الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كرة القدم..التّعالي المصري..عرش مبارك..

باهي صالح

2016 / 6 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


مرّت أكثر من ست سنوات على مباراة أم درمان بتاريخ 18 نوفمبر 2009 الجزائر مصر..تلاشت خلالها رياح الفتنة التي عصفت بها حرب الإعلام بين البلدين..و أتت وراءها مباشرة نسمة الرّبيع العربي و عاد معها العقل و الأمل في التّقارب مجدّدا بين الشّعبين الشّقيقين رغم النّدوب و ما رسب في الوعي الجماعي..
كلّما أعدت الإبحار في أرشيف الإعلام المصري (الفضائيأت على وجه الخصوص) أستشفّ شيئين:
الشيء الأولى: أنّ الشّعب المصري ممثّلا في نخبه (خاصّة) يغلبه شعور بالتّسامي و الفوقيّة تجاه باقي الشّعوب العربيّة..و قد يكون معذورا على إعتبار أنّه ظلّ متصدّرا المشهد العربي كقوّة ناعمة أولى على مدى كلّ تلك العقود..
الشّيء الثّاني: أنّ خروج الفريق الكروي المصري من مونديال 2010 بعد هزيمته أمام الفريق الكروي الجزائري، كان له دون شكّ (في رأيي) أبلغ الأثر في المساهمة في الإطاحة بنظام مبارك رغم التيّار الثّورجي الإقليمي الّذي إستجدّ على المنطقة العربيّة برمّتها في ذلك الوقت..لا شكّ أنّ حرمان الشّعب المصري من المشاركة في المونديال كانت ضربة قاصمة لنظام مبارك بعد أن ظنّ أنّه تلقّفها و طوّعها لصالح سياسته المفضوحة في التّوريث و هذا إستلزم بالضّرورة حرف المسار التاريخي للدّولة المصريّة..
كُسر كبرياء المصريين و جُرح شعورهم بالفوقيّة..لم يقبل وعيهم و لا عقلهم الباطن بالهزيمة و لم يسلّموا بما وقع..رغم أنّها كانت مجرّد لعبة..تساميهم يجعلهم في نظر أنفسهم الأحقّ و الأولى..فكيف يحصل ما حصل..؟
مباراة غيّرت بالفعل مسار التاريخ خاصّة في مصر..إذ أن هدف عنتر يحيى لم يؤهّل الفريق الجزائري على حساب الفريق المصري لتصفيات كأس العالم لكرة القدم لسنة 2010 فحسب، بل غيّر مسار التاريخ المصري و حوّله بضربة سحريّة واحدة نحو وجهة غير متوقّعة تماما، و الملفت أيضا أنّه أسقط أقنعة و عرى عورات و بلاوي و كشف ضغائن و أحاسيس بغضاء و كراهية و حساسيات لم تكن معلنة و يبدو أنّها كانت مدفونة و مطمورة داخل الوعي و اللاوعي العربي بين المصريين و باقي إخوانهم من باقي الدّول العربيّة...
منذ الفتح الإسلامي تنامىت مشاعر مصرية بالسموّ و الفوقيّة تجاه كلّ الدول العربية ، لكن ما أسهل ما تتعرّى تلك المشاعر فجّة و تطفو على السّطح مثل الجيفة عند أقلّ هزّة سياسيّة أو فكريّة أو حتّى كرويّة..التّعالي المصري حيّ و حقيقي منذ زمن الفتح المبارك و تشعر به الشعوب العربية من خلال أسلوب تعاطي المصريين عموما (خاصة النخب و المثقّفين و السياسيين) معهم خاصّة عبر تجلّيات الثقافة و الفن عموما.. يقابله في العادة إنزعاج يكبته التغاضى و السكوت في إطار واجب الإحترام الّذي يجب على الأخوات لأختهم الكبرى.. الأخت الكبرى مصر و مصر هي القوّة الناعمة..مصرالأهرامات و حضارة الخمسة آلاف سنة..مصر أم كلثوم و عبد الحليم و محمد عبد الوهاب و غيرهم..مصر ببساطة رائدة الفن و الثّقافة على مستوى العالم العربي ربما لأكثر من 5 عقود، خاصّة في مجالات الطّرب و إنتاج الأفلام و المسلسلات...مصر أكبر دولة عربيّا على الأقلّ من ناحية عدد السكان..
لكن الأخت الكبرى (مصر) اليوم شاخت و هرمت أصبحت أحيانا تهذي و تتجنّى و تتجاوز حدودها كثيرا دون أن تعي نفسها أو تدرك أنّ بعض أخواتها (من الدول العربية) كبرن هنّ أيضا و بعضهنّ أصبحن لا يتورّعن عن المجاهرة بتمرّدهنّ إذ لم تعد لديهنّ القدرة على الإستمرار في إحتمال تكبّرها و تعاليها و هي تتجنّى و تتمادى..ليس اليوم مثل الأمس..و الأيّام تُداول الأدوار..الزّمن تغيّر كثيرا و لم تعد الأخت الكبرى قادرة على الحفاظ على موقع الريادة كقوّة ناعمة أولى بعد أن تراجعت مكانتها أمام صعود قوى ناعمة منافسة و مشاكسة لبعض أخواتها..الأفلام و المسلسلات و المغنّين و المطربين و الكتّاب و الصّحفيين و الممثلين..إلخ ..كلّ ذلك إنتهى عصر إحتكاره من كرم و جود رحم الأخت الكبرى، أرحام بعض أخواتها كسرت الإحتكار و أصبحت بدورها ولاّدة..حتّى الإهرامات و حضارة الخمسة آلاف سنة الأسطوانة التي لا يتعب المصريون من التباهي و التفاخر بها على كل العرب لإثبات مدى تساميهم و تفوّق حضارتهم، إهترأت و ملّ الجميع من تكرارها و الاستشهاد بها...كل دولة عربية مارقة اليوم لديها أيضا ما تباهي به أختها الكبرى من معالم حضارية و تاريخ حافل بالبطولات و الأمجاد..ثم كيف ننسى أنّ مجموعة من المهاجرين الأوروبيين إستطاعوا أن يبنوا أكبر حضارة في العصر (أمريكا) الحديث على جثث السكّان الأصليين بلا أمجاد و بلا أهرامات و بلا حتّى تاريخ في تلك الأرض..
تملك الأخت الكبرى (مصر) أكبر أرمادة إعلاميّة من الفضائيات و الجرائد و غيرها من الوسائط مقارنة بما يملكه بعض أخواتها من الدّول العربية..و خلال السّنوات الأخيرة شنّت تلك الوسائل الإعلاميّة حروبا شعواء و قادت حملات تنمّر و استقواء ضدّ هذه الدّولة العربية أو تلك، أحيانا تستهدف إحدى دول المغرب العربي..المغرب، تونس أو الجزائر و أحيانا توجّه مدافعها و سهامها باتّجاه دول مشرقيّة أو حتى خليجيّة..تسبّ و تشتم هذه و تسخر و تهزأ من هذه و تفخر و تتباهى بحضارتها و أهرامها و تقول لأخرى أنّها هي من علّمتها و أطعمتها و علّمتها كيف تلبس..إلخ و قد كانت نوبة الهيستيريا و الغضب التي إجتاحت الإعلام المصري على مدى عدّة شهورعقب تأهل الجزائر لمونديال 2010 على حساب مصر أبلغ و أحسن مثال على عقدة التّعالي و التفوّق التي تملأ العقل الباطن للمصريين تجاه بقيّة الشعوب العربية..حملة مسعورة أصابت كل العرب بصدمة..أصاب الذّهول و الاستهجان كل العالم العربي..صورة سيّئة أحيانا و مضحكة و كاريكاتوريّة أحيانا أخرى سوّقها الإعلام المصري عن العقليّة المصريّة...للأسف الشّديد...كتّاب و أدباء و شعراء و إعلاميون و نجوم في الفن و السينما (إلاّ قليل)..كلهم انساقوا مثل القطيع المسحور و انضمّوا بعنجهيّة و سفور لحملة العبث و الهذيان لا لشيء سوى أنّ الجزائر تأهّلت للمونديال و مصر خرجت..
و هذا نموذج لما قاله أحد الإعلاميين المصريين عبر إحدى فضائياتهم بالحرف" أنتو عارفين الناس ده حاقدين على مصر ليه (يقصد الشّعب الجزائري)..لأنّ مصر إلي علّمتهم...مصر التي شرّبتهم..مصر التي أكّلتهم..إحنا إلي خلّيناكم تعرفو تلبسو..مصر التي حرّرتهم...و لحدّ دلوقتي تيجو تتعلّمو عندنا ..و لحدّ دلوقتي ما تعرفوش تلبسو..أنتو نسيتو شعب الجزائر شعب لقيط أيوة شعب لقيط...." أنظروا العجرفة و التّعالي..؟
شرذمة من الانتهازيين و الفنانين و الممثلين و أشباه المثقّفين صنعوا من أحداث بسيطة و مفتعلة من المشجّعين (بين البلدين) يحصل مثلها في كلّ بلدان العالم..صنعوا منها فلم رعب للمصريين و للعالم...عبرحملة إعلامية مسعورة غير مسبوقة من السب و الشتم و الاستهزاء و السخرية لكل مقومات و رموز الشعب الجزائري...بأسلوب التّعالي و التكبّر و الأفضليّة المزعومة يجعل الجزائري و العربي عموما الحاجب الّذي لا يعلو على العين...
أي نعم..الهزيمة أسقطت عرش الفرعون و أسقطت معه أقنعة و عرت عورات و بلاوي و كشفت ضغائن و سوءات، رفعت الحجاب عن أحاسيس بغضاء و كراهية و أماطت اللثام عن حساسيات و حماقات.. كانت مدفونة و غير معلنة بين المصريين و الجزائريين منذ عقود و عقود...
و النتيجة مشاعر متبادلة من الأحقاد و الكراهية بين الشّعبين ستستمرّ لعدّة سنوات...
فضلا على أنّ المباراة عرّت عقيدة التّعالي لدى المصريين تجاه إخوانهم في الشرق العربي و في المغرب العربي فإنّ المباراة أيضا كانت هي السّبب الرئيس (في رأيي) في تغيير مسار تاريخ الدولة المصرية في العصر الحديث..كيف..؟
أيقن النّظام المصري منذ البداية أنّ عليه أن يقتنص الفرصة، فرصة لن تتكرّر إلا بعد مرور أربع سنوات أخرى..كان الشّعب المصري قد بلغ حدّا من الاحتقان و الغليان لم يسبق أن بلغه من قبل..الأسباب..طول عهد الاستبداد و الظّلم و عزم النّظام على توريث الحكم... مباريات التّأهيل للمونديال هي المنقذ و هي المخرج المتبقّي الوحيد..خاصّة لو تحقّق حلم العبور (العبور إلى الموندبال)..في البداية عرف النّظام كيف يمسك بكلّ خيوط لعبة الكراكوز (لعبة كرة القدم) بيديه بغرض إستغلالها و توجيه نتائجها لصالحه...
لو فازت أيّ دولة إفريقيّة أخرى (غير الدّول العربيّة) لكان الأمر أهون بكثير..لكن أن تفوز الجزائر و هي دولة عربية و مغاربيّة فهذا أمر مختلف..الّذي حصل..
أنّ فوز الجزائر و تأهّلها على حساب مصر أربك النّظام و أخلط أوراقه عند أوّل وهلة، و في الوقت نفسه أجّج أكثر و فاقم من غضب المصريين بعد أن فقدوا ورقتهم الأخيرة و الوحيدة..فالتأهّل كان كفيل بأن ينسيهم يأسهم الأسود و يزيد من طاقة تسليمهم بأقدارهم في التّوريث و الديكتاتوريّة لعشرين سنة أخرى.. لكن و بضربة سحريّة أو قل بضربة سينمائيّة من نوع السيسبانس و الرّعب تحوّل تيّار الاحتقان و الغضب الجارف من آل مبارك إلى شعب الجزائر..و كان ذكاء أن يتصدّر وليّ العرش جمال مبارك جيش الإعلاميين و كتيبة النّجوم و الممثّلين و الصحافيين و غيرهم..و في ساحة معركة الطّواحين و جعجعتها لم تعد تُسمع أصوات الحقّ و العقلانيّة و الموضوعيّة من كوكبة أخرى من أبناء الشّعب المصري البسطاء و من المثقّفين و الكتاب و الشّعراء و حتّى من بعض نجوم الغناء و التّمثيل و غيرهم..
لحظة إنتهاء مباراة أم درمان بتاريخ 18 نوفمبر 2009 تقطّعت خيوط الكراكوز في يدي النّظام المصري..عند تلك اللّحظة بدأ العدّ التّنازلي للحظة الإطاحة بعرش مبارك و من ثمّة تغيّر مختلف تماما لمسار تاريخ الدّولة المصرية..و السّؤال الّذي يطرح نفسه..ماذا لو فازت مصر و تأهلت لكأس العالم سنة 2010 ..هل كان من الممكن الإطاحة بنظام مبارك..؟
أنا شخصيا أستبعد ذلك...لأن عروش آل مبارك لم تكن لتشعر أو تتأثر أبدا بالهزّة الارتدادية للزلزال الذي أحدثته ثورة الياسمين في عرش بن علي..كانوا سيستغلون الفوز (لو فازوا) و التأهّل لكأس العالم..كانوا سيقودون القطعان الشعبية و هي سكرانة بالسعادة و منتشية بالانتصار التاريخي..كانوا سيفرمطون العقول و يعيدونها إلى حالة الصفر..كانوا سيعوّضون اليأس و الآلام و الأحزان بحالة انتشاء طاغية و كانوا سيغرقون الشعب في المهرجانات و الأعراس..سيأخذ الفوز و المشاركات و المباريات و أجواء المونديال كل إهتمام الشعب المصري و ستعصف السعادة و البهجة بعقولهم و أحاسيسهم..سينسون التوريث و الحكم و دين جدّه لعشرين سنة أخرى..و سيقود آل مبارك مثل المظفّرين و القادة العظام مسيرة النصر و الابتهاج..و ما إن ينتهي عرس المونديال حتى تكون الهزّة الارتدادية للثورة التونسية قد ضعفت و تلاشت و لم يعد لها تأثير، ستكتفي الجماهيرالمصرية بالحلم الكروي الذي تحقّق و ستقتات منه، سينسيهم الفوز بؤسهم و يطمس وعيهم و يغيّب إدراكهم لوقت كاف...قبل أن تذهب السّكرة و تتلاشى النّشوة و يستعيدوا وعيهم بحالهم و مآلهم..حينها سيكون علاء مبارك قد توّج على عرش أبيه بنسبة 90 في المائة من أصوات المنتشين..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان: متى تنتهي الحرب المنسية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الولايات المتحدة: ما الذي يجري في الجامعات الأمريكية؟ • فران




.. بلينكن في الصين: قائمة التوترات من تايوان إلى -تيك توك-


.. انسحاب إيراني من سوريا.. لعبة خيانة أم تمويه؟ | #التاسعة




.. هل تنجح أميركا بلجم التقارب الصيني الروسي؟ | #التاسعة