الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب الأمير (قصة كاملة)

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2016 / 7 / 10
الادب والفن


(هذه القصة هي الجزء الثاني من قصة بعنوان "أمير المستنقعات" نشرت في المتمدن وفي نهاية القصة، رابط الجزء الأول)
1
لم تكن الشمس قد مالت إلى المغيب كاملةً، عندما اهتزت ستائر شرفة الحجرة الخلفية من قصر الحكم لتظهر من خلالها يد صغيرة لم تلبث أن أزاحت الستائر كلها لتقفز إلى الشرفة طفلة صغيرة كانت من فرط جمالها أقرب إلى الجنيات منها إلى الأطفال، أخذت تتقافز في كل أرجاء الشرفة الفسيحة مطلقةً ضحكات أرق من العصافير في بهجتها، وهي تداعب الأغصان التي تدلت من الأشجار القريبة إلى داخل الشرفة.
وقبل أن تهم الطفلة بتسلق أحد هذه الأغصان كعادتها، سمعت خطوات تقترب من باب الشرفة؛ فعادت بظهرها إلى الخلف لتلتصق بالجدار، وكأنها تنفي للقادم أنها حاولت تسلق الأغصان. وبعد قليل، أزيحت الستائر بالفعل لتكشف عن امرأة هي نسخة كبيرة من الطفلة في بهائها ورقتها قالت مخاطبة الطفلة في صوت لا يقل رقة عن هيئتها، وإن اكتسب بعض الحزم: "لقد حاولت تسلق الأغصان مرة أخرى يا ليا".
اختفى المرح والبهاء من ملامح الطفلة، وحل محلهما شيء من الخوف، وهي تقول في تلعثم متحاشية النظر إلى المرأة التي وقفت أمامها مباشرة حاجبة عنها كل شيء آخر: "يا أمي، لم... لم...".
لكن أمها لم تترك لها المجال لإكمال عبارتها؛ فقاطعتها في نبرة عكست ما تشي به ملامحها من غضب شديد: "إذن، حاولت بالفعل أن تتسلقي الأغصان. سوف أطلب من والدك أن يقصها كلها"، ثم احتسبت الكلمات في صدرها من فرط غضبها، قبل أن تتابع: "كلا، سوف أطلب منه أن يقص الأشجار كلها".
اتسعت عينا الصغيرة في ذعر، وراحت تنظر إلى أمها غير مصدقة: "يقص الأشجار؟! وتختفي السناجب؟!".
قالت الأم في الغضب نفسه: "نعم، وتختفي السناجب".
انطلقت الطفلة داخلة إلى الحجرة، وقد ارتفع صوت بكائها؛ فتلقفتها المربية في أحضانها، وحملتها بين ذراعيها قائلة في حنان: "ما الذي أبكى أميرتنا الصغيرة؟!".
ولكن قبل أن تجيب الطفلة، دخلت الأم إلى الحجرة، وقالت في غضب: "لقد حاولت تسلق الأغصان!".
انحنت المربية في احترام وتبجيل لمجرد مرأى الأم، رغم أنها تحمل الطفلة محتفظةً في الوقت نفسه بها في وضع معتدل، وهي تقول: "سيدتي الملكة!"، ثم اعتدلت في وقفتها، وقالت مخاطبة الطفلة في عدم تصديق مصطنع: "حاولت تسلق الأغصان؟! هل حقا حاولتِ تسلق الأغصان يا ليا؟!".
هزت الصغيرة رأسها مجيبة بنعم وهي تنحني لأسفل، قبل أن تقول في صوت خفيض لا يزال يحمل أثر البكاء: "كنت فقط أحاول أن ألهو مع العصافير".
نظرت المربية إلى الملكة، وكأنها تستأذنها في الرحيل، فأشارت لها الملكة بيدها معطية لها الإذن؛ فعادت المربية تنظر إلى الطفلة مخاطبةً إياها، وهي تتجه بها خارج الحجرة: "تلهين مع العصافير؟! وكيف تلهين مع العصافير؟! هل تستطيعين الطيران مثلها؟!".
وعندما خرجت من باب الحجرة، أغلقته خلفها، وهي لا تزال تواصل الحديث مع الطفلة، فيما عادت الملكة إلى الشرفة، وراحت تنظر إلى السماء التي ازدانت بكل ألوان الطيف في لمسة فنية من الشمس في لحظاتها الأخيرة قبل المغيب الكامل؛ فتنهدت في عمق وبدأت في الارتخاء قليلًا مع نسمات الغروب العذبة. فوقفت تطالع الموجودات من حولها، ووقع بصرها على الأغصان، فقالت وهي تتأملها: "وأنا طفلة لم أكن أتسلق الأشجار"، ثم تنهدت في عمق، وكأنها تستعيد ذكرى له أثر ثقيل على قلبها قبل أن تضيف: "كنت أتسلل عبر ممر الأرانب".
وحانت منها نظرة إلى المستنقعات البعيدة، وقالت في نفسها: "أتراه لا يزال يحيا بداخلها؟!"، وتردد في أعماقها سؤال آخر: "أتراه على قيد الحياة؟!"، لكنها لم تجرؤ في التفكير في هذا الاحتمال أكثر من ذلك؛ فهزت رأسها بقوة، وكأنها تنفض عنها الذكرى وتساؤلاتها، قبل أن ينتفض جسدها نفسه بقوة، عندما شعرت بيد قوية تلمس كتفها؛ فاستدارت في هلع لتجد أمامها رجلًا بدا من ملابسه وهيئته أنها الملك؛ فقالت في ذعر: "لقد أفزعتني يا كاين".
احتواها "كاين" بين ذراعيه محاولًا تهدئة فزعها فاستكانت ملقية برأسها على صدره، وظلا على هذا الوضع لبرهة قصيرة، قبل أن يقول، وهو يداعب شعرها بأنامله: "ما الذي جعل ملكتنا وأميرتنا يدخلان في هذا الصراع المرير؟! لعله تسلق الغصون مرة أخرى؟!".
رفعت الملكة رأسها عن صدره، وهي تقول: "نعم، هو تسلق الغصون".
أفلتها الملك من ذراعيه، وراح يتطلع حولهما للأشجار وما عليها من زهور وكائنات مختلفة، قبل أن يقول: "أفكر بالفعل أن أنفذ تهديدك الدائم لها وأقطع هذه الأغصان أو حتى الأشجار كلها".
انتفض جسدها بقوة، والتفتت إليه في حدة قائلة: "كيف ذلك؟! تقطع الأشجار يا كاين؟! كيف؟!"، ثم تلفتت حولها، وراحت تمرر بيدها على الأغصان، مضيفةً: "تقطع الأغصان؟! إنها تكبرني سنًا"، وصمتت قليلًا قبل أن تهز رأسها ويديها في حركات بها الكثير من العصبية، وتقول: "بل إن بعضها يكبر أبي الراحل!".
بدا أنها أنهت كلامها، وهدأت قليلًا، لكنها عادت تتساءل في العصبية نفسها: "وماذا عن الكائنات التي تعيش داخلها؟! ماذا عن العصافير والسناجب؟!".
كان ينظر إليها في صمت، وانتظر حتى بدا أنها انتهت من كلامها، وقال في صوت هادئ: "وكأنني أرى ليا تتكلم!".
اتسعت عيناها في عدم تصديق، وقالت في ذهول: "هل تستهين بحياة الكائنات فعلًا يا كاين؟! ألا تهمك مشاعر ابنتك، عندما تستيقظ في يوم ما لتجد الأشجار، وقد تلاشت؟!".
كانت الكلمات تندفع منها وكأنها أمطار تتساقط على أرض جدباء تبغي إحياءها؛ فرفع حاجبه الأيسر كعادته في التعبير عن الاندهاش، قبل أن يقول في النبرة الهادئة نفسها: "لقد أوشك قلبك على الاحتراق لمجرد طرح فرضية إزالة الأغصان! ماذا إذا علمتِ ما أخطط له؟!".
انقبض قلبها لطريقته في الحديث، فلم تقو حتى على التساؤل بالكلمات؛ فاكتفت بالتساؤلات التي تفجرت في عينيها؛ فقال لها: "أفكر في إقامة منطقة عسكرية جديدة... منطقة تكون على الأطراف بعيدة عن كل التهديدات ومعزولة تمامًا عن كل الجهات التي يمكن أن تأتي منها التهديدات".
قالت متسائلة دون أن تهدأ مخاوفها: "وما فائدتها إذن؟!"، وصمتت قليلًا ثم عادت تتساءل: "وما علاقة ذلك بالأشجار؟!".
أجابها في هدوء، وهو ينظر إلى الفضاء الفسيح: "بالنسبة لفائدتها؛ فهي سوف تكون مخصصة لتدريب قوات خاصة تنفذ مهام خاصة للدفاع عن المملكة خارج حدودنا... قوة مشتركة بين مملكتنا ومملكة والدي"، ثم أضاف بعد صمت: "أما عن مكانها..."، وتابع وهو يلتفت إليها ناظرًا في عينيها مباشرة: "سوف تكون مكان المستنقعات".
ارتعدت في هلع، عندما قال عبارته الأخيرة، ولكنها حاولت التأكد مما فهمته؛ فقالت متسائلة، والكلمات تخشى الخروج من فمها: "هل تقصد أن...؟".
انتظر أن تكمل سؤالها، ولكن الكلمات بالفعل رفضت أن تغادر شفتيها؛ فقال في هدوء، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مراسمية: "نعم، سوف نزيل المستنقعات".
******

2
راحت الملكة تسير جيئةً وذهابًا في حجرتها الخاصة من الكوخ الملحق بالقصر، وقد ارتدت ثوبًا أسود طويلًا له غطاء رأس تركته يتدلى دون أن ترتديه، وهي تكاد تنفجر غيظًا وخوفًا لدرجة أن الدموع بدأت تنهال على وجهها حتى إن مربيتها المسنة قالت لها في إشفاق: "هوِّني على نفسك يا مليكتنا. إنها مجرد مستنقعات".
صاحت الملكة في غضب عارم: "مجرد مستنقعات؟! كيف تجرؤين على أن تقولي هذا؟! وكأنك لا تدرين أن هذه المستنقعات تعيش فيها مخلوقات أكسبت مملكتنا على مر السنين بل القرون طابعها الخاص؟!"، ثم أضافت وكأن ما سبق لا يبرر غضبها: "ألم يكف كاين أنه أصبح هو المتحكم والمسيطر في كل أمور المملكة؟! ألم يكفه أنه أمر بإصدار عملة جديدة وضع عليها صورته في مقابل صورة جدي الأكبر مؤسس المملكة؟! ألم يكفه أن يفر الفلاحون من مملكتنا بسبب الضرائب فتتقلص زراعة الأزهار فخر مملكتنا؟! ألم يبق أمامه من ذكريات نشأة مملكتنا سوى المستنقعات ليزيلها؟!".
لكن المربية المسنة قالت في هدوء غير مبالية بغضب سيدتها: "يا مليكتنا الرقيقة. أنت بالفعل تخشين على المستنقعات، وكائناتها، وما تحمله من ذكريات للمملكة كلها، ولكنك كذلك تخشين عليه... تخشين على تشيك".
ارتعد جسد الملكة لمجرد ذكر الاسم، والتمعت عيناها بدموع الألم، وقالت للمربية بصوت يقطر وجعًا: "أرجوك... لا تذكري هذا الاسم مجددًا".
ازداد الإشفاق في عيني المربية، ولكنها عادت تقول: "حسنًا، لن أذكر هذا الاسم، ولكن في النهاية هو مجرد ضفدع".
صاحت الملكة في صوت غاضب: "لا تكرري هذا أيضًا"، ثم انخفض صوتها، وهي تضيف في حزن: "لقد كان إنسانًا كامل البشرية، ولكن...".
قاطعتها المربية عند هذه النقطة قائلة في حسم: "كلا يا سيدتي"، ثم نهضت من مكانها على الفراش الصغير الوحيد في الحجرة، وأمسكت الملكة من كتفيها، ونظرت إلى عينيها، وقالت في حزم: "لم يكن إنسانًا... بل كان ضفدعًا تعرض لتعويذة سحرية أحالته نصف إنسان، ثم عاد ضفدعًا مرة أخرى بعدما انتهت التعويذة".
همت الملكة أن تقول شيئًا، لكن المربية عادت تقول في لهجة ربما أشد حزمًا: "لقد انتهى تشيك، وانتهت قصته"، ولم توقفها التماعة الدموع في عيني الملكة عن أن تتابع قائلة: "لقد وقفت هذا الموقف قبل عشرين عامًا، لأبلغ تشيك نفسه أن الأميرات لا يتزوجن الضفادع، وقد انصاع؛ فهل تخالف الفتاة الطيبة كلام مربيتها بعدما كبرت وأصبحت الملكة؟!".
هوت رأس الملكة على كتف مربيتها، فتلقتها المربية، وراحت تمسح على شعرها في حنان، وهي تضيف: "لا تزال الطفلة طفلةً حتى بعد أن أصبحت ملكة، وسوف تستمر الطفلة في طاعة مربيتها... حتى وإن صارت ملكة الملكات".
استمرت الملكة في وضعها هذا، وقد راحت تبكي في صمت، قبل أن ترفع عينيها إلى المربية، وتقول في رجاء: "حسنًا... لكنني أريد أن أشاهد المستنقعات".
نظرت إليها المربية في تعجب، وقالت وهي تعود إلى جلستها على الفراش: "ولماذا يا بنيتي؟!".
لم تجب الملكة على الفور، ثم راحت تقول في تشتت: "أود أن أراها... أود أن ألهو قليلًا مع كائناتها...".
وقطعت كلامها، عندما لم تجد ما يمكن أن تضيفه؛ فقالت لها المربية: "حسنًا. أنت الملكة، ويحق لك أن تذهبي حيث شئت، ولكن ليكن ذلك في الصباح، وأمام الجميع".
نظرت إليها الملكة في عدم فهم؛ فقالت المربية موضحةً: "ما كان يصح للأميرة لا يصح للملكة... يمكن للأميرة أن تتسلل من وراء الحرس الأميري، ولكن لا يمكن للملكة أن تتسلل من وراء الحرس الملكي. لا يليق هذا بملكة محبوبة من شعبها، يمكنها أن تذهب إلى أي مكان حيث شاءت... سوف يقولون إنك تخشين السير وسط شعبك، ولذلك تجرين جولاتك في جنح الظلام"، ثم عادت تحتوي الملكة بين ذراعيها، وتقول: "سوف نذهب في الصباح إلى المستنقعات. وإذا اعترض الملك، سوف نخبره بأنك رغبت في الذهاب في زيارة وداع".
هزت الملكة رأسها في أسى، وهي تقول: "نعم... زيارة وداع".
واسترخت في وقفتها بين ذراعي مربيتها، قبل أن تنتفض هي والمربية فجأة إثر صوت عشب تكسر فجأة، وكأن قدمًا ثقيلة وطأته؛ فقالت المربية بعد استعادت تماسكها: "يبدو أن هناك من كان يسترق السمع يا مولاتي".
اندفعت الملكة نحو نافذة الكوخ، وهي تصرخ: "ومن يجرؤ على التنصت على الملكة؟!".
عاد جسدها ينتفض من جديد، عندما انفتح باب الكوخ ليبرز منه الملك، وهو يقول: "إنها أنا يا مولاتي".
انحنت المربية في مهابة واحترام أمام الملك، قبل أن تنظر إلى ملكتها وكأنها تستأذنها في الانصراف، لكن الملكة كانت مشلولة، فقال لها الملك: "يمكنك أن تنصرفي"، ثم عاد ينظر إلى الملكة، وهو يقول في لهجة بدت في مسامع الاثنتين غير مريحة: "يبدو أن الملكة لم تتمالك أعصابها بعد".
أسرعت المربية بالانصراف، فيما راح الملك ينظر إلى الملكة، قبل أن يقول في صوت بارد: "أود أن أخبرك أنني أعلم بأمر تشيك هذا..."، صمت قليلًا وقد اعتلت وجهه ابتسامة لا تقل برودًا عن صوته، وهو يلمح الذهول في عينيها، قبل أن يتابع: "أعلم بالأسطورة التي تقول إن هناك ضفدعًا تحول في يوم ما إلى إنسان، ثم عاد ضفدعًا مرة أخرى، ويعيش الآن في المستنقعات... خرافات، ولكنني لم أكن أعلم أن ملكتنا تؤمن بهذه الخرافات... بل تؤمن بأنها كانت تلهو معه وهي طفلة... كنت أحسبها خرافات يردده الفلاحون، ولكن يبدو أنها خرافات ملكية".
سادت ملامح الارتياح وجه الملكة رغم رنة السخرية الأخيرة في كلامه، ولم يستطع هو استيعاب سر هذا الارتياح ومغزاه، ثم قالت هي بعد أن تمالكت أعصابها: "كنت أحب أن ألهو في المستنقعات، وكانت الخرافة معروفة، وكان هناك ضفدع كبير ألهو معه، وكنت أحسبه تشيك الضفدع الخرافي"، ثم أطلقت ضحكة عصبية كأنها تفرغ بها توترها: "ذكرك أنك تنوي ردم المستنقعات أعاد إليّ ذكريات الطفولة، ولم أحب أن يزول هذا المكان... هذا كل ما في الأمر".
صمت قليلًا وقد غرق في التفكير في كلامها محاولًا فهم ارتياحها، قبل أن يقول: "على أية حال، سواءً أحببت هذا الأمر أم لم تحبيه، لقد أصبح أمرًا واقعًا".
نظرت إليه في تساؤل، فقال لها: "لقد بدأت قوات من جيش المملكة في ردم المستنقعات"، وعادت الابتسامة الباردة تغطي وجهه، وهو يضيف: "ولن يحل الفجر إلا وقد ردمت نهائيًّا"، واستحال صوته باردًا كثلوج الشتاء، وهو يقول: "لقد حان الوقت للقضاء على الخرافات في المملكة، أليس كذلك؟!".
ولم تدر هي لماذا خفق قلبها في هلع من عبارته هذه التي بدا وقعها في أذن الملكة وكأنها إعلان حرب.
******

3
قبل ساعات من ذلك، لم تختلف المستنقعات عما كانت عليه منذ عشرات السنين، وعما بدا أنها سوف تبقى عليه لعشرات قادمة...
الكائنات النهارية تستعد للمبيت... والكائنات الليلية تستعد للانطلاق... والكل يطلق أصواته التي تعبر عما ينوي فعله؛ لتصوغ معًا معزوفة المستنقعات...
وفي واحدة من أعمق نقاط المستنقعات، وأبعدها عن المملكة، كان يعيش تشيك...
كان يعيش في أعمق أعماق أحد الكهوف العديدة المنتشرة أسفل سطح المستنقعات في عزلة كاملة عن البشر، ووسط مجموعة صغيرة من الضفادع التي كانت تصعد لتأتي له بالأشياء التي يحتاج إليها من عالم البشر، قبل أن تنزل مرة أخرى لتعطيها إياها...
فقط هو ومجموعة من الضفادع التي كانت في خدمته بفضل تعويذة ألقتها عليها الساحرة "إمتارا"، التي كان كهفه يتصل بكهفها أعلى المستنقعات عن طريق ممر سري لا يعرفه سواهما...
كان قد استعاد هيئته البشرية شبه الكاملة عدا الذيل... ذلك الذيل الذي لم يكن ينتمي لا لعالم البشر، ولا لعالم الضفادع، ولا يدري من أين جاء، ولا ما هي وظيفته سوى أن يذكره بأنه ليس إنسانًا كاملًا...
وليس ضفدعًا أيضًا...
ولذلك كان يستطيع في أي وقت شاء أن يستعيد هيئته كضفدع... ولكن بحجم الإنسان...
لكل شيء مساوئه ومحاسنه أيضًا...
وفي تلك الأثناء، كانت الحكيمة "إمتارا" تجلس في كهفها تطالع إحدى صحائفها الجلدية السحرية كالمعتاد، عندما فوجئت بأحد السناجب يقتحم عليها الكهف، وقد راح يتقافز أمامها بطريقة تدل على الذعر؛ فنظرت إليه في تساؤل، فراح يصدر أصواتًا تدل فعلًا على الذعر، وأخذ يقفز بين يديها ثم يعود للقفز مرة أخرى أمام مدخل الكهف؛ فأدركت أنه يريدها أن تتبعه.
ولم تكد تخرج من كهفها الواقع في قلب المستنقعات حتى أدركت سر فزع السنجاب... فقد أضيئت المستنقعات بآلاف من المشاعل حملها جنود من جيش مملكة والد الملك، فيما أخذ عدد يفوقهم بمرات ومرات يسكب أطنانًا من الرمال جاءوا بها معهم من الصحراء ليردموا المستنقعات.
كانوا جيشًا جاء ليهاجم المستنقعات... ويمحوها من الوجود.
وبالفعل كانت المستنقعات قد تحولت إلى ساحة حرب... ولكنها حرب من جانب واحد؛ حيث راح قسم من الجنود يسكب الرمال فوق المستنقعات، فيما راح البعض الآخر يقتل كائناتها بحرابه وسيوفه، بينما أخذت هذه الكائنات تفر غير مصدقة لما يجري في مستنقعاتها الهادئة؛ فاصطدمت بعضها ببعض أثناء الفرار، ومات منها الكثير بأقدام رفاقها أكثر مما مات من الفعل طوفان الرمال وأسلحة الجنود.
وفي داخل الكوخ، كانت الملكة على وشك فقدان الوعي من هول الصدمة؛ حيث شحب وجهها حتى بات بلون الثلج، وازرقت شفتاها، وماتت الكلمات على شفتيها، قبل أن تنجح في إلقاء سؤال خرج هامسًا مبحوحًا: "كيف؟!".
أجابها الملك وقد شعر بالسرور؛ لأنها فوجئت بتنفيذ القرار: "لقد أحطت الأمر بسوار من السرية؛ فزعمت أنني أنوي إقامة قصر كبير، وطلبت من والدي عدد من جنود مملكته لإقامة هذا القصر؛ فأرسلهم لي ومعهم أطنان من رمال الصحراء المحيطة. ولكنني خشيت أن ينكشف الأمر عند وصولهم إلى المملكة؛ فطلبت منهم أن يسيروا في الصحراء بزعم أن القصر سوف يكون هناك"، ثم نظر إلى النافذة باتجاه المستنقعات ليرى المشاعل وقد حولتها كتلةً من اللهب، قبل أن يضيف: "وقبل الغروب بقليل، طلبت من قادتهم أن يتجهوا إلى المستنقعات ويعملوا على ردمها... ولما كانوا جنودًا وأنا ابن قائدهم وأحد كبار قادتهم، لم يستطيعوا أن يخالفوا أوامري، وصمت للحظة قبل أن يضيف في فخر شديد: "وبدأت عملية هدم المستنقعات".
استجمعت قواها، وفتحت باب الكوخ، وراحت تتطلع باتجاه المستنقعات، وهالها ما رأت من لهب المشاعل، فسألته في هلع: "هل... هل يحرقونها؟!".
أجابها في هدوء: "كلا، ولكنهم يحيطونها بهذه النيران حتى لا تهرب الكائنات لتغزو مملكتنا".
قالت في حقد: "لقد أعددت كل شيء".
أجابها دون أن يلتفت إليها ودون أن يعير أي انتباه للحقد الذي ملأ صوتها: "لهذا أنا ثالث أكبر قائد في جيش مملكتنا بعد والدي ثم معلمي"، ثم نظر إليها، وأضاف في لهجة خاصة: "ولهذا أنا قائد جيوش هذه المملكة".
صرخت قائلة: "سوف تهلك مئات من الكائنات... إن لم يكن الآلاف".
فسألها دون اكتراث: "وماذا في هذا؟!".
صرخت دون وعي منها: "أنت ملعون".
نظر إليها في برود، ولم يرد عليها... أو بالأحرى لم يرد عليها بالكلمات؛ حيث رفع يده اليمنى، ثم هوى بها على وجهها في صفعة ألقتها بعيدًا فاصطدمت رأسها بالجدار، وسقطت فاقدة الوعي ربما ليس من الصفعة، ولكن من الصدمة.
أما الملك، فقد خرج من الكوخ في هدوء كامل، ووجد المربية تقف على مبعدة، وقد أخذت تطالع ما يجري ناحية المستنقعات في عدم فهم؛ فناداها قائلًا: "يبدو أن سيدتك تعاني قليلًا".
لم ترتح المربية لهذه الكلمات، وانقبض قلبها؛ فأسرعت نحو الكوخ لتجد ملكتها وقد تكومت بجوار الجدار، وسالت الدماء من طرف شفتها اليسرى والناحية اليمنى من رأسها، فانحنت نحوها في هلع، ولكنها لم تترك لهذا الهلع مجالًا ليسيطر على تصرفاتها، وتمالكت نفسها، وحملت الملكة على الفراش، وأحضرت إناء به ماء، وأخرجت من صندوق صغير مجاور للفراش بعض الزجاجات الصغيرة، راحت تصب من محتوياتها في الماء، قبل تغسل بهذا بالخليط آثار الدماء بكل حنو. وعندما انتهت عدلت من وضع الملكة على الفراش، وتركتها في سبات عميق من أثر الصدمة والمستحضرات، وأسرعت نحو النافذة تشاهد في مرارة وقلة حيلة المستنقعات، وهي تحترق.
******

4
وفي داخل المستنقعات، لم تختلف وقفة "إمتارا" ذهولًا ولا مرارة ولا قلة حيلة عن وقفة المربية؛ فقد كانت كل كائنات المستنقعات تموت... تموت خنقًا تحت أكوام الرمال، أو حرقًا بنيران المشاعل، أو طعنًا بحراب الجنود وسيوفهم...
كانت مذبحة...
وفي أعماق كهفه، لم يكن "تشيك" يشعر بأي شيء حتى بدا لون المياه المحيطة بالكهف يتغير؛ فأطل من كهفه ينظر إلى المياه محاولًا فهم ما يجري، ولكنه ظل عاجزًا عن إدراك السبب إلى أن جاءه أحد خدمه من الضفادع، وراح يشير له في هستيريا إلى أعلى، وملامحه تتفجر هلعًا؛ ففهم "تشيك" أنه يريد أن يصعد لأعلى، ولكن طريقة الضفدع في استدعائه جعله لا يستجيب فورًا لطلبه؛ حيث أسرع أولًا إلى داخل كهفه ليحضر شوكته العملاقة التي يستخدمها كسلاح له، ثم صعد لأعلى.
وهناك رأى الهول الذي تتعرض له المستنقعات...
رأى أجساد أقرانه من الضفادع، وأصدقائه من السحالي وغيرهما من الكائنات تنسحق تحت أكداس الرمال، وأحذية الجنود، فيما ارتفعت رائحة شواء مقززة من كثرة ما احترق من الكائنات...
للحظات تجمد "تشيك" من الهلع والصدمة، قبل أن يطلق صرخة هائلة، ويقفز وسط النيران، وهو يحاول أن ينقذ أي كائن يقع تحت يده، ولكنه عجز...
كان التدافع أقوى من طاقته، وكانت الرمال تنهال من كل اتجاه حتى كادت تغرقه أسفلها؛ فقفز واحدة من قفزاته الهائلة ليخرج من بين الرمال ويجد نفسه في مواجهة مجموعة من الجنود يسكبون عربة رمال فوق جزء من المستنقعات.
التقت عيناه بعيون الجنود لثوان معدودة، وتوقف الطرفان في محاولة لاستيعاب الموقف، قبل أن يأخذ هو زمام المبادرة، ويطلق صرخة هائلة، وينطلق طعنًا في الجنود بشوكته ثم يحمل عربة الرمال بقدرة هائلة ويلقيها فوق مجموعة من الجنود الذين يحيطون بالمستنقعات لمنع كائناتها من الفرار.
وقبل أن يفهم أي من الجنود ما حدث، غاص سريعًا في أعماق المستنقعات، وعندما دخل كهفه، أطلق صفيرًا مميزًا تحلقت بعدها حوله مجموعة الخدم، ولكنه لاحظ أنها تنقص واحدًا فأشار إلى كبير الخدم متسائلًا، وهو يدرك الإجابة التي أكدها له حزن كبير الخدم...
لقد مات الضفدع في الهجوم على المستنقعات...
تعالت موجة الغضب والسخط في أعماقه، لكنها لم تغادر شفتيه سوى في أمر واحد: "اقتلوهم".
فانطلق الضفادع الخدم، وقد خلت عقولهم من أية أفكار سوى الانتقام لأقرانهم من الضفادع وغيرهم من سكان المستنقعات.
أما "تشيك" فقد دخل الكهف، وارتقى في الممر السري إلى أن وصل إلى كهف الحكيمة "إمتارا"؛ فرآها تشاهد ما يجري؛ فتقدم حتى وقف خلفها، وقال: "سوف أنتقم".
التفتت إليه، وقد امتلأت تجاعيد وجهها بالدموع والألم، وسألته: "كيف؟!".
لم يجبها، وعاد مسرعًا دون أن يلتفت إلى نداءاتها. ولما استقر به المقام في كهفه، وقف منتصبًا، وراح يتمتم ببعض العبارات السحرية؛ فتشكلت من حوله هالة من الضباب الأخضر راحت تتكاثف وتتكاثف وتدور بسرعة متزايدة حوله إلى أن اختفى داخلها وبلغت درجة هائلة من سرعة الدوران قبل أن تختفي فجأة... ويظهر "تشيك"...
في شكل ضفدع...
بعدها، تطلع إلى وجهه في المرآة، ثم أخذ شوكته، وانطلق صاعدًا...
وعندما اندفع مخترقًا سطح المستنقعات، وجد مجموعة من الجنود يهيلون الرمال على المستنقعات، فلم يختلف مصيرهم عن مصير الجنود الذين واجههم من قبل، ولم يختلف مصير عربة الرمال عن مصير العربة السابقة. ولكنه فيث هذه المرة، اندفع نحو الجنود الذين يغلقون المستنقعات، وهو يمسك بيده اليمنى شوكته واليسرى مشعلًا، وقد راح يطلق صرخات هائلة.
دب الهلع في الجنود الذين رأوه، وراحوا يتدافعون بعيدًا عنه، لكنه واصل مطاردتهم، وأخذ يطعنهم بالشوكة، وقد خلت نفسه من كل شفقة. ولما تجرأ أحد الجنود، ووقف أمامه يبغي مبارزته، طعنه "تشيك" بشوكته، ورفع جسده عاليًا ليلقيه فوق أحد المشاعل الساقطة على الرمال. ويبدو أن أسلوبه قد أفلح؛ حيث لم تمض دقائق قليلة، إلا وقد خلت المنطقة المحيطة به من كل الجنود سواءً من يلقون بالرمال أو يحاصرون المستنقعات.
ولم يكن خدمه من الضفادع بأقل فاعلية؛ حيث راحوا يقفزون فوق الجنود من حيث لا يرونهم ويخطفون منهم المشاعل، ويلقونها عليهم، أو يغلقون عيونهم ويجعلونهم يطعنون بعضهم البعض. ولم تمض كذلك دقائق قليلة، إلا وفر الجنود تاركين خلفهم رماحهم ومشاعلهم وعرباتهم المحملة بالرمال.
وانتشرت الأخبار سريعًا؛ فقد راح الجنود الناجون من هجوم "تشيك" يصيحون بأن الضفدع الخرافي انقض عليهم من أعماق المستنقعات، وراح يشبعهم قتلًا وحرقًا، فيما قال الناجون من هجوم خدمه إن ضفادع صغيرة سقطت عليهم من السماء وراحت تحرقهم بنيران هبطوا بها من السماء.
ودب الرعب في نفوس باقي الجنود، واهتزت الصفوف، وراح البعض منهم يفر إلى الصحراء هربًا من الموت حرقًا على يد الضفادع، بينما بدأ البعض الآخر رحلة العودة إلى مملكته، فيما اختار آخرون آن يعودواأ إلى مملكتنا هذه. أما من كانت في قلبه شجاعة، فقد اختار البقاء أمام المستنقعات، ولكنه توقف عن الهجوم، فيما عاد انقسم القادة بين جزء عاد إلى بلاده ليخبر ملكه بما جرى، وجزء عاد إلى المملكة التي تضم المستنقعات ليخبر الملك "كاين" بما جرى.
وتوقف الهجوم...
أما "تشيك" وفريقه، فقد عادوا إلى الأعماق، واصطف الخدم أمام "تشيك"؛ فطلب منهم الاستراحة إلى حين استدعائه لهم، فيما انطلق هو نحو الممر السري ليصعد إلى كهف "إمتارا"، ويقف أمامها في هيئته البشرية، وقد تلوث بالرمال والدخان، وراحت المياه تتساقط منه دون أن تزيل أثار المعركة كاملةً.
تأملته طويلًا دون أن يتكلم كلاهما، قبل أن تسأله هي: "هل استرحت الآن؟!".
أجابها في مقت: "كلا! لن أستريح، إلا عندما أسحقهم".
أجابته في هدوء: "لقد طردتهم خارج المستنقعات".
قال لها في ثقة: "سوف يعودون"، وصمت قليلًا قبل أن يقول: "سوف يعودون أكثر شراسة".
عادت تسأله: "وهل تنوي التصدي لهم؟!".
سألها في سخط: "وهل تريدين أن أسلم لهم المستنقعات؟! هل رأيت المذبحة؟!".
تجاهلت الإجابة على أسئلته، وردت بسؤال: "وماذا تريد؟!".
أجابها بكلمة واحدة: "السحر".
فهمت الإجابة، فهزت رأسها نافية: "لا أستطيع".
نظر إليها في سخط، وهو يقول: "لماذا؟!".
قالت في هدوء: "العهد الذي قطعته لكي أكون ساحرة هو ألا أستخدم سحري ضد البشر حتى إذا أذوني".
عاد يقول في سخط: "إذا لم تساعديني بسحرك، سوف تكون ردود الفعل وخيمة".
سألته في سخرية: "هل ستقتلني؟!".
أجابها فورًا: "بل سأقتل نفسي".
صمتت طويلًا، ولم يقاطعها هو، قبل أن تقول: "وماذا تريد من سحري؟!".
أجابها: "جيش... جيش من الضفادع وكل كائنات المستنقعات".
قالت له: "هل ترغب في الانتقام من المملكة؛ لأن أهلها حرموك من الزواج من ابنتهم".
قال في ضيق: "لقد مر عشرون عامًا لم أغادر فيها كهفي إلا لألقاك. فلماذا أرغب في الانتقام منهم الآن؟!"، واشتعلت عيناه بالغضب، وهو يضيف: "لقد حاولوا غزو دياري، ولا بد أن أمنعهم".
فعادت تسأله: "هكذا فقط؟!".
أجابها: "هكذا فقط".
فقالت: " سؤال أخير يا تشيك...".
نظر إليها في سخط، فقالت: "إذا توقفوا عن الهجوم، هل سوف تتوقف عن قتالهم".
أجابها بسرعة: "بالطبع".
هزت رأسها في ارتياح، ثم عادت إلى صمتها، واحترم هو هذا الصمت، لكنها أطالت للغاية حتى بدت عليه علامات التبرم والتململ، وهم بقول شيء ما، لكنها قالت أخيرًا: "سوف يعودون".
قالتها ثم صمتت لثانية كاد "تشيك" أن ينفجر خلالها، قبل أن تتابع: "ولكن وقتها... سوف يكون جيشك في انتظارهم"، ثم أضافت في صوت خفيض: "وهكذا لن أكون قد آذيت البشر"، وارتسمت على شفتيها ابتسامة خبيثة وهي تضيف: "بشكل مباشر".
التمعت عينا "تشيك" في تصميم وحزم عندما سمعها تقول إن جيشه سوف يكون في انتظارهم، ولم يبال بما قالته بعد ذلك، بل بدا أنه لم يسمعها وهي تتكلم، وهو يضيف: "وعندها سوف نسحقهم. سوف نذيقهم نيران المستنقعات".
لقد بدأت بالفعل حرب المستنقعات.
******

5
لم يصدق الملك ما رواه له قادته من قتال الضفادع للجنود بضرواة جعلتهم يتوقفون عن ردم المستنقعات...
لم يصدق أن هناك ضفدعًا عملاقًا يحمل شوكة هائلة، يظهر من قلب المستنقعات، ليقتل الجنود، ثم يختفي ثانيةً...
لم يصدق أن ضفادع صغيرة تسقط من السماء حاملة معها نيرانًا تحرق بها جنوده...
لم يصدق ما يحكيه قادته حتى بعد أن أروه أحد الجنود المصابين...
لم يصدق أن الخرافات تحيل أحلامه رمادًا.
ولم يدر ماذا يفعل...
لم يدر أي قرار يتخذه... هل يوقف الهجوم؟! أم يأمر بمواصلته؟! وهل الهجوم مستمر بالفعل حتى يأمر بإيقافه؟! هل الجنود قادرون على القتال حتى يأمر بمواصلته؟!
لم يجد نفسه قادرًا على فعل أي شيء سوى الصراخ في قادته بالانصراف. وما أن انصرفوا، حتى هبط إلى قبو القصر الملكي، وهناك جلس في حجرة منعزلة لا يعرفها سواه والمهندس الذي صممها...
جلس يفكر في هذا التطور غير المتوقع، والسؤال الرهيب يحوم فوق رأسه... ماذا يفعل؟!
وبعد تفكير عميق توصل إلى أن القرار الأسلم هو الأمر بإيقاف الهجوم رغم أنه متوقف فعليًّا، ولكن رأى أن توقفه بأوامر من القادة يجعل الجنود يشعرون بأن أقدامهم لا تزال ثابتة على أرض المعركة، وأنهم توقفوا بقرار لا بسبب الهلع وانكسار الصفوف.
كما توصل إلى قرار آخر، ولكنه قرر تأجيله إلى حين إصدار الأمر بوقف القتال إلى حين غروب شمس اليوم التالي.
وبمجرد أن استقر على ذلك، لم يدخر لحظة؛ فأسرع صاعدا، واستدعى قادته طالبًا منهم الأمر بوقف القتال حتى الغروب التالي، وأمرهم بالانصراف، ولكنه استبقى واحدًا منهم، وقال له بعد انصراف الآخرين: "اسمع يا جاسكو... أريدك أن تؤدي واحدة من المهام شديدة الحساسية، وأنت تعلم خطورة تلك المهام في ظروف غريبة كالتي نواجهها".
اتخذ القائد وضعًا عسكريًّا يوحي بالاستعداد، وقال له في حزم: "في خدمتك يا سيدي".
ابتسم الملك في إعجاب، وقال له: "أريدك أن تختار ثلاثة من أفضل جنودك، وتطلب منهم أن يكتبوا أوراقًا يلقونها في المستنقعات مكتوب عليها (الأميرة سوف تصبح في خطر، إذا لم تستسلم)".
ظهرت علامات عدم الفهم على وجه القائد، لكنه لم يتساءل عن مغزى ذلك، وقال في قوة: "سمعًا وطاعة يا جلالة الملك".
عاد الملك يكرر: "أخلص رجالك يا جاسكو... أخلص رجالك، وفي سرية تامة".
كرر القائد تعهده بالسمع والطاعة؛ فأمره الملك بالانصراف، وقد اعتلت وجهه ابتسامة ماكرة، وقال في سخرية: "تريد أن تدافع عن مستنقعاتك أيها الضفدع... حسنًا... لتدفع أميرتك الثمن إذن، إن أردت أن تواصل"، قبل أن يعلو الجمود ملامحه، وهو يقول في لهجة قاطعة: "لا يوجد من يجرؤ على تحدي كاين".
وانطلق بعدها إلى الكوخ الصغير حيث كانت الملكة لا تزال ترقد في سبات عميق من أثر المستحضرات المنومة التي أعطتها لها المربية؛ فسأل المربية عنها، فقالت له في حزن: "لا تزال نائمة يا سيدي"، ولكنها لم تشر بكلمة واحدة إلى الدماء والإصابات التي كانت على وجه الأميرة ورأسها، إلا أنها سألته: "ماذا يجري في المستنقعات يا سيدي؟!".
أجابها في هدوء: "عملية تطهير بسيطة لكي نبني قصرًا هناك".
اندهشت لدرجة أنها تجاوزت التقاليد الملكية، وسألته: "وهل تنقصنا القصور يا سيدي؟!".
رماها بنظرة قاسية وهو يقول في صوت بارد كالسيف: "منذ متى والخادمات يسألن الملوك عن أفعالهم؟!".
ارتبكت المربية بشدة، وقالت في ذعر: "العفو يا سيدي".
لكنه أضاف بالنبرة نفسها: "إذا تكرر ذلك منك ثانيةً، سوف يكلفك رقبتك".
ابتلعت لعابها في هلع، وقالت في صوت خفيض من فرط الذعر: "أمرك يا سيدي"، وراحت تنظر إلى الأرض في ذلة، قبل أن تشعر به يغادر الكوخ، ويغلق الباب خلفه.
فعادت وهي تبكي في مرارة لتجلس بجوار الملكة النائمة، وتخاطبها وكأنها تسمعها: "لقد ظلمنا والدك... ماذا فعل بنا والدك يا مولاتي؟! كيف أدخل هذا الوحش مملكتنا؟! كيف؟!".
وبقي السؤال معلقًا بلا إجابة ودون أن تنتظر هي الإجابة.
أما "كاين"، فما أن غادر الكوخ، حتى عاد إلى القصر، وارتدى ثيابًا سوداء، وغطى وجهه، ثم امتطى حصانًا أسود، وانطلق من ممر سري أسفل الأرض نتهى به خارج القصر داخل الغابة قرب المستنقعات.
كان يريد أن يعاين الوضع على أرض الواقع. وكان الواقع أسوأ من كل خيال.
جثث محترقة... وعربات مقلوبة لا تزال النيران تلتهب في خشبها... وجنود مذعورون يتلصق بعضهم ببعض في هلع... وأنات مصابين يقف كثير منهم على الحافة الفاصلة بين الحياة والموت في انتظار النجاة من الآلام إما بالعلاج أو الموت...
لكن الجميع كان يقف بعيدًا عن المستنقعات؛ فلم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منها في انتظار الأوامر بمواصلة الهجوم بعد حشد القوات وتجميع الصفوف.
أما في المستنقعات نفسها؛ فكان "تشيك" يقف على أبواب كهف الحكيمة "إمتارا"...
كان الوضع كذلك أسوأ مما يعتقد...
ضفادع محترقة... وسحالي مسحوقة... ونسور طالتها النيران فهوت من علٍ... أجساد كائنات مزقتها الصخور البارزة أثناء رحلة هروب لم تكتمل... وأكوام من الرمال لا ريب أنها تخفي أسفلها مآسي مماثلة...
وكانت هناك أيضًا جثث جنود طفت فوق مياه المستنقعات نصف محترقة أو مسحوقة أو ممزقة...
وعلى الجانبان، كان القاسم المشترك هو التحفز، والترقب، والانتظار...
كان "كاين" يتابع عملية إلقاء الأوراق داخل المستنقعات من خلال الأسهم، فيما كان "تشيك" يراقب "إمتارا" وهي تعد تعويذاتها السحرية التي سوف تحيل الكائنات إلى جيش يدافع عن مستنقعاته.
وبينما كان "تشيك" يجلس داخل الكهف، فوجئ بسهم يسقط أمامه، وقد التصقت به ورقة؛ فنزع الورقة وقرأ ما فيها... وكانت الرسالة التي أراد له "كاين" أن يقرأها؛ فطبق يده على الورقة بعنف، وهو يصيح: "القذر!".
سألته "إمتارا" دون أن ترفع عينيها من على أوراقها: "ماذا هناك؟!".
أجابها في حقد: "يهددني بقتل الملكة، إذا تصديت للهجوم".
فعادت تسأله دون أن يبدو في صوتها أية مشاعر: "وماذا ترى؟!".
صمت قليلًا قبل أن يجيب في حسم: "سوف نواصل".
ولم يتبادلا كلمة بعد ذلك إلى أن قالت "إمتارا"، وهي تقلب أحد السوائلفي دورق كبير: "لقد انتهيت".
تهلل وجه "تشيك" في سعادة، وقال لها: "انشريه في المستنقعات".
لم تعلق على كلامه، وحملت الدورق بيد، وراحت تستند إلى كتف "تشيك" بيد أخرى، حتى خرجا من الكهف، وهناك ألقت بمحتويات السائل في مياه المستنقعات، وراحت تتمتم بكلمات لم يفهمها "تشيك"، ولكنه كان يدرك أنها ما تبقى من التعويذة.
ومضت دقائق، والحكيمة "إمتارا" تتمتم بعباراتها غير المفهومة، وبدا أنها انفصلت عن الدنيا كلها، قبل أن تنتفض فجأة، وتقول له في صوت عادي لا أثر فيه للغيبوبة التي كانت تبدو أنها سقطت فيها: "سوف يبدأ المفعول خلال دقائق، وعندها تستطيع أن تستدعي ما شئت من الكائنات بالصفير نفسه الذي تستخدمه لاستدعاء خدمك".
قبل يدها في امتنان، وهو يقول: "شكرًا يا إمتارا".
لكنها قالت له: "لا تشكرني؛ فهي ليست معركتك وحدك، وأنت من يستحق الشكر؛ لأنك من أشعل في نفسي العجوز فكرة المقاومة والدفاع"، ثم تألقت عيناها في حماس، وهي تضيف في لهجة قوية بدت متناقضة مع سنها المتقدمة: "إنها مستنقعاتنا يا تشيك، وسوف ندافع عنها ضد أي معتد... سوف ننتصر يا تشيك".
وفي تلك اللحظات، مالت الشمس إلى المغيب.
وبدأ جيش "كاين" الهجوم.
******

6
لم يبدأ الهجوم مثلما بدأ في الليل؛ فلم يتقدم الجنود ليسكبوا الرمال في المستنقعات، ولكنهم تقدموا بعربات مختلفة هذه المرة تحمل سائلًا كريه الرائحة، راحوا يسكبونها في أنابيب تمتد لتصل فتحاتها الأخرى إلى أطراف المستنقعات.
وانتشر السائل في الأجزاء الأمامية من المستنقعات...
وفجأة، انطلقت أسهم مشتعلة من الجنود لتسقط فوق السائل... وتشتعل المستنقعات...
لقد كان سائلًا سريع الاشتعال مثل البنزين، اشتعلت معه الأجزاء الأمامية من المستنقعات، وتحولت في ثوان إلى جحيم أرضي.
ومرة أخرى، تقافز سكان المستنقعات، ولكنهم في هذه المرة كانوا تحت تأثير التعويذة السحرية؛ فنزل "تشيك" إلى كهفه تحت الماء، واستعاد هيئته الضفدعية، وأطلق صفيره، فاصطف آلاف من سكان المستنقعات أمامه...
ضفادع وسحالي وقفت في تأهب...
فئران لم تبال بالماء، قفزت إلى الأعماق استجابة لنداء تشيك...
حتى النسور تركت مداراتها، وغاصت لتصطف في انتظار الأوامر...
وسرعان ما وجد كل من هذه الكائنات في يده أو جناحه سلاحًا مناسبًا ما بين شوكة مماثلة للتي يحملها "تشيك"... أو مشعل مشتعل رغم وجوده أسفل الماء...
وبإشارة من "تشيك"، تأهب الجميع، وعندما قال عبارته: "اقتلوهم"، اندفع الجميع من تحت الماء.
وبدأ الاشتباك.
حتى تلك اللحظات، لم يكن "كاين" يصدق الروايات عن الضفادع المقاتلة، ولكنه لم يكن يستطيع أن يكذب عينيه، وهو يرى النسور تتساقط عليهم من السماء لتمزقهم بمخالبها...
لم يستطع تكذيب عينيه، وهو يرى الفئران تقفز حاملة مشاعل بين ذيولها لتحرق جنوده...
أما الضفادع فتولت سكب عربات السائل المشتعل لتتكفل مشاعل الفئران بتحويل معسكر الجنود إلى جحيم حقيقي...
وفر الجنود...
فروا غير مبالين بصرخات "كاين" من فوق حصانه ولا بوعيده لهم...
فروا غير مبالين سوى بحياتهم التي باتت نهايتها قريبة على يد ضفادع وفئران انطلقت من المستنقعات تدافع عن مساكنها...
وتكرر مشهد الفرار...
لكن الإضافة هي أن بعض الضفادع انطلقت تطارد الجنود عبر المملكة وفي كل مكان...
وانطلق "تشيك" بشوكته ومشعله يحرق من أوقعه حظه العاثر من الجنود في طريقه...
وبحث بعينيه عن "كاين"... ووجده...
لم ينس ملامحه منذ عشرين عامًا...
لكنه لم يكن يشعر وقتها نحوه بالضغينة مثلما يشعر الآن...
لقد حرق أهله، وقتلهم...
وحرق أرضه ودمرها...
وهدده بقتل الأميرة التي صارت ملكة...
لذلك، لم يعد من الممكن التسامح معه أو حتى الإبقاء عليه...
ونادى "تشيك" فريقه الخاص من الضفادع، وأشار إلى "كاين" الذي كان يحاول الفرار نحو مملكة والده؛ فاندفع فريق الضفادع نحوه، وأحاطوا به على شكل دائرة، وقد التمعت في أيديهم الحراب الصغيرة التي زودتهم بها الحكيمة "إمتارا".
لم يصدق "كاين" ما يشاهده، وهو يرى نفسه محاصرًا في دائرة من الضفادع المقاتلة المزودة بحراب مسنونة، وحاول القفز من فوقها، لكن حرابًا اندفعت من أيدي الضفادع لتستقر في بطن فرسه ليسقط هو وفارسه أرضًا، وتضيق دائرة الحصار قبل أن يقف على قدميه.
وقبل أن يرفع رأسه من على الرمال، وجد أمامه قدمين بشريتين ذاتا لون أخضر؛ فراح يهز رأسه نفيًا في عنف، وهو يصيح: "مستحيل! مستحيل!"، ولكنه أيقن أن ما يفكر فيه حقيقة، عندما اندفعت إحدى القدمين في ركلة لوجهه لتقلب جسده ويصبح وجهه لأعلى، ويرى "تشيك" في هيئة الضفدع، وهو يقول في صوت عميق: "وما المستحيل؟!".
وأتبع الركلة الأولى بأخرى مرغت وجه "كاين" في الرمال؛ فعاد يغمغم بصوت غير مسموع من فرط الذهول ومن الرمال التي ملأت فمه: "مستحيل!".
لكن "تشيك" قال له: "سوف أثبت لك أن هذا حقيقي"، ثم نظر إلى الضفادع من حوله، وقال لهم، وهو يشير بإصبعه نحو المملكة: "احموا القصر"، وتابع وهو ينظر إلى "كاين" الذي كان يحاول سحب سيفه: "ولا تؤذوا الأميرة... أقصد الملكة"، ثم ركل يد "كاين" التي كانت تحاول الإمساك بالسيف؛ فصرخ "كاين" من فرط الألم، بينما قفز ضفدعان ليسحبا السيف وكذلك الخنجر الذي كان مثبتًا في حذائه الأيمن.
بعدما رحلت الضفادع الصغيرة، راح "تشيك" يدور حول "كاين" الذي استكان في رقدته على الأرض بعدما جردته الضفادع من أسلحته، وقال له: "لا تخف. لن أقتلك، إلا بعد أن تتنازل عن ملكك هذا".
غمغم "كاين" في حقد وغيظ: "تريد أن تستولي على القصر، وتحكم المملكة أيها الضفدع".
ابتسم "تشيك" في سخرية، قبل أن تتسع ابتسامته لتصبح ضحكة رنانة، وهو يقول: "أيها الأحمق... هل تعتقد أن كل الناس مثلك؟".
عاد "كاين" يقول في سخط، وهو يعتدل جالسًا: "ناس؟! هل نسيت نفسك؟! أنت مجرد ضفدع!".
هز "تشيك" رأسه موافقًا، وهو يقول: "نعم، ضفدع... ضفدع أرسل جنوده ليحتلوا قصر مملكتك، ويستطيع أن يسحقك الآن"، ثم عاد يركل "كاين" في وجهه، وهو يقول له في سخط: "هل رأيت ما يستطيع الضفدع أن يفعله؟! أم أنك لا تجيد سوى ضرب النساء؟!".
مسح "كاين" الدماء من على وجهه، وهو يقول: "سوف تدفع ثمن كل قطرة دماء سالت مني".
قهقه "تشيك" ضاحكًا: "بل أنت من يدفع ثمن قطرات الدماء التي سالت من وجه الأميرة!".
سأله "كاين" من بين آلامه: "وكيف عرفت؟! من أخبرك؟!".
أجابه "تشيك": "أخبرني الذي أعد كل هذا الجيش ليجعل جنودك يتراجعوا حتى حدود مملكة والدك..."، ثم بتر عبارته، وقال في سخرية: "هل تريدني أن أحتل قصر والدك؟!".
هنا انتفض "كاين" في جنون، وهو يندفع نحو "تشيك" صارخًا: "أيها اللعين!".
لكن "تشيك" قفز واحدة من قفزاته الخرافية، فلم يجد "كاين" سوى الهواء ليصطدم به، ويسقط أرضًا مرة أخرى وسط ضحكات "تشيك" الهازئة؛ فقال في حقد: "ٍسوف يفتك بك جيش مملكتي وجيش مملكة والدي".
استقر "تشيك" على قدميه، وقال في سخرية: "مملكتك؟! هذه المملكة لها ملكة واحدة فقط، أما جيش والدك؛ فأمره سهل... سوف يتصدى له جيش الضفادع"، وقبل أن يرد "كاين" بكلمة، ركله "تشيك" في وجهه بقوة جعلته يسقط فاقد الوعي، ثم حمله "تشيك"، وهو يقول: "لقد تكلمت أكثر مما ينبغي... والآن، لتذهب إلى حيث أردتَ الذهاب".
وانطلق حاملًا إياه إلى المستنقعات.
******

7
كانت الملكة نائمة، وكان نومها مستقرًا، لكن المربية بدأت تلاحظ أنها في الفترة الأخيرة منذ أن توقف القتال بعد الهزيمة الأولى لجيش "كاين" أن نوم الملكة لم يعد مستقرًا؛ حيث لاحظت أنها راحت تهتز قليلًا، وتتمتم بكلمات غير مفهومة لم تميز فيها سوى "تشيك"؛ فأدركت المربية أن الملكة تحلم بالضفدع.
كانت المربية محقة جزئيًّا؛ حيث كانت الملكة ترى الضفدع فعلًا، ولكنه لم يكن حلمًا، بل كان رسالة.
رسالة أثيرية أرسلها قلب لم يحمل يومًا في أعماقه سوى الحب...
رسالة رأت فيها نفسها ترقد على الفراش الصغير نفسه، ولكن لا شيء حولها سوى الفراغ الفيروزي ووجه "تشيك" أمامها باسمًا يقول لها: "أفيقي... أنت الملكة الحقيقية... لن تؤذيك الضفادع... إنها تحميك... أفيقي أيتها الملكة... أفيقي، ودافعي عن أرضك ومستنقعاتك"، قبل أن يقبلها على رأسها، ويبدأ صوته في الابتعاد، ووجهه في الاهتزاز والتلاشي، وهو يكرر: "أفيقي... أفيقي...".
وفجأة، انتفض جسد الملكة وانتفض معه جسد المربية، قبل أن تتكلم الملكة بكلمات غير مفهومة من جديد، ما لبثت أن تحولت إلى كلمات قالتها بضعف وفي صوت خفيض: "أنا الملكة... أنا الملكة..."؛ فأمسكت المربية يدها، وراحت تمسحها براحتها في حنان، ثم فتحت الملكة عينيها، وهمست بشيء ما لم تسمعه المربية التي مالت عليها، وهي تسألها: "ماذا تقولين يا حبيبتي؟!".
جاء صوت الملكة هذه المرة مسموعًا وإن كان ضعيفا: "أريد قائد الجيش".
تعجبت المربية من طلبها، ولكنها أسرعت تخبر حرس القصر برغبة الملكة، وسرعان ما جاء قائد الجيوش من المعسكر القريب ليقف في احترام وتبجيل أمام الملكة التي كانت قد اعتدلت في جلستها، وقالت له في لهجة رسمية: "باسم المملكة، أطلب منك أنا الملكة ميرايا أن تقف على الحياد في القتال الدائر في المستنقعات، ولا تنضم إلى أي طرف حتى إذا طلب منك أي الطرفان ذلك".
شد القائد قامته، وقال في صوت قوي: "أمرك يا جلالة الملكة، ولكنني أعلم جلالتك أن القتال متوقف هناك منذ ساعات مع وجود استعدادات للبدء ثانية عند الغروب، وأننا فرضنا طوقًا حول المكان لمنع الأهالي من الوصول إلى المكان"، وصمت قليلًا قبل أن يضيف في شيء من الارتباك: "لكن الأهالي يا ملكتنا المبجلة يخشون الذهاب، وفي حالة من الذعر، وأنت غائبة". وعاد إلى صمته، قبل أن يتابع: "حتى الآن، الأمور تحت السيطرة، ولكن الساعات القادمة لا أحد يدري ما الذي سوف يحدث فيها".
فقالت الملكة: "أعلم كل ذلك، وحسنًا فعلت بعدم التدخل"، ثم عادت تقول باللهجة الرسمية: "وباسم المملكة، أطلب منك أنا الملكة ميرايا أن تدافع عن حدودنا ضد أية محاولات تدخل من جيوش أية مملكة أو مدينة مجاورة حتى إذا كانت مملكة والد كاين، وحتى إذا كانت تلك الجيوش المفترضة تتجه نحو المستنقعات لإنهاء القتال هناك".
سرت لجزء من اللحظة علامات الدهشة على وجه القائد، قبل أن يقول في الصوت القوي نفسه: "أمرك يا جلالة الملكة".
وصمتت لفترة، فاحترم هو صمتها، ثم قالت في النهاية باللهجة الرسمية: "وكذلك باسم المملكة، أطلب منك أن الملكة ميرايا أن تخطر الشعب بأن البلاد في حالة من الطوارئ يستحيل معها ظهور الملكة خشيةً على حياتها".
أجابها القائد بأسلوبه القوي: "أمرك يا جلالة الملكة".
رفعت يدها في إشارة إلى الانصراف، فدق أحد كعبيه في الأرض بقوة، واستدار منصرفًا.
ولما أغلق قائد الجيش الباب خلفه، سألتها المربية: "ماذا تفعلين يا ملكتنا؟!".
قالت الملكة: "أدافع عن أرضي ومستنقعاتي"، ثم نظرت في اتجاه المستنقعات وهي تقول في نبرة سعادة بدت للمربية غامضة: "وفي انتظار الضفادع".
ولم تمض لحظات على قولها هذا، حتى تعالت طرقات على باب الكوخ؛ ففتحت المربية الباب على إثرها لتجد مبعوث قائد حرس القصر يقول في هلع: "يا جلالة الملكة، هناك جيش من الضفادع يتقدم نحو القصر، ولا أحد من الأهالي يتصدى له... الكل يفر من طريقه".
قالت الملكة في سعادة: "دعوا الضفادع تدخل القصر".
نظر إليها المبعوث في عدم فهم، ولكنها قالت في لهجة رسمية: "باسم المملكة، أنا الملكة ميرايا أطلب من حرس القصر أن يتركوا جيش الضفادع يتقدم دون مقاومة"، وأضافت في نبرة عادية: "سوف يقفون في الحديقة فقط، ولن يتقدموا أكثر من ذلك، والآن انصرف لتنفيذ القرار".
وبالفعل، لم تمض دقائق حتى عاد مبعوث حرس القصر ليخبر الملكة أنهم نفذوا الأوامر بعدم التصدي لجيش الضفادع الذي اقتصر في تقدمه على الوقوف في حديقة القصر فقط، وإن كان الحرس لا يفهمون ما يجري، وقائد الحرس لا يستطيع أن يغادر البوابة ويأتي إليها بنفسه خشية حدوث تطورات تستدعي وجوده.
لكن الملكة قالت للمبعوث: "أرسل لي قائد الحرس كي أتشاور معه، وقل له إن الضفادع جاءت لتحمينا".
وابتسمت للمربية التي لم تكن قادرة على استيعاب أي شيء مما يجري حولها...
لكن ابتسامة الملكة كانت كافية لتطمئن.
******

8
بعيدًا في قصر مملكة والد "كاين"، كان الملك في جلسة تشاورية مع أحد مستشاريه، عندما تعالى صوت الحارس يقول إن وزير الحرب يطلب الإذن بالدخول؛ فاندهش الملك من هذا الطلب، ولكنه أمر الوزير بالدخول، وطلب من المستشار الانصراف.
ولما مثل الوزير بين يدي الملك، وانصرف المستشار، سأله الملك: "ماذا هناك لتقطع عليّ اجتماعي هذا؟!".
قال وزير الحرب: "سيدي... لقد حدث أمر جلل... لقد سقط ابن جلالتكم أسيرًا في معارك المستنقعات الدائرة منذ يومين".
صعق الملك لهذا النبأ، ولكنه تمالك نفسه بسرعة، وسأل الوزير: "وهل أصيب بأذى؟!".
أجابه الوزير: "كلا يا سيدي... مجرد رضوض بسيطة جراء السقوط من على فرسه أثناء القتال. ولكنه الآن أسير لدى تلك الكائنات التي يزعمون أنها ضفادع مقاتلة".
قال الملك في سخط: "وهل تصدق هذا الهراء أنت الآخر؟! لا ريب أنها لعبة من جيش زوجته لخلعه من الحكم".
لكن الوزير قال: "لا يا سيدي؛ فرجال استطلاعنا يقولون إن هناك أمورًا غريبة تجري في المستنقعات بالفعل، كما أن الملكة في غيبوبة منذ بدء الأحداث جراء اعتداء ابن جلالتكم عليها بالضرب، وعندما أفاقت، أمرت جيشها بعدم التدخل لمصلحة أي طرف في الصراع".
تجمدت ملامح الملك، وراح يهرش لحيته في تفكير، وهو يغمغم: "لقد تمادى ابني كثيرًا هذه المرة. خدعني بقصة القصر الذي يريد أن يبنيه، وبدأ ردم المستنقعات دون أن يضع في اعتباره رد فعل أهالي المملكة على ما سوف يرونه أنه استيلاء من جيوشنا على أرضهم. والآن، يضرب ملكتهم ويسقطها في غيبوبة".
واستغرق في التفكير بعض الوقت قبل أن يقول: "ماذا ترى يا وزيري؟!".
أجابه الوزير: "أرى أن نسحب قواتنا من المستنقعات أولًا، ثم نحاول التفاوض على إخراج جلالة الملك ابن جلالتكم من الأسر بالطرق السلمية. لا نريد حربًا بلا داعي مع قوى لا ندري طبيعتها يا مولاي... الأمور بالفعل غريبة في المستنقعات، ورجالنا رأوا ضفادع وكائنات أخرى تطير حقًا".
نظر إليه الملك في حنق، ولكنه قال: "لا ريب أن هناك ساحرًا أو..."، ثم ضرب جبهته بكفه، وهو يقول: "اللعنة! كيف لم أنتبه إلى هذا الأمر؟! لا ريب أنها هي... إنها إمتارا...".
وهب واقفًا، وهو يقول للوزير في لهجة آمرة: "اطلب من أقوى فرق جيشنا التحرك نحو الحدود دون أن تتجاوزها، وسوف أذهب على رأس هذه الفرقة بنفسي".
اندهش الوزير من هذا التغير المفاجئ في طريقة تعامل الملك مع الأمر، ولكنه قال: "حسنًا يا مولاي".
ولكن قبل أن يتحرك أي منهما، تعالى صوت حارس القاعة الملكية يقول إن أحد مبعوثي وزير الحرب يود مقابلته؛ فأمر الملك المبعوث بالدخول. ولما مثل بين يدي الملك، قال: "يا جلالة الملك، يا سيدي الوزير... لقد طلبت الملكة ميرايا من جيشها التصدي لكل من يحاول اقتحام الحدود حتى جيشنا نحن، وأرسل قائد جيشها لحرس حدودنا مذكرة بذلك تحمل ختم الملكة".
قال الملك للوزير: "لم يغير هذا الأمر شيئًا في خططنا... لقد أمرتك ألا تتجاوز الحدود، أليس كذلك؟!".
وطلب من الوزير ومبعوثه الانصراف، وبينما كان يتوجه إلى حجرته الملكية استعدادًا لقيادة الفرقة، قال في نفسه: "إمتارا... مر زمن على ذلك... سوف يكون لقاؤنا مليئًا بالشجون".
ولم يمض وقت طويل حتى كان الملك ووزير حربه على رأس فرقة جيشهما أمام حدود المملكة من ناحية المستنقعات، فتأهب حرس حدود المملكة، لكن مبعوثًا من فرقة الملك تقدم نحوهم، وأبلغهم أن الملك يريد مقابلة الملكة "ميرايا" على أن يكون اللقاء في خيمة ملكية تقام بين المملكتين.
وصل مبعوث إلى الملكة "ميرايا"؛ فأشار عليها قائد الجيوش بأن تذهب على رأس فرقة ملكية من الجيش كرد على مقدم الملك على رأس فرقة ملكية من جيشه.
وبالفعل، التقى الطرفان في الخيمة الملكية المقامة على الحدود، وعندما جلست الملكة وقائد جيشها مع الملك ووزير حربه، قال الملك: "ابني في خطر... إنه زوجك ووالد ابنتك... ويجب أن تفعلي شيئًا يتجاوز الوقوف على الحياد".
قالت الملكة: "سيدي الملك. زوجي الذي هو ابنك أهانني، واستغل جيشك وأرضي لتحقيق مطامع شخصية... خدعني وخدعك... خدعني أنا شريكته في الملك... وخدعك أنت وأنت أبوه وقائده في الجيش".
توتر الملك لما تحمله كلمات "ميرايا" من صدق، ولما تؤشر عليه من مقاومة لم يتوقعها؛ فقال لها: "تريدين له أن يموت في المستنقعات إذن؟!".
قالت "ميرايا": "بالطبع لا يا سيدي الملك. هو زوجي ووالد ابنتي، وشريكي في حكم المملكة. ولكنني أريد منه أمرين مقابل تخليصي له من مأزقه".
قال الملك في دهشة: "إذن، تستطيعين أن تخرجيه".
قالت ميرايا في قوة: "نعم، أو على وجه الدقة، أستطيع أن أضغط على آسريه دون أن أضمن النتائج، وإن كنت أظن أن ضغطي سوف يجدي".
فسألها الملك: "وما الأمران؟!".
أجابته: "أن يتنازل عن نصيبه في حكم مملكتي، وأن أضمن السلام مع مملكتك بعد انتهاء هذه الأزمة".
فقال لها الملك في بساطة: "لك هذا"، ثم استدرك قائلًا: "ولي أنا شرط".
حان دور الملكة "ميرايا" لتتوتر أعصابها، وهي تسأل الملك: "وماذا تريد يا جلالة الملك؟!".
أجابها: "أن أقابل إمتارا".
لم تفهم الملكة ما يعنيه، ولكنه قال لها: "أبلغي آسري ابني أنني أريد أن أقابل إمتارا، وسوف يفهمون... قولي لهم إن بيلجا يريد مقابلة إمتارا"، وأضاف في حنين غريب: "وسوف تفهم هي ما أقصد".
هزت الملكة رأسها علامة على الموافقة...
وبدأت المراسلات.
******

9
عندما تساءل "كاين"، بعدما أفاق ووجود نفسه مقيدًا في أحد الكهوف، عن مكان وجوده، رنت في المكان ضحكة "تشيك" الساخرة، وقال له وهو يجلس على مقعد بجواره: "أنت في المكان الذي أردت أن تأتي إليه... أنت في المستنقعات أيها القاتل".
وقبل أن يتفوه "كاين" بأي تعليق، قال له "تشيك"، وهو ينهض من مكانه ليواجهه: "سوف تقول لي إن جيش والدك سوف يأتي وينقذك، وغير ذلك من الترهات... حسنًا، جيش الملكة ميرايا لن يأتي لأنه تلقى أوامره من ملكته الحقيقية بعدم التدخل في الصراع هنا".
انعقد حاجبا "كاين" في شدة لهذا التطور المفاجئ، ولكنه قال: "أنت تكذب".
لكن "تشيك" لم يلق بالًا لسبابه، وعاد يتابع كلامه قائلًا: "كما أن جيش الملكة سوف يتصدى لجيش مملكة والدك إن حاول تخطي حدود المملكة. وبالتالي، لن يكون أمام أمام أنت ووالدك إلا التفاوض لإطلاق سراحك... والتفاوض سوف يكون معي، وليس مع الملكة".
نبرة الثقة التي تحدث بها "تشيك" جعلت "كاين" يتأكد من صحة ما يقول؛ فقال له: "اقتلني، إذا أردت".
قال له "تشيك" في حقد: "أمران يمنعانني من قتلك رغم أنك تستحق ذلك. الأمر الأول هو أنك يجب أن تعلن تنازلك عن حقوقك في إدارة هذه المملكة بحيث تتولى الملكة ميرايا وحدها أمور الحكم. والأمر الثاني هو أنك أبي ابنة الملكة، ولا أحب أن أكسر قلب طفلة"، وقبل أن يعلق "كاين"، أردف "تشيك" ساخرًا: إلا إذا رأت أمها أن ذلك في مصلحتها".
أدرك "كاين" المساومة التي يعرضها أمامه "تشيك"... إعلان التنازل مقابل حياته... وجيش والده خارج المعادلة؛ لأنه سوف يكون في موقع المعتدي، إذا تجاوز حدود المملكة.
عندما وصل "كاين" بأفكاره إلى هذه النقطة، نظر إلى "تشيك" في حقد وقال: "لقد أجدت اللعبة أيها الضفدع. اللعنة عليك".
قال "تشيك": "اللعنة من نصيبك أنت يا كاين... أنت من خان الأمانة، وحاول أن يستولي على المملكة. ومن يدري؟!"، ثم مال نحو "كاين" قائلًا في لهجة خاصة: "وربما كان يحاول كذلك أن يتخلص من والده ليستولي على حكم مملكته".
امتقع وجه "كاين" عندما سمع هذه الكلمة، ولكنه قال: "ما هذه السخافات؟!".
لكن صوته المهتز ووجهه الممتقع أكدا أن كلمات "تشيك" أصابت كبد الحقيقة؛ فقال له هذا الأخير: "شهادة أحد قادتك الذين وقعوا في أسر ضفادعي وفئراني!!".
فغمغم "كاين" في حنق: "جاسكو الملعون".
قال "تشيك: "هو جاسكو بالفعل...!!".
وقبل أن يواصل كلامه، دخل الكهف أحد الضفادع ليسلمه ورقة مطوية؛ فأخذها منه "تشيك"، وأمره بالانصراف؛ فانصرف الضفدع، وفتح "تشيك" الورقة، وقرأ ما فيها قبل أن يتهلل وجهه، وينظر إلى "كاين" ويقول: "لقد تراجعت جيوش مملكة والدك، الذي أرسل يطلب الصلح مقابل إطلاق سراحك".
وقبل أن يكذبه "كاين"، أراه "تشيك" الورقة ممهورة بختم مملكة والده بيلجا.
فقال "كاين" في استسلام ممزوج بالمرارة: "ماذا تريد يا تشيك؟!".
قال "تشيك": "حسنًا، لم أعد ضفدعًا الآن فيما يبدو!! المهم هو أن ما أريده أمران... التنازل الذي طلبته منك... مكتوبًا وعليه ختمك... وإعلان بذلك شفاهية أمام حشد من أهل المملكة. هذا أمر. الثاني هو تعهد مكتوب من والدك بعدم التعرض لهذه المملكة طالما احترمت المملكة مصالح مملكتكم، على أن يكون التعهد مكتوبًا وتقوله أنت أمام الحشد نفسه أيضًا. ولما كان والدك أرسل لنا يطلب ذلك الصلح مقابل إطلاق سراحك، فهذا يعني أن كل ما تبقى هو الإعلان الشفهي منك بذلك".
قال "كاين" في الاستسلام نفسه: "لك هذا".
هنا، فرقع "تشيك" بإصبعيه في الهواء، فجاءه أحد الضفادع مسرعًا أمام عيني "كاين" المذهولتين؛ حيث لم يكن يستطيع بعد أن يصدق ما يحدث من الضفادع. وما إن وقف الضفدع أمام "تشيك"، حتى قال له الأخير: "الختم".
أسرع الضفدع يغادر الكهف، قبل أن يعود في ثوان، وهو يحمل خاتمًا عرف فيه "كاين" ختمه الشخصي؛ فقال له "تشيك": "لقد حصلنا عليه من ثيابك بعد أن فقدت وعيك".
وقدم له ورقة مكتوب عليها التنازل والتعهد المطلوبين وعليهما الخاتم، وقال له: "اختصارًا للوقت، كتبنا نحن الورقة ووضعنا ختمك عليها!!".
وقبل أن يعقب "كاين"، قال له "تشيك": "سوف تخرج الآن، وتعلن في القصر أنك تتنازل عن كل حق لك في حكم المملكة لمصلحة الملكة ميرايا، واعلم أن سهام ضفادعي تحيطك من كل الجهات إن حاولت التلاعب. بعدها، سوف نتجه بك إلى الحدود بكل كرامة الملوك لنسلمك إلى والدك الذي ينتظرك في خيمة ملكية بين المملكتين".
لم يستطع "كاين" أن يعقب، وراح ينظر إلى الأرض في عدم تصديق، قبل أن يجد نفسه محمولًا على أيدي مجموعة من الضفادع لتضعه على محفة تمهيدًا لنقله إلى قصر الحكم.
وبينما كان "تشيك" يتابع الضفادع حاملة "كاين" بعينيه، تساءل في نفسه عما يريده بيلجا من "إمتارا".
******

10
أعلن "كاين" التنازل في القصر الملكي أمام حشد من أهل المملكة، وقدم الورقة أمام الحشد إلى الملكة التي قبلتها منه. بعدها، انتقل في موكب ملكي مهيب إلى الخيمة الملكية على الحدود؛ حيث استقبله والده، وهناك أعلن الملك "بيلجا" أمام وفدي المملكتين أن البلدين في حالة سلام أبدي "ما دامت المودة تتدفق في القلوب" وفق ما جاء في ورقة معاهدة السلام بين المملكتين.
وبعد أن انصرفت الوفود الرسمية، وبقي الملك مع ابنه وابنة ابنه وزوجة ابنه، قال لها: "الآن لم يبق سوى أن أقابل إمتارا".
فاستأذنته الملكة في الخروج من الخيمة، وأسرعت إلى حيث كانت تجلس الحكيمة "إمتارا" في خيمة أخرى على مقربة من الخيمة الرئيسية، وأمسكت بيد الحكيمة التي قالت لها: "لقد أتعبت تشيك كثيرًا".
كادت الملكة "ميرايا" أن تبكي، ولكنها تمالكت نفسها أمام الحرس، وهمست للحكيمة: "أرجوك".
فسكتت الحكيمة حتى دخلت إلى الخيمة الملكية، وهنا قالت للملك الذي كان يعطي ظهره لمدخل الخيمة في تلك اللحظات: "أهلًا بك من جديد يا بيلجا. صرت ملكًا الآن".
استدار الملك من فوره ليجد أمامه الحكيمة؛ فتغيرت ملامحه إلى حنين لم يشهده الابن على وجه أبيه مطلقًا، وقال في نبرة تحمل عذاب السنين: "إمتارا...".
هنا أشارت "ميرايا" إلى زوجها وابنته بالخروج من الخيمة، وخرج الجميع دون أن يشعر بهما الملك و"إمتارا" التي قالت للملك: "شموس كثيرة أشرقت وغابت منذ آخر لقاء بيننا".
قال لها وهو يجلس على ركبتيه أمامها، ويمسك يدها: "لكن شمسك لم تمت في قلبي يا إمتارا".
سحبت يدها من كفه في شيء من الحدة، قبل أن تقول في برود: "تمسك بكل شوق اليد التي كنت تريد قطعها، أليس كذلك؟!".
قال لها الملك في عتاب: "إمتارا... كان سوء فهم"، ثم نهض من مكانه، وقال وكأنه مفسرًا: "كنا... كنا نواجه حربًا من ساحرات ملعونات، وقيل لنا إن هذا الكهف به ساحرة... ماذا تريدين أن نفعل سوى أن نقتلها؟!".
عادت تقول في البرود نفسه: "دون أن نسأل أنفسنا عما إذا كانت هذه ساحرة ملعونة أم ساحرة مأمونة، أليس كذلك؟!"، ثم أضافت في حنق: "لولا أن تمكنت من إلقاء تعويذة الانتقال على نفسي لما تمكنت من الهرب، وللقيت مصرعي حرقًا على يد جنودك".
لم يعلق الملك، فواصلت هي كلامها قائلة: "لو كنت أعلم أنه ابنك، لأمرت بقتله".
قال لها في غيظ: "ليتك فعلت ذلك. إنه يستحق على أية حال!"، ولانت لهجته قبل أن يقول: "صدقيني، لم أكن أعلم أنك أنت من بالكهف".
قالت في استخفاف بما يقول: "لم تكن تعلم... رئيس فريق الاستطلاع الملكي، وابن الملك لم يكن يعلم أن حبيبته هي الساحرة التي تقطن الكهف، والتي صدر الأمر بحرقها"، ثم نظرت إليه وقالت في رجاء مصطنع: "بيلجا... لا تهن ذكائي".
هنا قال لها الملك وقد ضاق ذرعًا بتقريعها: "ماذا تريدين يا إمتارا لكي تعودي معي إلى المملكة وتتبوأي المكانة التي تريدينها؟!".
أجابته: "لا أريد سوى أن أعيش في مستنقعاتي، وأن تترك هذه المملكة آمنة".
كان التصميم باديًا في لهجتها فقال لها: "لك هذا... ولكنني سوف أزورك وقت أشاء".
قالت له: "على الرحب والسعة، ولكن للمملكة ملكة يستأذن منها الملوك".
واتجهت نحو باب الخيمة، فساعدها على السير نحو الباب، وهو يقول لها: "يبدو أنك تعذبت كثيرًا".
فأجابته في مرارة: "بقدر ما تنعمت أنت في الملك يا بيلجا".
نظر إليها في عتاب، وهو يفتح لها باب الخيمة: "سوف أعود..."، وتركها لتتسلمها "ميرايا" التي قالت له: "لن تغادر بمفردك أيها الملك... سوف يعود ابنك معك".
نظر الملك في ضيق إلى ابنه، الذي طأطأ رأسه أرضًا، وقد تلاشت منه كل العجرفة الملكية، فسألها هي: "ولكنّ حفيدتي بعيدة عن كل هذه التعقيدات، أليس كذلك؟!".
أجابته ميرايا: "في أي وقت تشاء، احضر لتراها..."، ثم نظرت إلى "إمتارا"، وأضافت بلهجة خاصة: وترى الآخرين كذلك".
امتلأ وجه الملك بخيبة الأمل، وأشار إلى حراسه الذين كانوا يتابعون ما يجري دون أن ينبسوا ببنت شفة؛ فبدءوا في الاستعداد للرحيل.
وبينما وقفت الملكة والحكيمة تراقبان الموكب الملكي يرحل، قالت الملكة في مرارة: "لم يأت تشيك".
أجابتها الحكيمة: "ولن يأتي...".
فعادت الملكة تقول: "ولكنه سوف يبقى في المستنقعات".
أجابتها الحكيمة باختصار كعادتها: "إنها أرضه... ومملكته".
اكتفت الملكة بهذه العبارة، وبينما عادت إلى قصر الحكم بصبحة ابنتها وحرسها، كانت "إمتارا" تنطلق بمفردها وحيدة نحو المستنقعات.
وعندما وصلت، سألها "تشيك": "هل انتهى كل شيء كما خططنا؟!".
أجابته: "نعم".
لاحظ في نبرتها شيء من الحزن؛ فسألها: "ماذا بك يا إمتارا؟!".
قالت: "احتراق السنين".
فهم ما تعنيه، وانطلق مغادرًا عبر الممر السري إلى كهفه، فيما أخرجت هي من صدرها صورة ورقية تحمل رسمًا للملك بيلجا، وقبلتها قبل أن تقول في حنق عاشق أو عشق حانق: "اللعنة عليك يا بيلجا!".
ولما وصل "تشيك" إلى كهفه، تطلع إلى صورة للملكة ميرايا رسمها قبل عشرين عامًا، وقال لها: "سلام عليك وإليك يا ميرايا".
أما "ميرايا" فقد وقفت في شرفة قصر الحكم ناظرة إلى المستنقعات، قبل أن تقول: "شكرًا... شكرًا يا تشيك".
والتمعت نجمة في السماء.
******
رابط الجزء الأول (أمير المستنقعات)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=477177








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير