الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تناولُ الطعام مع جثةّ!

نبيل محمود

2016 / 7 / 8
الادب والفن


( لابد من التنويه أن هذه القصة متصلة بأحداثها وشخصياتها بقصة (تقريظ الفشل)..)

(قال الجندي المرح
لرفيق السلاح المتجهّم:
- هيّا بنا.. فالخبر السعيد
أنّنا لن نمكث طويلاً
في هذا العالم الحزين!) *

لم يكد سمير ينهي فترة التدريب العسكري في إحد مراكز التدريب حتى تمّ تنسيبه للالتحاق بوحدة عسكرية في جبهات القتال. كانت الحرب قد وصلت إلى ذروة الاقتتال الضاري دون حسمٍ واضح. وكان تعويض الوحدات بالمقاتلين الذين يتساقطون كل يوم ضرورة من ضرورات إدامة الزخم القتالي للجيش. وصل إلى وحدته العسكرية بعد غروب الشمس. قدّم أوراقه في القسم المختص وأرسلوه إلى رئيس عرفاء الوحدة. أخذه إلى المشجب وجهزوه بالخوذة والسلاح الشخصي والعتاد وزودوه بالبطانيات. وكما في كل الليالي، كل ذلك كان يجري على ضوء الفوانيس و(اللالات) تلك القناني الزجاجية المليئة بالنفط وفتائلها القطنية، من مبتكرات الحرب وظلامها. ولما كان الظلام دامساً في الخارج فلم يكلف رئيس عرفاء الوحدة نفسه مشقة البحث عن مكان لمبيته غير أقرب موضع فارغ من تلك المواضع المتباعدة.. المحفورة تحت الأرض والمغطاة بأكوام التراب ليقضي الليل فيه، ريثما يدبّر له مكاناً في الصباح، مع مجموعة جنود الفصيل الذي سيكون أحد أفراده. نزل سمير داخلاً إلى الموضع وهو يتحسس بقدمه درجات المنفذ الترابية المفضية إلى داخل الموضع. كم ندم في تلك الساعة أنه قد ترك التدخين منذ فترة، ولعن تلك النصائح الصحية بالابتعاد عن التدخين لتفادي الاصابة بالسرطان! فلا قداحة معه ولا عود ثقاب ليرى طريقه وشكل هذا الجحر الذي سيقضي ليلته فيه وحيداً. أي سرطان كان سيكون أشد وطأة وألماً من وضعه ذاك؟! في يده اليسرى حقيبته الصغيرة، وفي يمينه سلاحه الشخصي، والخوذة تثقل رأسه، والبطانيات التي سيتلفلف بها في ذلك الليل البارد تحت إبطه.

ما أغرب وأعجب هذا العالم الحديث! ما أشد التناقض في جغرافيا الحياة فيه ومفارقاته العقلية والعاطفية والوجدانية!.. التأمل في خرائطه يبعث على اليأس والاحباط حقاً. ففي أجزاء منه تجد الضياء والجمال والفرح والحب والسلام والرفاه، وفي أصقاعه الأخرى تجد الظلام والقبح والكراهية والحروب والخرافة والتعاسة والفقر. إنها الفظاعة اللامتناهية الباعثة على الجنون إذا ما اجتمعت كل هذه الصور المتناقضة لعالم واحد في رأس واحدة؟! أليس الأولى بهذه الرأس أن تُفجّر وتُحطّم.. وأن تُنسف بلا شفقة ولا رحمة؟!

-إذاً!.. ها هي عاقبة اهمالي وعدم انتظامي في الدراسة وعبثي، تنتهي بي للهبوط إلى أعماق حفرة حقيرة، لا رائحة فيها غير رائحة التراب الرطب والهواء المتعفن، منزوعاً من حريتي، ومرتدياً بزة الحرب! الرطوبة الباردة تتغلغل في عظامي وهذه الظلمة تحولني إلى كائن أعمى لا يبصر. أكانت كلمات أبي نبوءةً أم تحذيراً لم أصغِ لها كما ينبغي؟ فمضيت أتلاعب بحياتي وأتفلسف حتى انتهى بيَ المطاف إلى هذا المحجر القسري والعزلة الموحشة بعيداً عن الحياة الطبيعية.
أتحسس برودة معدن سلاحي.. في هذا الظلام القارس ينفتح، في أعماق نفسي المجعدة، فمٌ غاضب يصرخ صرخةً جوفاء ومكتومة كأنها صاعدة من بئر مهجورة. ماذا لو سدّدت فوهة هذا (الكلاشينكوف) إلى رأسي، ودون تطبيق قاعدة الفَرْضة والشُعيرة! التي دربونا عليها وضغطت على الزناد وانتهيت من كل شيء فوراً بحركة واحدة وأخيرة؟ ألا أحرم الآخرين من حرية التصرف العبثي بجسدي وامتهانه.. فأقوّض خططاً لم أشارك بوضعها؟ وأمنع جسدي من أن يكون وسيلة لغايات لا أعرف مداها ولا جدواها؟
هل في هذا قوة وسطوة السلطة؟ استغلال حب الجسد للحياة والتمسك بها، حتى وإن لم يكن سعيداً وحراً بالتمتع بهذه الحياة اليوم، فيظل يأمل بيوم قادم يكون فيه أكثر سعادة..

ولكن القادم دائماً هو الأسوء! حب الجسد للحياة وهذا الأمل بالسعادة هو ما تستثمره أية سلطة للتحكم بالأجساد ولجمها وتسخيرها في عبودية دائمة.. بزجها في القطيع الكبير.. قطيع تسوقه لأقرب مسلخ! هل أنا بهذه الجرأة والشجاعة لأنتزع القوة من هذه السلطة؟ بأن أحرمها من سبب ووسيلة قوتها؟ أن أحرمها من تحكمها بجسدي وتسخيره لغاياتها؟ هل أنا بهذه الجرأة والشجاعة لأفعل هذا؟ ألا أحرّر نفسي من عذابي هذا وعذابات مقبلة لا أستطيع التكهن بها؟
يا للتعاسة!.. إن لم تكن ولادتي بإرادتي، فلتكن ساعة موتي من اختياري إذن..
غافلني الوجود مرة بمنحي الحياة رغماً عني دون سؤالي عن مكانها وزمانها..
فلماذا أمنحه فرصة التحكم بها حتى النهاية؟
إن لم أكن قادراً على تحديد تاريخ وكيفية البداية، فعلى الأقل لدي القدرة الآن على رسم شكل وتاريخ النهاية..
ما أعظم أن يكتب المرء تاريخ موته بنفسه ضد إرادة أية سلطة بشرية أو أية قوة أخرى! فإن لم تكن حريتي كاملة، فعلى الأقل، لتكن نصف حرية!
ولكن خلايا جسدي الجبانة لم تطاوع أفكاري الشجاعة! اللعنة على هذا الجسد الذي يتمسك بالحياة، بأية حياة، حتى وإن كانت بمنتهى اللامعقولية والمهانة..

حفرة سوداء
ــــــــــ

الجنادب تجرح جسد الليل
فيصيح الظلام
وتنسكب الوحشة السوداء في العروق
لمْ تعبرْ أية نجمةٍ من ثقوب سقف هذا الليل
وعود الثقاب مبلّلٌ بالدموع..
تتلمس غصناً يابساً
فتتكسّر حبالك الصوتية
وتهوي إلى العالم السفلي صارخاً بلا صوت
الكلمات والحروف تلتصق في حلْقك بصمغٍ قاتم..
تشتهي كأس ماء
في عطش وحدتك
فتلتهم العتَمةُ أصابعَك
وروحك منجم كبريت مهجور
جاهز للانفجار..
اغفُ بسرعةٍ، سيحرقك النهار!

مرّت الشهور على سمير.. كدهرٍ منطفئ، كحياةٍ مختنقةٍ في عوالمٍ سفلية. لا يتنفس ولا يعرف معنى الحياة فيها إلاّ حين تحين موعد الإجازات الدورية إن كان الموقف العسكري يسمح للتمتع بها في وقتها المحدّد. كان يقضيها في البيت مُلاحقاً بنظرات أبيه المعاتبة ودعوات أمه المتضرعة والداعية له بالسلامة. كان يختلس ما يمكن اختلاسه من فرصةٍ للقاء دعاء وحسب ما تسمح ظروفها بذلك. وفي هذه الأثناء كانت لقاءاته بها ذات طعم آخر. طعم موزّع بين منتهى الحميمية الدافئة والتحسّر على الانقضاء السريع للأوقات السعيدة. كل لقاء كان يبدو كأنه الأخير بينهما، فمن يضمن أي شيء وهو جزء تافه، متناهي الضآلة، في ماكنة الحرب المجنونة هذه. فتنتهي أيام الإجازة القصيرة بلمح البصر، وتمتدّ أيام الجبهة كدهر لا ينقضي. لم يكن يعزّيه في تلك الأيام سوى ديوان محمد الماغوط (الفرح ليس مهنتي) وبعض الكتب الأخرى. والرفقة المفروضة عليه لمشاركة الآخرين في كل شيء، التدريب والواجبات والأكل والمنام.. فلا مجال لأية خصوصية في الجيش. وهكذا حُرم حتى من تلك الخلوة القصيرة مع نفسه. لكنه بالمقابل قد حظي بفرصة الاستماع لقصص وحكايات لم يجدها يوماً في أي كتاب. فللحرب خيال لن يجاريه أكثر الكتّاب خيالية وفنتازية! ومن تلك القصص ما رواه يوماً العريف حسن عن تجربة مريرة عاشها..

كانت من الأويقات القليلة التي يحظون بها ببعض الراحة والتخفف من التوتر خلال اليوم تلك الساعة التي ينتهون فيها من تناول طعام العشاء عند المساء. حيث يتحلقون بمجموعات صغيرة لاحتساء الشاي والمسامرة وتبادل الأحاديث والاستماع لحكايات عن حيواتهم وأحلامهم، بعد نهار متعب ومضنٍ.. أحاديث وحكايات عن مدنهم وقراهم وحياتهم، وعن الحب والحرب وآخر الأخبار عن السياسة، وخاصة تلك التي تخدّر النفوس وتمنّيها بجهود تُبذل لوضع نهاية سريعة لهذه الحرب.. إلخ. لكن ما رواه لهم العريف حسن في ذلك المساء كان حكاية أخرى، مثيرة ومرعبة.. كانت حكاية عن الحرب ايضاً، ولكن أية حرب؟ حكاية عن جسد الحرب العاري! الحرب وهي تمارس الحب! بشبقٍ لا يرتوي ونهم لا يشبع من الأجساد التي لا يتركها إلاّ وهي متيبسة بلا حراك، بعد امتصاص رحيقها.. ووشمها بالنار .. بدأ العريف حسن حديثه بالتهوين من شكاواهم من تعاسة الحرب وضغوطها فاقترح عليهم أن يحكي لهم عن تجربة مر بها لكي يقارنوا ويكفّوا عن الشكوى ويدركوا كم هم سعداء في وضعهم هذا الآن!

-كنت قبل سنة من الآن في وحدة عسكرية بمواجهة العدو مباشرة في الخطوط الأمامية.. وكنا نقضي الأيام بنهارها وليلها بمجموعات من أربعة إلى خمسة جنود في خندق حفرناه وحصنّاه بأكياس الرمل والتراب.. وكانت تصلنا الأرزاق على دفعتين في اليوم.. أحيانا طعام مطبوخ أو أرزاق جافة ومعلبات، إذا ما سمح الموقف العسكري بذلك.. ففي الأيام التي يشتد فيها القصف الجوي والمدفعي كان علينا تدبّر أمورنا بما لدينا من مخزون من أرزاق جافة ومعلبة وصمون قاسٍ بائت هذا الذي نسميه (طابوقة) لصلابته وتيبّسه.. وكل هذا كان روتيناً مقبولاً نحمد الله عليه!

-ولكن الأسوء يحدث حين تبدأ معركة ما، عندما نتعرض لهجوم مباغت. وذلك ما حدث في تلك المعركة التي لن أنساها ما حييت.. لم نخض معركة مثلها من قبل ولا فيما بعد.. فبعد انقضاء المساء وخلودنا إلى النوم وسهر أحدنا للقيام بواجب المراقبة كل بدوره.. استيقظنا نحن الأربعة مفزوعين، بعد منتصف الليل، على أصوات قصف مدفعي كثيف غير مألوف كان شديداً ومركّزاً.. ما يعني أنه مقدمة وتمهيد لهجوم بري محتمل.. ولما استفسرنا من خامسنا الذي كان يقوم بواجب المراقبة أكد لنا أن الأمر يبدو وكأنه هجوم كبير.. أحكمنا ارتداء خوذاتنا واحتمينا جيداً خلف الأكياس ورحنا نترقب الوضع بتوجس.. كانت القذائف تتساقط حولنا بكثافة.. وكان بعضها يصيب بعض خنادق وحدتنا.. فيعلو صوت صراخ وأنين مع كل رشقة من القصف..
هدأ القصف بعد ساعتين ومر بخندقنا كما بالخنادق الأخرى مراسل لينقل إلينا أوامر مشدّدة من القيادة بأننا نتعرض لهجوم وشيك وما على الجميع سوى الصمود، كل في موضعه، والدفاع حتى آخر طلقة من سلاحه وآخر قطرة من دمه! وإلا فإن كل من يترك موقعه منسحباً سيكون مصيره الاعدام الفوري!.. كان الأمر صريحاً وجازماً ولا مجال للتهاون في تنفيذه حرفياً..

-بدأت تصل إلى أسماعنا رشقات المدافع الرشاشة الخفيفة, وتتفجر هنا وهناك قذائف الهاونات.. وهذا يعني أن قوات العدو قد باشرت الهجوم البري والتقدم والاشتباك مع قواتنا.. وفي هذه الحالة يكف الطيران عن التدخل لالتحام القوات وانعدام القدرة للتمييز بين الطرفين. كان على كل مجموعة إذن، أن تتصرف لوحدها، تدافع وتحمي نفسها.. خيار واحد لا غير.. أن تقتل قبل أن تُقتل.. بهذا تحفظ حياتك ويتحقق النصر..! وخلاف ذلك معناه فقدان حياتك والهزيمة.. في هذه الحالة تسقط كل الشعارات والأفكار وتبقى غريزة الإنسان للحفاظ على حياته..

عند هذا الحد تدخل سمير مقاطعاً حديث العريف حسن:

-يعني من يقتل أولاً وأكثر هو الذي ينتصر.. أهكذا تعمل الحروب؟ أهذا هو سرها؟ أن تكون مسألة الحياة والموت والنصر والهزيمة مرتبطة بغريزة الإنسان في الحفاظ على جسده، ومنقوشة على جلده؟ غريزة حفظ الذات محركها الداخلي وآلتها السحرية؟!

-مهلاً عزيزي سمير.. لا تزج عقلك بالأمر أثناء المعركة!.. كثرة التفكير في الظروف العادية تفسد بعض الأمور.. اما كثرة التفكير في الحرب فقاتلة! عند احتدام المعركة دع القرار لجسدك فهو سيفكر خيراً من عقلك! لذلك نصحتك مرة بألا ترهق عقلك بالتفكير كثيراً لكي تخرج سالماً من هذه الحرب.. ودع التفكير للقادة.. فإن لم تفعل ستصاب روحك بالهم والغم قبل ان يصاب جسدك بالرصاص والشظايا..

-والآن دعني أكمل الحكاية..
حين تلاشى الظلام ولاح ضياء الفجر وجدنا أنفسنا مشتبكين في قتال ضارٍ، وموجات من المقاتلين تتوغل بين خنادقنا، حتى صار كل خندق جزيرة معزولة عليها تدبر أمرها بنفسها.. لم يَعُدْ العدو أمامنا بل صار يفاجئنا من كل جهة.. توزّعنا نحن الخمسة بدائرة في محيط خندقنا الصغير وأخذنا بإطلاق النار على كل ما يتحرك يقع عليه بصرنا.. فقد كنا واثقين أن المدافعين داخل الخنادق، وأن كل من يتحرك خارجها هو العدو المهاجم، سواء أكان أمامنا أم جاءنا من أية جهة.. لقد خيّل لي حينها أن الوجود وحياتنا وحدة واحدة مرتبطة بهذه الحفرة الصغيرة التي تحت أقدامنا.. لقد بدت الكلمات الكبيرة مثل الوطن بلا معنى.. صارت تلك الحفرة هي وطننا الحقيقي ومعنى حياتنا ووجودنا كله.. وفقدانها أو التخلي عنها معناه التخلي عن الحياة وموتنا بلا رحمة.. لقد كانت أجسادنا هي التي تفكر وتقاتل وتبذل كل ما في طاقتها للحفاظ على بقائها..

-من حسن الحظ أن الذخيرة التي لدينا كانت وفيرة والمهاجمون غير حريصين على حياتهم كما يجب بمقاتل حقيقي.. كانوا كأنهم غير عابئين بأجسادهم باندفاعهم المتهور.. المشكلة الحقيقية بالنسبة لنا كانت هي قلة مخزوننا من الماء والصمون أما الأرزاق الجافة والمعلبات فكانت تكفينا لأيام..
صمدنا حتى الانهاك التام وقبل حلول المساء بقليل بدأت موجات المقاتلين تقل قليلاً.. في تلك الأثناء دوى انفجار قوي قرب خندقنا ولم نعد نبصر شيئاً لدقائق بفعل التراب والغبار الذي ارتفع وبدأ ينهمر وينثال على رؤوسنا.. وحمدنا الله على أن القذيفة لم تصب خندقنا مباشرة. بعد تشتت غيمة الغبار والدخان مسحنا عيوننا ووجوهنا.. لفت انتباهي أن هادي الذي كان على بعد متر مني لا تبدر منه أية حركة! ناديته لم يجبني.. ولما كان صوت الانفجار شديداً، حتى أنني حين نطقت باسمه لم أسمع صوتي، افترضت أن أذنه قد صُمّت مؤقتاً مثلنا.. خطوت خطوة باتجاهه وحركت كتفه.. فلم تصدر منه أية حركة أيضاً.. أمسكت بكتفيه بكلتا يديّ وأدرته نحوي.. كان صدره غارقاً بالدم وجرحٌ في رقبته لا يزال ينزف.. تناولت قطعة ضماد من صندوق الاسعافات الأولية وحاولت وقْف نزيف الجرح.. تجمّع الثلاثة الآخرين ومد أحدهم أصبعه على وريد رقبته من الجانب الآخر.. وأجهش وهو يقول.. لا فائدة يا حسن! لا فائدة! فلا عرق فيه ينبض!.. لقد فارق الحياة..
جلسنا نجهش بمواجهة هادي الذي كان معنا قبل دقائق قليلة.. كان الخندق أصغر من أن نمدّده مضطجعاً على الأرض فاكتفينا بمد ساقيه نحو مركز الخندق بوضع الجلوس وأحكمنا اسناد ظهره إلى حافة الخندق. رفعنا الخوذة عن رأسه المحنية على صدره، وخلعنا بسطاليه، وغطّيناه بأحدى البطانيات من قمة رأسه حتى أخمص قدميه..
كان صوت رشقات السلاح قد خفت إلى حد كبير.. ولكن أصوت وومضات قذائف مدفعيتنا كانت تشتدّ بكثافة على مواقع العدو الخلفية.. كانت الفرصة مواتية لنا لالتقاط الأنفاس بعد نهارٍ مرعبٍ وطويل..

كان القمر شاحباً كقرصٍ جامد بعيد من غبار بنّي.. وأقداح الشاي فارغة وأعقاب السجائر متناثرة على الأرض.. كانت الوجوه والأنظار والأسماع مشدودةً إلى العريف حسن.. الذي استأنف سرد حكايته:

-هل سبق لأحدكم أن أمضى ساعات طويلة مع جثة؟! يتناول طعامه ممتزجاً بطعم الموت ورائحة البارود.. هل تعرفون ما معنى أن تقضموا صموناً متحجراً كالفئران في الظلام.. وبقربكم ترقد جثة تفوح منها رائحة الموت, والدموع تبلل العيون؟!

-نهارنا الثاني لم يكن بأفضل من سابقه.. فالهجوم كان لا يزال زخمه قوياً وهذه المرة أصيب جبار برصاصة أو شظية في ساعده الأيمن.. عقّمنا الجرح ووضعنا فوقه الضماد وربطناه بالشاش بإحكام، وعقدنا أعلى الجرح بقطعة من الشاش بقوة لوقف ومنع النزيف. من وقت لآخر كان يصرخ من الألم بقوة، ولكن صوت صراخه كان يضيع وسط أصوات الانفجارات والرصاص.. نجحنا بتجاوز النهار الثاني وعند الغروب بدا أن العدو قد بدأ يعيد حساباته، بعد أن تأكد من أن خسائره أكثر مما كان يأمل بتحقيقه من نتائج.. فكانت ليلتنا أهدأ من سابقتها، كان التعب والاعياء وقلة النوم قد أنهكتنا.. لكن كان علينا مغالبة كل ذلك، فعسى أن يتغير الحال ويتم استيعاب الهجوم.

-عند الصباح انتعشت نفوسنا قليلاً، فالفجر كان أهدأ من اليومين السابقين، وازداد ارتياحنا حين ظهرت في السماء مروحياتنا وهي تمر فوقنا وتمضي إلى الأمام وكأنها تطارد بقايا المهاجمين. عند الضحى بدأت تصلنا مفارز من الفرق الطبية.. ومعها قوات أخرى لتعزيز مواقعنا. ولكن الحقيقة لم تكن كذلك، فقد أخذت مجموعات جديدة من المقاتلين تأخذ مكاننا. لقد صدرت الأوامر بسحب وحدتنا واستبدالها بأخرى. قامت مفرزة طبية بإخلاء جثة هادي وإسعاف جبار واصطحابهما إلى الخلف. عندما خرجنا نحن الثلاثة من الخندق وألقينا نظرة على المكان أصبنا بالذهول. كانت آثار القذائف وحفرها أكثر من أن تُحصى.. والجثث المتناثرة من الطرفين يصعب عدّها.. كانت مذبحة حقيقية.
لم نعرف طبعاً الأرقام الحقيقية لا في حينها ولا فيما بعد. ولكن عندما تمّ إخلاءنا إلى المواقع الخلفية لإعادة التنظيم، قرأنا في وجوه ودموع من تبقّى من وحدتنا حجم الخسارة!

عندما انتهى العريف حسن من حكايته، كان طعم الشاي الأسود قد اختلط في الحلوق برائحة الموت والأسى.. نهض الجالسون وتفرقوا بصمت، وكل واحد منهم يقصد مضجعه. فليلهم ليس حراً.. ولكل واحد منهم واجب ينتظره عليه الاستعداد له بأخذ قسط من النوم.

وفيما كان سمير يسير بتثاقل نحو مضجعه، ويدمدم مع نفسه.. هل هذه هي الحرب؟
كن جثة أو تناول طعامك مع جثة!

شعر بيدٍ تربت على كتفه برفق.. والعريف حسن يقول له بصوت خفيض..

-لا تفكر فلها مدبّر!.. لا تفكر كثيراً يا سمير.. فلا أحد يموت ناقص عمر..

تمتم سمير وكأنه يحدث نفسه..

-نعم، لا أحد يموت ناقص عمر.. فبموته يُكتب أمد عمره..
لا أحد يموت ناقص عمر.. ولكنه حتماً يموت ناقص حلم وأمل!

لم يُضف أي منهما المزيد.. ومضيا صامتين كل إلى مضجعه..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نبيل محمود، من قصيدة ليلة سقوط الدمعة، تفاحات إيروس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى


.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا




.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني