، بعد مرور كل هذه الأعوام، لم أعدْ أستسيغ مثل هذه الألفاظ. لقد وجدتُ أننا أنهكنا اللغة بتحميلها معانيَ ليست بالضرورة أن تكون مناسبة لها. وتعلمتُ أن كثرة استخدام اللفظة في السياق السلبي يحوِّلُها إلى سُبة في معناها العام وهي ليست كذلك.
أنت مُطبع، إذن أنت تعاند الإرادة الشعبية، وربما يقال عنك إنك خائن. ولكن ماذا نقول لأحد أهم المناضلين الذين أشرفوا بأنفسهم على "التطبيع" وهو الآن يقضي أجمل سنوات عمره خلف القضبان، بعيداً عن أسرته وأهله؟
لحسنِ الحظ أننا نزدادُ حكمةً عندما تُضاف السنواتُ الى أعمارنا. الحكمة، التي يمارسُها كل إنسان بمستويات مختلفة، تأخذنا إلى حدائق الوعي الجميلة.
والحكمة لا تعني أن نفقد عاطفتنا القديمة. لكنها تعني أن نمارسها بشكل بَنَّاء. أن نعرف متى تكون العاطفة سلبية ومتي تكون إيجابية.
الأجمل أن يفقد الإنسان من قدرته على الحقد والكراهية. فإن فعلَ ذلك استطاع أن يخلِّص اللغة من شوائبها الكثيرة، وصار أكثر قدرة على تنقية الألفاظ من خصائصها التي تجعلها أداة لممارسة الاتهامات ومسدساً لمهاجمة الآخرين.
ولإثبات أننا نحن من يخترع اللفظة السلبية ويعطيها بعدها القاتل، نذكِّر القارئ بأمثلة أخرى مثل "الاختلاط" و"السفور" و"التبرج" وغيرها، دون الحاجة للخوض في تفاصيلها هنا، لكنها أمثلة مهمة على قدرة المجتمع المنغلق الهائلة على تطويع الألفاظ لخدمة أغراض خطيرة. وبعدها ذلك تصبح اللفظة رصاصة جاهزة للانطلاق والاستقرار في قلب الضحية لقتلها نفسياً ومعنوياً.
عودة إلى "التطبيع". يبدو أنه من الأفضل لنا أن نتجنب استخدام هذه الكلمة من الآن فصاعداً، على الأقل في سطور هذا المقال، على أمل أن نتوقف عن استخدامها في الحياة العامة.
إن اللقاءات بين النظراء من أي شعبين يعيشان صراعاً ما، لا يجب أن يكون جريمة، ولا يجب أن يُنظر إليه كأنه أحد التابوهات المحرمة. ما المشكلة إذا التقى شاعر فلسطيني شاعراً إسرائيلياً؟ وما الغضاضة في أن يذهب سياسي فلسطيني لحضور مؤتمر إسرائيلي؟ وما هو الأمر الجلل في أن يذهب وفد فلسطيني للتعزية بوفاة ضابط إسرائيلي من الطائفة الدرزية؟
لا مشكلة في ذلك أبداً. إن اجتماع البشر على المستوى الإنساني هام جداً. الإنسانية والروح البشرية التي تجمعنا بالطرف الآخر أهم من روح العداء التي تهدم الجسور بيننا، حتى لو كان الطرف الآخرُ اسرائيلياً.
إن قدرة العقل البشري على التحلل من سطوة الألفاظ، والانطلاق في سماءٍ رحبةٍ من التسامح وقبول الآخر، تجعله سيدَ لغته، وتعطيه سيطرة تامة على وعيه وعلى أفكاره. وعليه، فأنا الآن لم أعد أجد أية مشكلة في دعوة صديقي اليهودي الإسرائيلي إلى الغداء، وعدم التردد في الذهاب إلى أفضل مطعم شرق أوسطي في منطقتي حتى وإن كان "الحمص بار"، وهو مطعم اسرائيلي ممتاز.
إن هذا لا يجعلني أنسى قضايا شعبي الهامة. ولا يمنعني من التعاطف مع أطفاله وشيوخه ونسائه. وكل ما أفعله هو أنني أسمحُ لنفسي أن أنسجَ العلاقات البشرية مع الجميع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل بدأ العد العكسي لعملية رفح؟ | #التاسعة


.. إيران وإسرائيل .. روسيا تدخل على خط التهدئة | #غرفة_الأخبار




.. فيتو أميركي .. وتنديد وخيبة أمل فلسطينية | #غرفة_الأخبار


.. بعد غلقه بسبب الحرب الإسرائيلية.. مخبز العجور إلى العمل في غ




.. تعرف على أصفهان الإيرانية وأهم مواقعها النووية والعسكرية