الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القبائل في العراق لا مساهمات لها في بناء الحضارة المدينية

حسين كركوش

2016 / 6 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


المؤرخ العراقي عباس العزاوي (1891-1971) يشكو ، في مقدمة كتابه ( عشائر العراق) ، من قلة المراجع التي تتحدث عن العشائر العراقية.
يقول العزاوي : " ... اما كتب التاريخ فأنها كتبت لتدوين الحضارة الإسلامية وأثرها في النفوس والخلافة وما قامت به ، والملوك و وقائعهم ... وأما الحالة القبائلية فلم تتعرض لها إلا أحيانا ، وبصورة ضئيلة جدا. "

العزاوي صائب فيما قال. لكن السؤال هو ، لماذا لم تتوقف الكتب التاريخية مطولا عند الفبائل ؟

في رأينا ، للأسباب التالية :

1/ عندما نقول الحضارة الإسلامية فنحن أمام عنصرين : المدينة و الدين ، وهنا نعني الإسلام. والقبائل ظلت ، لأسباب مختلفة ، بعيدة عن المدينة ، و ظلت على هامش الدين الإسلامي وليس داخل المتن.
القبائل لا مساهمات لها في بناء الحضارة الإسلامية ( لنقل في العراق ما دمنا نتحدث عن القبائل العراقية) ، لا على الصعيد الديني ولا على الصعيد الدنيوي. فجميع أصحاب كتب التفاسير والمؤرخين وكّتاب السير ورواة الأحاديث ، و أصحاب المذاهب الفقهية السنية والشيعية في العراق ، و المثقفين الذي نَّظروا لاحقا لهذه المذاهب ، والناشطين في ميدان التأليف الفقهي ، هم من سكان المدن الحَضَر. وقل الشيء نفسه عن المفكرين والفلاسفة ، و الناشطين في القضايا السياسية وشؤون الحكم ، و في ميادين القضاء ، والأدب ، والتعليم ، والطب ، واللغة والنحو ، والهندسة ، و فن العمارة ، والتنجيم ، والفلك ، والكيمياء ، والغناء والموسيقى ... الخ. ناهيك ، بالطبع ، عن مؤسسات الدولة وأجهزتها التي لا توجد إلا في المدن.

2/ لأن الإسلام نفسه حَضَري تتعارض قوانينه ، في قضايا عديدة ، مع قوانين العشائر ، أي (السنن). السنن العشائرية هي قوانين دنيوية واقعية وعملية أبتكرها العقل البشري وأملتها ضرورة العيش في بيئة معينة ، وهي تصلح لهذه البيئة التي انتجتها ، ولا تلائم بيئة المدن.

ففي (المدينة) تنتفي الحاجة للقوانين العشائرية ، ولآليات تطبيقها ، لأن مؤسسات الدولة وأجهزتها داخل المدن تحل محلها. فحكيم القبيلة (الفريضة) ظهر مكانه في المدينة القاضي. و المضيف العشائري اختفى داخل المدن وظهر عوضا عنه الخان والمقهى والحّمام والمطعم. وهذه الأماكن الخدمية كوزموبوليتية ، بطبعها ، يدخلها من يشاء من البشر ، وهي ليست مجانية ، كما المضيف العشائري و إنما تخضع لاقتصاد السوق ، و بإمكان أي زبون ، مهما كانت منزلته الاجتماعية أن يجلس في (صدر) المقهى.

وقل الشيء نفسه عن (قوانين) أخرى تطبقها العشائر : (العطوة / المهلة الزمنية ) و (الدكاكة / التحذير) و (الجلي /إبعاد الشخص قهرا عن مضارب عشيرته) ، (كسر العصا / خروج الفرد من عشيرته) ، (جِرش / تحول ابن العشيرة إلى الولاء لعشيرة أخرى). هذه الإجراءات العشائرية تتكفل بها داخل المدن مؤسسات الدولة وأجهزتها. وأنا لا أتحدث فقط عن الدولة الحديثة وإنما منذ تكوين المدن الإسلامية.

هذا على الصعيد الاداري التنظيمي. أما على صعيد الأخلاق و الممارسات اليومية فهناك ، أيضا ، تعارض بين القيم العشائرية والقيم الإسلامية.

وفي أدناه نتف من القضايا المختَلف عليها :
القتل أخذا للثأر : قتل إنسان بجريرة ما فعله أخوه أو ابنه أو قريبه وفقا للقانون العشائري ، غير مقبول في الإسلام ، لأن الفرد وحده يتحمل مسؤولية ما يرتكبه من أفعال : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تَدْعُ مُثقَلَة إلى حملها لا يُحمَل منه شيء ولو كان ذا قربى. فاطر : 18).
المنزلة الاعتبارية : منزلة الفرد في نظر الإسلام تعتمد على طاعته لله أو عدم طاعته ، وليس لأي اعتبارات أخرى. الفرد الذي يعصي أوامر الله سيدخل النار مع الداخلين ، حتى لو أنه من عائلة أنبياء : ( ضرب الله مثلا للذين كفروا إمرأة لوط وإمرأة نوح كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحَين فخانتاهما فلم يُغنيا عنهما من الله شيئا وقيل أُدخلا النار مع الداخلين. التحريم :10).
منزلة المرأة : المرأة في القبيلة تساوي صفر ، وهي كم مُهمَل لا تدخل ولا تذكر ، أصلا ، في تعداد نفوس العشيرة. المرأة في القبيلة ماكنة لتفريخ البشر ، الذكور على وجه التفضيل. و من هنا جاءت فكرة المرأة (الفصلية) ، و هي المرأة التي تُقدم كتعويض عندما يقتل أحد أفراد العشيرة شخصا من عشيرة أخرى. (الفصلية) أقسى عقوبة تحل بالقبيلة لأنها ستفقد (مصنع) بشري. والعكس سيحصل لدى القبيلة التي تضاف إلى نسائها امرأة ( فصلية ) ، لأنها ستربح ماكنة تفريخ.

وكذلك قانون ( النّهوة ) ، أي عندما (ينهي) أحد أفراد القبيلة (خصوصا ابن العم) قريبة له (ابنت عمه) من الزواج بشخص آخر من خارج البيت العشائري. والفكرة نفسها وراء ظهور زواج (الكصة بكصة) عند العشائر ، والقانون الذي يعالج مسألة (النهيبة) ، أي عندما يعشق رجل امرأة ويرفض أهلها تزويجها منه ، فيفر بها (ينهبها) ثم يتزوجها.
هذه القوانين العشائرية وأخرى غيرها ، في التعامل مع المرأة ، لا تتفق مع ما ورد في القرآن.
فالمرأة ترد في الكثير من الآيات القرآنية صنوا للرجل مساوية له ، لا يتقدم عليها ولا تتبعه ، و الاثنان يصفهما القرآن بصفات واحدة ، و الاثنان ينطبق عليهما نفس العقاب أو الثواب ، ويُطَلب من الاثنين أن يفعلا نفس الفعل ، كالأيمان والصوم والصدق والصبر والخشوع. ( الأحزاب : 35 ، التوبة : 71 ، 72 ، البقرة : 187).

هذا فيما يخص تعارض القوانين العشائرية مع تعاليم الدين الإسلامي.

لكن هناك أعراف وأخلاق وعادات وتقاليد عشائرية أخرى لا تتعارض مع الدين فقط ، وأنما لا تتماشى ، أيضا ، مع قوانين مجتمع (المدينة) كفضاء حَضَري يختلف عن القرية أو الريف أو البادية. فالمدينة لها خصائصها الحَضَرَية ، توبوغرافيا (محدودية الفضاء وكثافة سكانية) ، معماريا ( بيوت متباعدة وحارات وأسواق حسب أصناف المهن) ، ديموغرافيا ( أجناس من البشر لا تنتمي لعرق واد وإنما لأعراق مختلفة ، و إمكانية حدوث زيجات مختلطة) ، مؤسساتيا ( مؤسسات و أجهزة حكومية خدمية ) ، اجتماعيا ( أماكن تقدم خدماتها للجميع ) واقتصاديا ( السوق والمعاملات التجارية وما يرافقها من توثيق وأرشفة ، وربح وخسارة). وهذه الأمور كلها تخلق ، بالضرورة أنماط سلوك خاصة بها ، وطرق تفكير خاصة بها.

هذه الخصائص المدينية أقرب لتعاليم ولقوانين الإسلام وليس للعشيرة وقيمها. والإسلام حافظ عليها ونماها وطورها ، لأن الإسلام ذاته دين حَضَري.

المدن محتفل بها في القرآن. و حتى الحياة الآخرة التي يعد بها القرآن المؤمنين ، هي حياة مدينية حَضَرَية ، و مترَفة في كل شيء : ( أولائك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يُحَلَّون فيها من أساورَ من ذهب ويلبسون ثيابا خُضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الآرائك. الكهف : 31). فالمكان يقترن بالمياه والزهور والأشجار والفواكه ، و الأثاث هي الآرائك التي لا توجد إلا في المدن ، و كذلك الحُلي و الأكسسوارات التجميلية المصاغة من ذهب ، و أسماء الملابس الحريرية التي لا يعرفها إلا الحَضَر ، سندس واستبرق ( من النادر جدا ، بل من المستحيل أن تجد ، حتى في يومنا هذا ، بين العشائر من يسمي أبنه أو ابنته سندس أو استبرق ، بل هم لا يستطيعون نطقهما ولا يعرفون معنى المفردتين).
و القرآن لا يقف على مسافة واحدة بين الحَضَر وغير الحَضَر ، ولا يساوي بينهم. القرآن ينتصر لسكان المدن الحضر. و أكثر الفئات التي انتقدها القرآن بقسوة هي الفئات غير الحَضَرية ، أي البدو أو الأعراب الذين لا يسكنون داخل المدن ، حتى لو كانوا ، جغرافيا ، قريبين من سكان المدن أو (حولهم).

هذه الانتقادات القرآنية للأعراب ليست ، بطبيعة الحال ، لدوافع عرقية تتعلق بالجينات الوراثية ، فالأعراب بشر خلقهم الله مثلما خلق غيرهم. وهي ليست لدوافع طبقية أو لغوية أو فسيولوجية. هذه الانتقادات لدوافع انثروبولوجية / جغرافية / سلوكية.

و ظل الأعراب هامشيين منذ الأيام الأولى للإسلام فيما يتعلق بعلاقتهم بالمدينة وسكانها. ولم يساهموا في بناء المدن وازدهارها ، بأي شكل من الأشكال.

و في العديد من أمهات الكتب التراثية يظهر الأعرابي كمادة للسخرية والتفكه من قبل سكان المدن ، و يرد ذكره في خانة المُلح والنوادر . و حتى داخل هذه الخانة لا يظهر الأعرابي على قدم المساواة مع الحَضَرَي أو ندا له ، وإنما أدنى منه بكثير.


ولم تتوقف سخرية سكان المدن الحَضَر عند الأعراب وحدهم وإنما شملت ، مع مرور الوقت ومع تطور المدن ، القرويين أو الريفيين أو (السَّواديين) ، كما كان يسميهم البغداديون وقتذاك. ( السَّوادي : تسمية بغدادية عباسية كانت تطلق على القروي أو الريفي ، والكلمة مشتقة من "السَّواد" أي كثرة وكثافة الزرع). وتنقل كتب التراث الكثير من القصص حول هذا الموضوع.

وقد وصل الحد إلى أن البعض من الظرفاء الحَضَر من ساكني بغداد العباسية كانوا (يتصيدون) القرويين الذين يصلون المدن للتبضع من أسواقها ويّعدون لهم المقالب ، على طريقة الكاميرا الخفية ، في الوقت الحاضر. ( يورد بديع الزمان الهمذاني البعض من المقالب).

والسخرية هنا ( وهذه مسألة مهمة جدا في رأيي ) ، ليست لأسباب طائفية مذهبية ، كما يقول البعض هذه الأيام ، وليست لأسباب طبقية ، ولا دينية. فبغداد (المدينة ) وقتذاك كانت تضم خليطا ديموغرافيا كوزموبوليتيا في غاية التنوع ، اثنيا وقوميا وطبقيا ودينيا ومذهبيا.

السخرية كانت لأسباب انثروبولوجية صرف ، أي بسبب الفارق الحضاري بين عالمي المدينة والريف ، في المأكل والملبس والأعراف والتقاليد والعادات والسلوك.

وقد ظلت سخرية سكان المدن الحَضَر من الريفيين قائمة حتى في العصور الحديثة.

وما يزال سكان المدن الحَضَر في العراق يطلقون تسميات ذات معنى إزدرائي (أْعّرُبي ، بابة أعروبية ، عرب) على الريفيين الذين يسكنون المدن ولا يتطبعون بطباعها.

والملاحظ أن بعض من يطلق هذه التسميات هم ، أصلا ، من أصول ريفية ، لكنهم تخلوا عن أصولهم الأولى ، بعد أن طّبعتهم المدينة بطباعها ، وأصبحوا (حَضَر) و (تمدنوا) ، أو أصبحوا (مِدن) ، على حد تعبير سكان القرى والأرياف.
وسنرى أن أولاد وأحفاد هولاء القرويين ، من الذكور والإناث ، الذين قدموا من الريف واستوطنوا المدن ، لعبوا دورا مهما في إثراء المجتمع وساهموا في تقدمه في جميع مجالات الحياة ، وأصبحوا شعراء وروائيين وأطباء ومهندسين وتجار واقتصاديين وسياسيين. و بفضلهم زادت الطبقة الوسطى في العراق في الحجم وفي النوعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر