الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دوستويفسكي في منزل الأموات..

محمد عبعوب

2016 / 6 / 23
الادب والفن


في روايته "ذكريات من منزل الأموات" يقدم الكاتب الروسي دوستويفسكي، رصدا دقيقا لتجربته الشخصية تحت اسم مستعار "الكسندر جوريانتشيكوف" طيلة بقائه نزيلا بأحد سجون سيبيريا الرهيبة بعد إدانته في جريمة قتل زوجته.. في هذه الرواية التي تعد واحدة من روائعه يتناول الكاتب مظاهر الحياة الرهيبة بهذا المعتقل وصنوف العذاب والعقاب المروعة التي كانت متبعة في التعامل مع السجناء في تلك الفترة من تاريخ روسيا، ويرصد الكاتب بعقله ورؤيته الثاقبة نفسيات تلك الشرائح من النزلاء من مختلف الثقافات والأعراق الذين ضمهم هذا المعتقل، وصنوف الجرائم المروعة التي ارتكبوها فساقتهم الى هذا المعتقل .
في هذه الرواية التي تعد قرابة ال 500 صفحة يسجل الكاتب اللحظات الأولى لنزوله بهذا المعتقل بعد رحلة طويلة مضنية تنتهي به وهو النبيل المثقف الى أسوار معتقل يضم بين جدرانه عتاة المجرمين والقتلة من مختلف مقاطعات الإمبراطورية الروسية، وما تركته هذه الصدمة في نفسه من حالة شعور بالتسمم كما يصفها هو ، معتقل لا يليق بمواصفات عصرنا حتى بالحيوانات، حيث الازدحام وانعدام التهوية والبرد الشديد وسوء التغذية وقسوة المعاملة بين السجناء الذين بينهم قتلة محترفين انتزعت من قلوبهم الرحمة والإنسانية، كما يرصد صور مروعة لقسوة الأشغال الشاقة التي يساق لها السجناء مكبلين بالأصفاد في طقس شديد البرودة.
ما يلفت في هذه الرواية فضلا على الصور المرعبة التي جسدها الكاتب بشكل دقيق ومعبر عن أوضاع المعتقل والمعاملة وقسوة السجانين والسجناء ورعب العقوبات التي تنزل بالسجناء الذين يرتكبون جرائم معينة وهم داخل السجن والتي تصل الى الجلد بالسياط آلاف الجلدات ، فضلا عن هذه الصور المرعبة يرصد الكاتب - وبعين محترفة في سبر نفسيات البشر – ما يعتمل في دواخل السجناء وما يعانونه من أمراض نفسية تتراوح بين الانطواء والعدوانية وتأصل روح الشر والعدوان لدى بعضهم، فيقدم لك من خلال رصده الدقيق صور حية لما تختلج به نفسيات هؤلاء السجناء الذين ينتمون الى مختلف طبقات المجتمع الروسي في تلك الفترة من فلاحين وجنود وتجار ونبلاء وفرسان حروب ومحترفي إجرام وقتل وأشخاص عاديين ساقهم تورطهم في جرائم أرغموا على ارتكابها الى هذا المحشر البشري الرهيب.
واحدة من الصور التي يرصدها الكاتب في روايته شدت انتباهي تتعلق بوصفه لثلاثة من النزلاء الذين التحقوا بهذا المعتقل، هؤلاء النزلاء الثلاثة وهم شقيقان في الخمسينات من العمر وابن أحدهما شاب يدعى علي ينحدرون من منطقة القوقاز التي تسكنها قبائل الشركس الذين يدينون بدين الإسلام، حيث يصفهم بأنهم منضبطون ومحترمون وحازمون في تعاملهم مع بقية السجناء رغم أنهم مدانون في جريمة قتل و حرابة ، ويرجع الكاتب رفعة أخلاق هؤلاء السجناء قياسا ببقية السجناء الذين ينهمكون يوميا في صراعات وشتائم وتعاطي الخمور المهربة ولعب القمار، يرجعها الى الدين الإسلامي الذي يحرم عليهم الدخول في هذه المنزلقات والممارسات السيئة، رغم أنهم مدانين في جريمة أشد خطورة وهي الاعتداء على تاجر وقتله والاستيلاء على أمواله ، ويعبر الكاتب عن إعجابه بالشاب علي لخجله الشديد وحزمه وشجاعته وقدرته على فرض احترام الآخرين له، والذي لم يتورط في جريمة والده مختارا بل طاعة لأوامره.
في هذه الرواية يمكن للقارئ ومن خلال سرد الكاتب لبعض مشاهد التعامل بين السجناء، ان يكتشف واحدة من الأسباب الرئيسية لانفجار الثورة البلشفية التي أطاحت في بدايات القرن العشرين بعرش الإمبراطورية الروسية، و التي نقلت بلاد الثلج تلك من واحدة من أسوا أنظمة الحكم التقليدية الى نظام اشتراكي حاول ان يؤسس لدولة المساواة وينهي ظاهرة العبودية التي كانت تقسم المجتمع الروسي الى نبلاء وأقنان.. ففي هذا المحشر البشري سيء الصيت يحافظ النزلاء على واحدة من أسوا مظاهر التمييز الطبقي لمجتمعهم ، حيث يكرس السجناء من طبقة الفلاحين والعمال جهدهم لخدمة النزلاء من طبقة النبلاء يقدمون لهم مختلف الخدمات ويغامرون بحياتهم من أجلهم ويتحملون بدلا عنهم عذاب العقوبات لا لشيء إلا لأنهم ينتمون الى طبقة النبلاء! . وهذه الظاهرة التي هي بكل تأكيد كانت سائدة في المجتمع الروسي في تلك الفترة تعد في تقديري واحدة من أسباب تحول روسيا من إمبراطورية إقطاعية الى دولة اشتراكية تفرض المساواة بين كل رعاياها ، بعد ست عقود من تاريخ كتابة هذه الرواية.
يختم دوستويفسكي وهو المثقف ومدمن القراءة وقد تحول الى نزيل في ذلك المعتقل الرهيب، روايته بمشهد رائع بعد أن تم نقله الى قسم خاص بالمعتقلين الذين سيفرج عنهم حيث تتوفر لهم ظروف إقامة أحسن ويمكنهم الاطلاع على الكتب التي كانت من المحرمات على نزلاء المعتقل يتعرض مرتكب حيازتها الى أشد العقوبات، فيصف لنا كيف انكب على المكتبة يلتهم الكتب التهاما وهو غير مصدق انه سيلتقي كتابا يوما ما في حياته لما لاقاه من عذاب وحرمان في غياهب ذلك المحشر السيبيري الرهيب..
تجربة قاسية يضعها الكاتب في روايته هذه التي منعت السلطات الروسية في تلك الفترة – النصف الثاني من القرن التاسع عشر - نشرها؛ يضع بين يدي القارئ تجربة غنية بمشاهد الرعب وصلابة البشر وقسوتهم ومظاهر انسانية شاذة ونادرة تتعايش في منزل الأموات هذا الذي عاش الكاتب بين أسواره عدة سنوات ليروي لنا هذه التجربة التي تفيض بصور موحشة لحياة شريحة من البشر ساقهم شذوذهم و غياب العدل و الفقر وقسوة الحياة و المرض الى هذا المحشر الرهيب حيث يقضي بعضهم نحبه بين جدرانه بسبب قسوة الحياة فيه، و يقضي فيه بعضهم زهرة شبابه ويخرج منه الى حياة أشد منه وطأة خائر القوى يعاني الجوع والمرض، ليموت في برد الشوارع والغابات كحيوان مشرد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل