الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


د.مصطفى سويف..تاريخ من العلم والوطنية

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2016 / 7 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


مصطفى سويف..تاريخ من العلم والوطنية
أسامة عرابي
غيَّب الموت أحد علماء النفس المصريين البارزين د.مصطفى سويف (1924_2016) يوم الاثنين الماضي عن عمرٍ ناهز الثانية والتسعين عامًا بعد صراعٍ طويل مع المرض؛ هنا إطلالة على عالمه ومسيرته العلمية والوطنية.
تُعدُّ السرديات الذاتية أحد الأجناس المؤسَّسة في تقليد أدبي كامل يرمي إلى فهم الثقافة والشخصية والمجتمع،على نحوٍ يستدعي قراءة جديدة للعصر وفضائه الزمني،نتدارس فيه هموم صاحبها،وما انصرفت إليه حياته من قضايا تمسُّ وجودنا،وتدعونا إلى التفكير فيها عبر جدل الفردي والإنساني العام،وانفتاحهما على الواقع ومستويات التفاعل معه،واستعادة قلق السؤال صوب سيرورةٍ للتطور شكَّلت خياراته الفكرية والعلمية،وأسبغت على المآلات التي بلغها مشروعه هذا،طابَع الاجتهاد وإعادة الاكتشاف وحصاد الرحلة الجادة،وكأني به يتأسى مقولة"هيجل"التي تذهب إلى أن"في طبيعة الإنسان المتناهي ما يدعوه إلى تجاوز تناهيه ليصبح لامتناهيًا".وليس هذا بجديدٍ ولا بغريبٍ على باحثٍ مرموق،ومفكِّر نادر المثال من طراز د.مصطفى سويف(1924-2016)الذي شارك منذ يفاعته في كل الفعاليات السياسية التي نادت بالاستقلال الوطني وبدستور ديمقراطي للبلاد،وعرف طريقه وهو بعدُ طالبٌ في نهاية السنة الأولى بقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية بكلية الآداب،إلى سجن"قرة ميدان"في القلعة لثمانية أشهر بدأت من آخر يونية 1941إلى نهاية فبراير 1942؛بدعوى انتسابه إلى أحد التنظيمات الشيوعية،فضلًا عن اضطلاعه بدراسة الفلسفة وفلسفة العلوم بخاصة،والإفادة من نظراتهما ومباحثهما،وإيمانه بأهمية التكامل والتساند الوظيفي على نحو ما بدا لنا جليًّا من أطروحته للدكتوراه "الأسس النفسية للتكامل الاجتماعي"إثر انشغاله بسؤال مُفاده:ما وجه الإلحاح للتكامل مع الآخر،إلى درجة أن يُسخِّر المبدع كل حياته من أجل تحقيقه؟بالإضافة إلى اهتمامه المبكِّر بموضوع الصداقة،وتأثره بما سطَّره المعلم الأول"أرسطو"في كتابه المعروف باسم"الأخلاق إلى نيقوماخوس"،وتطويره البحث في مضمار استخبارالصداقة الشخصية،ثم اتجاهه بعد ذلك صوب دراسة مقاييس الاتجاهات والتتلمذ على يد عالِم النفس الألماني-البريطاني"هانز يورغن أيزنك"بادئًا بقراءة كتابه"سيكولوجية السياسة"،وإيلائه التجربة والنظرية ما هما خليقتان به من أهمية،تدرك ما لكليْهما من دور ووظيفة في أي نظر علمي.فالتجربة لديه هي الحصول على شهادة الواقع بصورة منظَّمة،كما أن النظر هو المعنى العام.وأنه لا مندوحة عنهما للإحاطة بالعلم وامتلاك أدواته.غير أننا في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى التعلُّم.تعلُّم فن التجربة وفن النظر معًا.والأخير لا ينهض إلا بدراسة الفلسفة،وفلسفة العلم بخاصةٍ.لذلك ظلَّ رائد أستاذنا الجليل د.مصطفى سويف في كل ما كتب وما اضطلع به من بحثٍ علميٍّ،هو الإفادة من تطبيقاتهما في ميادين الحياة الاجتماعية،أوعلى حدِّ تعبيره في كتابه (مسيرتي ومصر في القرن الحادي والعشرين):"منذ وعيتُ الارتباط بالتخصص،كان ذلك على خلفية الارتباط بالهمِّ العامِّ؛ومن ثمَّ فقد وجدتني منذ بداية الطريق أمارس انتباهًا موزَّعًا بين عينٍ على مسيرتي،وعينٍ على مصر،ولم تكنْ هذه الممارسة تتمُّ بغير مشقةٍ".من هنا،جاءت أهمية كتابيْ"مسيرتي ومصر في القرن العشرين"(كتاب الهلال الشهري،عدد مايو 2001)،و"مسيرتي ومصر في القرن الحادي والعشرين"(كتاب الهلال الشهري،عدد يونية 2005)لأستاذنا د.مصطفى سويف؛رائد الدراسات النفسية والعمل النفسي الإكلينيكي،والمعالِج السلوكي النابه،وصاحب الدور الأكاديمي التطبيقي المرموق،والخبير العالمي بالجمعيات والهيئات الدولية،ومؤسِّس ومطوِّر قسم علم النفس بكلية الآداب- جامعة القاهرة قسمًا مستقلًّا عن قسم الدراسات الفلسفية بدءًا من العام الجامعي 1959-1960.ومن يقرأ نصَّ المذكرة التي كتبها بعنوان"بشأن ضرورة تحويل شعبة علم النفس بكلية الآداب- جامعة القاهرة إلى قسم مستقل لعلم النفس"يُدرك غَيرة الرجل الوطنية والعلمية،ومدى إيمانه بمستقبل مصر،وضرورة تمكينها من اللحاق بالعصر.كما أنشأ أكاديمية الفنون وسواها من الصروح العلمية في إطار بحوث التعاطي والإدمان وقياس العوامل النفسية والاجتماعية المرتبطة بالأمور الصحية وبتكامل الشخصية.لذا حرص د.سويف في الجزء الأول(مسيرتي ومصر في القرن العشرين)على أن يُلخِّص لنا بجلاء جُمَّاع عمره الذي عاش القدر الأكبر منه (على شغفٍ متجددٍ بالنظر في موضوع نقطة التماس والتداخل بين الذات والحياة الاجتماعية بأضيق وأرحب معانيها)منذ بواكير شبابه الأكاديمي(عندما كنت أدرس موضوع الإبداع في الشعر،تكشفت لي الحاجة إلى "النحن" باعتبارها أساسًا من أهم الأسس النفسية للإبداع في الشعر خاصة،وفي الفن عامة)،غير أنه تبيَّن له في قابل أيامه أن(الجذر النفسي العميق لتكامل الفرد مع مجتمعه إنما يتمثل في التوتر المتصاعد دومًا بين الفرد والجماعة كما يُفصح عن نفسه منذ بواكير الطفولة،من خلال النمو اللغوي والنمو الحركي للصغير؛فكلٌّ من الوظيفتيْن تنمو حسب تصميمٍ ديالكتيٍّ يمضي نحو تعميق الفردية والاجتماعية معًا داخل شخصية الطفل،وفي هذا الطراز من تشعيب النمو تكمن إنسانية الصغير البشري،مميزة إياه كيفيًّا عن أي طفل آخر في السلسلة الحيوانية)ص8و9.بَيْدَ أن أبحاثه المتخصصة قادته فيما بعد إلى إدراك ما لنقطة الالتقاء أو التماس هذه(باعتبارها جذرًا عميقًا وراء ما أحاول التصدي لبحثه من موضوعات في هذا الفرع أو ذاك من فروع التخصص،من دورٍ حاسمٍ يقوم به هذا الجذر في أمور الصحة والمرض النفسييْن،وهو دور يمتد ليشمل تحديد احتمالات الإصابة بالمرض النفسي،وشدة الإصابة،واحتمالات الشفاء) ص 9.وظل د.سويف طوال الوقت عالِمًا لا يحيا بين زوايا المكاتب،ولا يكتفي بتخصصه الضيِّق،حاصرًا جهوده العلمية في إطاره فقط،بل ظلَّ شديد الاهتمام بتدوين(وقع الأحداث العامة على نفسي؛أحداث الوطن والعالم من حولي،وما كان من اشتباك ذلك كله مع أحداث نموي وارتقائي،وما قد يكون من نتائج هذا التشابك من عناصر في الصورة التي صرتُ إليها) ص 9.لكنه وجَّه جُلَّ سعيه إلى(بيان الكيفية التي نفذت بها الأحداث العامة إلى نفسي،وكيف قرأتها،وما الشفرة التي اختُزنتْ بها في عقلي ووجداني،ثم كيف أسهم هذا كله في تشكيل هُويتي الاجتماعية الحضارية بوجه خاص) ص 10.لذلك عُنيَ في هذا الجزء من سيرته الذاتية،وما رافقها من أحداث منذ ميلاده في 17من يولية 1924بمنطقة ورَّاق العرب التابعة لقسم إمبابة،بمحافظة الجيزة،وحتى نهاية عقد الستينيات،عُنيَ بعرض(ما أمكن لي استخلاصه من مبادئ أو قواعد عامة حكمت حياتي في منعطفاتها الكبرى)محاولًا استقطارها فيما بعد(بعمليات عقلية تشبه"إلى حدٍّ ما"ما نقوم به ونحن نستخلص المبادئ العلمية العامة المنظّمة لمفردات الظواهر مما نهتم بدراسته في مجالات تخصصنا) ص 251،محدِّدًا إياها بسبعة مبادئ(هي ما استطعتُ أن أتبينه إلى الآن؛منها مبدآن يخصان علاقة الذات بالعمل،ومبدآن يُنظّمان علاقة الذات بالذات،وثلاثة مبادئ تتناول علاقة الذات بالآخر"في العالم الاجتماعي"،وأعتقد أنني في طريقي إلى اكتشاف المزيد)ص 261.أما الصيغة الأولى كما استطاع أن يُبلورها فهي(العمل على أساس أقصى المتاح)وكان(تشغيلها يتمُّ على وجهيْن،يتجه أولهما إلى تحديد أقصى المتاح في الظروف الخارجية المحيطة بالذات،ويتجه الثاني إلى شحذ أقصى المتاح بداخلي،أي فيما يتعلق بقدراتي ومهاراتي واهتماماتي وسماتي الشخصية...إلخ).ويعترف د.سويف بأنها(كانت صيغة فاعلة،ولكنها لم تكن مشمولة بقدرٍ معقولٍ من الوعي)..ثم دعا المبدأ الثاني ب"مبدأ الاستدامة"(وعند ابن منظور تعني الاستدامة طلب الدوام مع التأني).وقد عاش أستاذنا الكبير هذا المبدأ(بأعلى درجات كثافته في سياق بحوث المخدِّرات؛إذ بدأتُ الانخراط في سلوكها في أواخر سنة 1957،وما أزال إلى الآن أعمل وأنتج وأقرأ فيها)على نحو ما أورده في تقريرٍ بحثيٍّ قدَّمه في مؤتمر دوليٍّ عُقد في القاهرة في مايو سنة 1977عن(توجهات ظاهرة التعاطي في قطاع الطلاب المصريين على امتداد خمس عشرة سنة المنقضية من سنة 1978إلى سنة 1992،واستندتُ في ذلك إلى المقارنة بين نتائج عدد من الدراسات الميدانية الوبائية كبيرة الحجم التي أجريناها أنا وفريق الباحثين ونشرناها أولًا بأول)ص 262و267و268.ومضى يسرد لنا سائر المبادئ العامة السبعة الذي اكتشف أنها تُنظّم عمل جهاز الحكمة لديه في عددٍ من مجالات السلوك في حياته وهي:المبدأ الثالث:أفضل سياسة للذات نحو ذاتها،هي الصدق مع النفس.المبدأ الرابع:وجدتُ أن قيمة السعادة هي في الرضا عن النفس.المبدأ الخامس:الاحتفاظ بروح المقاومة،ولكن دون استفزاز.المبدأ السادس:أهم صفة أحتاج إلى معرفتها فيمن أتعامل معه،هي درجة اتساقه مع نفسه.المبدأ السابع:تعلمتُ أن آخر محطة يمكنني الوصول إليها في تعاملي مع الآخرين،هي أنني لستُ وصيًّا على أحد)ص270:269.لهذا كله راعى أن يأتي الجزء الثاني الذي حمل اسم(مسيرتي ومصر في القرن الحادي والعشرين)على نسق الكتاب الأول من حيث خصائصه البنائية الرئيسة(فأنا أتابع المسيرة فيه من خلال نقاط التماس بين ما هو عام/عالمي،وما هو قومي/وطني،وما خاص/شخصي)وفق تعبيره ص3،عبر مسافة ممتدة من السبعينيات إلى التسعينيات،أكملَ من خلالها شطرًا آخر من مسيرته العامرة بالإنجازات العلمية والهموم الفكرية التي حايثت رحلته،وشكَّلت- من ثَمَّ- هاجسًا مؤرِقًا لإطلالته هذه،أردفها بخواطر عرضت له وسرَّحت النظر في إشكاليات الأزمة العامة التي نعيش فصولها وتُنيخُ بكلكلها على التطور الاجتماعي المصري وسيرورته السياسية وهياكله الرثة.لذا عرَّج الخطو على قضايا الكمِّ والكيف في حياتنا،والقوالب المفرغة،وعوامل عرقلة الارتقاء والنهضة وتعطيلهما،وهل آن الأوان لعلاج الإهدار؟الأمر الذي اقتضى منه تحديد طبيعة السياق التاريخي للظاهرة المأزومة،وفهم العلاقات التي يمكن أن تُفسِّر لنا الأوضاع الملموسة كدوال،والتعرف على العناصر التي بمقدورنا إدخالها في بنية بحثه المصوغ،والتنقيب عن نقاط التقاء العملي بالفكري بالاجتماعي بالاقتصادي بالسياسي،وإدراك مالديناميكية السياقات المتنوعة ومستويات الواقع التي تملك التأثير على إمكانات التطور من دور.لذلك كان هدفه المرتجى من كتابه"نحن والعلوم الإنسانية"-وهو في أصله ومبتدئه مجموعة مقالات نشرها متفرقة في مجلة"الكاتب"المصرية في الفترة الممتدة من ديسمبر 1967إلى مارس 1968- تجاوز مناخ الهزيمة النفسية واستعادة الشعب ثقته بإمكاناته وبنفسه في أعقاب حرب يونية 1967؛انطلاقًا من مقولة أساسية لديه مؤداها(لكي نُحرِّك الإنسان بالكفاءة التي تقتضيها مطالب الحياة في المجتمع الحديث؛لابدَّ لنا من أن نهتديَ بتطبيقات علوم الإنسان.لابدَّ من اللجوء إلى العلوم التي تكشف لنا عن قوانين الطبيعة البشرية؛لكي نستعين بها على تطويع هذه الطبيعة البشرية).وراح د.سويف يعمل دون كلل ولا هوادة في ضوء شمعة صغيرة في حجرة صغيرة بالمركز القومي للبحوث بإمبابة مع نفرٍ محدودٍ من تلاميذه؛لإنجاز بحثٍ يتغيَّا استنهاض الشعب المصري وعبور مناخ الإحباط والانكسار الذي حلَّ على البلاد،وترشيد المادة الإعلامية التي تُبَثُّ في قنوات الإذاعة والتلفزيون،ولقاء الجماهير والتحاور معها حول سبل ذلك.وهو ما أزعج السلطات التي تعمل على تعليب الجماهير واستدعائها فحسب في مهرجانات الصخب والدعاية الفجة.فوئدَ البحث.لكن أستاذنا الجليل لم يدخرْ جهدًا يؤديه نحو وطنه ومجتمعه؛فأسَّس "أكاديمية الفنون"؛إيمانًا منه بأن مصر(دولة نامية نحتاج أن نُحسِن إنفاق أموالها،خصوصًا بعد خروجها من هزيمة،من خلال ترشيد عملية اختيار الطلاب لهذه المعاهد الفنية باستخدام هذه الأدوات الموضوعية.ومهما يكن المعيار،فإنه سيكون بالضرورة أفضل من معيار الوساطات).لكن الموتورين ومن في قلوبهم مرض كادوا له وتربصوا به،خاصة عندما أصرَّ على ضرورة فصل أكاديمية الفنون عن وزارة الثقافة؛نشدانًا لاستقلالها وتمكينًا لها على أداء ما هو منوط بها من أدوار.فقدَّم استقالته في فبراير 1971بعد أن انتدب من الجامعة ليتولى منصب وكيل وزارة الثقافة لشئون المعاهد الفنية العليا في مايو 1968،ثم مدير أكاديمية الفنون في أكتوبر 1969،وخاض معارك ضارية ضد فساد قيادات وزارة الثقافة،وآثر أن يتفرَّغ لأبحاثه وجهوده العلمية في الميدانيْن:الأكاديمي والمهني.واختارته "هيئة الصحة العالمية" في مايو 1971،عضوًا دائمًا في لجنة الخبراء الدائمين لبحوث التعاطي،وظلَّ بها حتى مايو 1995.وقد عبَّر عن ذلك تعبيرًا ذا دلالة كبيرة يعكس ماهيَّة الدور الذي حدَّده لنفسه بقوله:"كثيرًا ما أجدني منساقًا وأنا في غمرة هذا الاجتماع أو ذاك،مع علماء من شتى الجنسيات،إلى الشعور شديد التبلور بالجذر المشترك الذي يجمع بيننا وهو النشاط العلمي الذي لا هدفَ له إلا تجميع العلم وتعظيم أثره في مشروع كبير للتوجيه والعلاج والوقاية؛تجميع العلم وشحذ كفاءته ليكون سندًا للضمير الإنساني العام في مواجهة بعض الشر"ص 80.ولم يكن ذلك يومًا ببعيد عن توجهه وموقفه العاميْن من العصر وشواغله،بعد أن تخلَّقَ له"دور المشاركة الإيجابية في هذه الفعاليات للضمير العام"ص62.وعَدَّ رحلاته إلى الخارج "سعيًا منه إلى التعلم،ولوضع علمه في خدمة الآخرين"ص53،وظلَّت مصر واسطة العقد في اهتماماته ومتابعة شئونها وشجونها،على نحو ما نراه في قراءته المثيرة للتأمل والتدبُّر لأحداث السياسة والاقتصاد والمجتمع والقيم وتحولاتها،وما أصاب العالم من تطورات نقلته من مرحلة الثنائية القطبية إلى مرحلة الأحادية القطبية،وكيف تداعت الأحداث العالمية متسارعة على امتداد الثمانينيات؛لتكشف عن توجهٍ أصيل لدى الولايات المتحدة بوصفها نظامًا سياسيًّا يزداد جنوحًا إلى اليمين السياسي والاقتصادي في أسوأ صورهما.وقدَّم لنا د.سويف ما دعاه"عينة من مظاهر الاستئساد الأمريكي المتنامي"كما تجلى في حادث السفينة الإيطالية"أكيلي لاورو"في أوائل أكتوبر 1985،ومناورات الولايات المتحدة في البحر المتوسط،وفي منطقة خليج سرت بوجهٍ خاصٍّ في مارس 1986،وما كشف عنه من تكتيكات أمريكية أبانت الضعف والهزال في أحوال الدولة السوفيتية،وبعد أن استعرض هذا كله،أخذ يتساءل بوضوح:ثم ماذا عن مصر؟فيُجيب قائلًا:"في ذاكرتي الوطنية عن فترة الثمانينيات المتوسطة حدثان يقومان كمَعْلميْن بارزيْن:الأول:هبَّة جنود الأمن المركزي مساء 25من فبراير 1986،والآخر:عودة ظهور مُخدِّر الهيروين بين المضبوطات المُعلَن عنها في تقرير"الإدارة العامة لمكافحة المُخدِّرات"لسنة 1985،رائيًا أن كليْهما يصلح لأن يُعالَج باستفاضة بعنوان"دراسة حالة في إطار العلوم الاجتماعية/السياسية/النفسية".بَيْدَ أن أبرز ما لفتَ نظره في عقد الثمانينيات المصري على الصعيد الوطني،كان انفراط روح الجماعة،ومن ورائه مايُشبه غضب البراكين الذي لا ينقصه سوى تنظيم الإرادة وتبصرها.أمَّا على المستوى الشخصي –كما يقول- فقد كان هناك التأكيد الدائم على قيمة العمل الإيجابي في مواجهة القريب المعلوم والبعيد المجهول. ومضى المعلم الرائد د.مصطفى سويف يستدعي ما تختزنه ذاكرته من مفردات حديثة،وجد أنها تنتظم فيما بينها حول محاور ثلاثة:أولها:يتجه إلى معنى محاولات"التعبير إلى الأفضل"،وثانيها:يؤلّف بينها ما تُشير إليه من تحديدٍ"لمستويات الأداء"،وثالثها:يجمع بين أحداث تتعلق ب"شئون المال العام"،ثم يتوقف عند حدثيْن/مَعْلَميْن آخريْن نقلهما من صفحة ذاكرته الشخصية:أحدهما هو نقل السلطة(في القسم الجامعي الذي كان يرأسه)إلى تلاميذ الأمس وزملاء اليوم،مستخلصًا درسًا مُفاده،أن من يزرع الخير؛يحصد الخير والجمال معًا،والآخر عودته إلى تغليب الكتابة العربية فيما يكتب،بعد أن كان قد اتجه بمعظم مؤلفاته البحثية إلى الإنجليزية يخاطب بها أرباب التخصص حيث كانوا في العالم على اتساعه.غير أنه يُبادر فيجلو الأمر وضوحًا قائلًا:"إن الباعث على الكتابة بالإنجليزية كانت الحاجة إلى أن تُقالَ كلمة العلم الوطني القائم عن البحث الجماعي الرصين في شأن المُخدِّرات والتعاطي والإدمان.فرأيتُ أن أستجيبَ لهذه الحاجة،وأن أُعطي هذه الاستجابة قدرًا من الأولوية أو الأفضلية على التأليف إلى مخاطبة الأسرة العالمية للعلماء"ص52.لكن أهم ما ختم به أستاذنا د.سويف كتابه،كان تطرقه إلى الوعي بالتاريخ،وإلى الرسالة الاجتماعية لعلم التاريخ؛إذ إن علم التاريخ لديه يمكن أن يكونَ له توجهان(توجه أكاديمي يكون مطلب الباحث فيه،هو اكتشاف الحقيقة ومتعلقاتها،وتوجه تطبيقي،يكون المطلب الرئيس فيه تطويع مكتشفات الشِّق الأكاديمي للإفادة العملية في عددٍ من مجالات الحياة الاجتماعية)،لكن يظلّ سؤاله الأساس متمحورًا حول(مدى الموضوعية في شهاداتي التي أقدِّمها،وفيما يمكن أن يُقدِّمه"أو ما أرجو أن يُقدِّمه"أمثالي من شهادات في هذا المجال).وبقيَ مُعَوِّلًا دومًا على(تفعيل قواعد المقاومة بعيدة المدى) مؤكِّدًا أن صيغتها (لا تُزكِّي نوعًا بعينه من الأعمال دون غيره،ولكنها تُزكِّي أي عملٍ يعتبره صاحبه وثيق الصلة بصميم ذاته،وجزءًا لا يتجزأ من هُويته،وهي الكفيلة باستمرار إرادة البناء والتقدُّم).أجل..إن مسيرة العالِم الرائد د.مصطفى سويف في القرنيْن:العشرين والحادي والعشرين تحثّ على المواجهة والتصدي في ظلِّ شرطٍ عامٍّ مُعادٍ لإنسانية الإنسان،مؤكِّدًا على حيوية الإيمان العميق بعلمٍ له حضوره الفاعل في ثقافتنا الوطنية،وضرورة وضع علم النفس في الجامعات المصرية في ضوء التطور الحادث لعلم النفس في جامعات الدول المتقدمة،بعد أن أدرك احتياجات مجتمعنا المصري إلى هذا العلم لاسيما (القوات المسلحة،ومصلحة الكفاية الإنتاجية التابعة لوزارة الصناعة،وإدارة الصحة النفسية بوزارة الصحة،وإدارة الدفاع الاجتماعي بوزارة الشئون الاجتماعية،والمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية)؛ونظرًا إلى (ضعف مستوى الخدمة النفسية كما نُقدِّمها في الوقت الحاضر)؛وليكون سلاحًا لنا في صراعنا العربي-الإسرائيلي؛حيث (تقوم على تدريس مُختلِف فروع علم النفس أقسام مستقلة لهذا العلم داخل الجامعات الإسرائيلية،على رأسها الجامعة العبرية بالقدس وجامعة بار إيلان؛لتغذية وحدة الخدمات النفسية بالقوات المسلحة الإسرائيلية).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أهلا بكم في أسعد -أتعس دولة في العالم-!| الأخبار


.. الهند في عهد مودي.. قوة يستهان بها؟ | بتوقيت برلين




.. الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تزداد في الجامعات الأمريكية..


.. فرنسا.. إعاقات لا تراها العين • فرانس 24 / FRANCE 24




.. أميركا تستفز روسيا بإرسال صورايخ سراً إلى أوكراينا.. فكيف ير