الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العَلمانية بين جدلية العقل والدين في الفضاء العام العربي (تونس-مصر-المغرب)

فدوى أحمد التكموتي
شاعرة و كاتبة

2016 / 7 / 10
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


احتوى مشروع الدراسة المعنون ب :(العَلمانية بين جدلية العقل والدين في الفضاء العام*تونس-مصر-المغرب*،على مواضيع متعددة ومتشعبة،حيث أنه يولي أهمية بالغة لما يشهده العالم بأسره وخاصة الفكرالعربي،حيث أصبح هو المعضلة الكبرى التي تتبارز الآن ساحة أولويات الحكم،حكم العقل أم حكم الدين؟ وهذا ما يظهر بقوة في حاضرنا الآن إيقاع أحكام مسبقة على الفكر،فظهرت مفاهيم متعددة تجعل منه داخل قفص الاتهام مثل ازدراء الأديان واقع الحال في القرن الواحد والعشرين،متجاوزة كل تحليل نقدي يقوم به المفكر العربي،بل إن التخبط الذي يعيشه العالم العربي من دخوله لحرب فعلية أصلها إيديولوجي فكري جعل من مفكريه ينقسمون إلى قسمين:قسم تنويري يتطلع لتحرير الفكر وجعله فكرا نقديا بامتياز،ونقيضه اختار بقوة التبعية العمياء وسكون مطلق مع دخوله مقبرة العدم.لكن هنا يمكننا أن نتساءل،ماهي الأسباب والوقائع التي دفعت للمفكر العربي اتخاذ مسار الخطان المتوزيان في الفكر أحدها عقلي والآخر نقلي مع دخولهما جدلية عميقة أدت إلى التنافر بينهما؟.فالمجتمع العربي عاش قهرا استعماريا قويا،نتائجه حمولات وافرة تأرجحت بين الاستسلام خاصة مرحلة انحطاط التي جعلته مستكينا لدرجة الموت السريري وبين التمرد مرحلة النهضة ومحاولة إيقاظه،وهذا ما أدى إلى ظهور مفكرين الذين حاولوا زعزعة الفكر من مقبرة الانحطاط،فبرز فكرين متناقضين أحدهما أصولي(جمال الدين الأفغاني،الكواكبي...) وثانيها تنويري( محمد عبده ...) مما جعل الفكر العربي يدخل مرحلة ولادة حقيقية بعد الجمود الذي عرفه واستمر ست عقود،فانعكس ذلك بظهور مدارس للاتجاهين المتناقضين فكان لكل من (مصطفى أمين،قاسم أمين،طه حسين..) حاملين لواء العقل التنويري وكان من مريدي الفكر الأصولي (رفاعة الطهطاوي،حسن البنا،الشيخ الألباني...) نصيبه أيضا.وهنا دخل الفكر العربي مرحلة دياليكتيك دائم ومستمر بل حرب لازالت قائمة للحظة بين العقل والدين؟أيهما يحكم ؟.
لقد ساق الفكر الإنساني بتطوره إلى مفاهيم ونظريات تدوركلها نحو مسلمة واحدة(الوجود وماهيته)في إطار عقلي يأخذ تارة من مفهوم الطبيعة باعتبارها ومحاكاة الإنسان لها،وأخراها بالرجوع إلى اللاهوت المنظم لحياة الإنسان في الحياة ليمرر بها إلى قنطرة مابعد العدم.ومن المسلمات التي ورثها هذا الفكر زمان الإيديولوجيات والنظريات الفكر الديني،وخاصة المسيحي منه،الذي عرف تقهقرا واضحا وقضي عليه على يد الفكر النقدي،واستعمال العقل،ليس فقط لتحليل الواقع بل وأيضا للتنظير له،نحو بناء عَلمانية المجتمعات الإنسانية عن طريق تنويرها وتحريرها من سلاسل قيود العادات والتقاليد والشعائر الإيمانية المملوءة بعناصر الفكر اللاهوتي.فإذا كان الفكر النقدي الغربي بخاصة عصر الأنوار اهتم بالموروث المسيحي قبل أن يأخذ موقفا مناوئا أو مناصرا،وينطبق هذا على كانط وهيغل وديكارت وغيرهم....فلم ينهَ على الفكر الكلاسيكي اللاهوتي الغربي بمجرد قيام الثورات الاجتماعية والسياسية والإعلان عن التفريق بين الكنيسة والدولة،بل ظل هذا الفكر في العمق نشيطا في المعاهد الدينية المنتشرة في أوربا وأمريكا،إلى أن حان الوقت ليبعث من رماد الفكر النقدي في أواخر القرن العشرين،حاملا الجديد من القديم في محاولة لبناء فهم جديد للواقع الرمزي للإنسان الغربي وامتداده العالمي،فإذا كانت الكنيسة قد فقدت سيطرتها على السلطة السياسية،فإنها لم تفقد دورها الروحي الفكري.
وإذا كان الفكر الكلاسيكي الجديد المتعدد المذاهب والمشارب العقائدية والفكرية،فإن ما يوحده على مستوى التنظير هو رغبته في إعادة الإعتبار للدين سواء في جانبه الطقوسي الشعائري أو في جانبه الأخلاقي بمقاومة الاختلالات الروحية الناتجة عن الحضارة على اعتبار تقديم الفكر اللاهوتي كبديل للفكر النقدي.
ويعتبر موضوع العقل والدين من بين أقدم المواضيع التي شغلت العقل الإنساني منذ ظهور البوادر الأولى للتفكير الإنساني بمختلف الحضارات التي عرفها التاريخ الطويل الإنساني،ويرجع سبب هذا إلى البعدين معا:الدين والعلمي،من الأبعاد التي وسمت اهتمامات الإنسان منذ وجوده إلى مختلف مراحل تطوره.
وإذا كانت هذه العلاقة(الدين والعقل) علاقة متوترة ومليئة بالصراع تعبر عن الطبيعة الإنسانية الباحثة والمستمرة البحث في طبيعة كينونتها وماهيتها كطبيعة متجاذبة بين قطبين مختلفين في جوهرهما وتوجههما.حيث كانت أسباب التوتر والصراع تدورحول السلطة وتنظيم المجتمعات حسب منظومات وثوابت بعينية،وقد وصل حد التوتر والصراع ذروته في المجتمعات الغربية عصر الأنوار وبداية عصر النهضة،ووصول العلم إلى مستوى كان باستطاعته الدخول في معارك ضارية مع الدين في شكل ثورات وردود فعل عنيفة بين الطرفين،انتهت في آخر المطاف في الكثير من الدول الأوربية بانتصار العلم والقضاء على السلطة السياسية للدين،لكن هذه السلطة لم تكن سلطة روحية أخروية فقط،بل دنيوية لروما القديمة التي حكمت معظم البلدان التي كانت معروفة أنذاك.
ولما كان العلم وتفوقه واضحا في الغرب منذ بداية الاكتشافات العلمية لما يسمى بالثورة الصناعية،وحتى إن كانت الشعوب الغربية قد اختارت التفريق بين الدولة والدين،فإن العلاقة الصراعية بين العقل والدين استمرت إلى يومنا هذا،ويتمظهر هذا الصراع على مستويات عدة،وهو ما أدى إلى فصل الدين عن الدولة،وهذا لا يعني محاربة الدين بل فقط تحجيمه إلى حدود الطبيعة كحق فردي شخصي وليس كشرط لتنظيم العلاقات الاجتماعية والحياة معا،لأن التفسير العلمي للعالم وللعلاقات الاجتماعية يختلف جوهريا عن المنظور الديني للدنيا وللتفاعلات الاجتماعية،وما حصل ليس القضاء على الأخلاق اللاهوتية بل اكتشاف أخلاق عِلمانية مصدرها العلم .
وهي أخلاق لا تهتم أساسا بمصير الإنسان بعد الموت كما هو شأن في الدين على اعتبار أن مصيره لايمكن التحقق منه علميا ولا يمكن التعبير عنه بفرضيات علمية دقيقة،بل يبقى في مجال الممكن الذي يمكن ألا يحصل،لأن أخلاق العِلمانية هي أخلاق وضعية تتأسس على مبادئ حقوق الإنسان والتضامن والتفاهم،وهي ذاتها المبادئ نجدها في المنظومة الدينية اللاهوتية على الرغم من أهداف هذه الأخلاق هي أهداف لاهوتية وليس أهدافا اجتماعية في المقام الأول.
وقد استطاع الفكر الغربي المعاصر في شقه العِلماني أن يصل إلى شيئين مهمين لم يسبق له أن وصل إليهما من قبل.من ناحية إعادة النظر في العلاقة التي تجمع السلطة الدنيوية والسلطة الدينية ومن ناحية أخرى محاولة عقد هدنة بين(العقل والدين)،لأن التحديات التي تواجه المجتمعات ما بعد الحديثة لا حصر لها.
ولاشك أن الفكر العربي تأثر بهكذا تطور في الفكر الفلسفي الغربي،وبهكذا أصبح لمفهوم العِلمانية والعَلمانية أهم الأطروحات الفكرية التي استدعيت لعلاج مشكلات حاضر المجتمع العربي،والتي تقف في وجه إمكانية تحصيله للمدينة والتحضر المعاصر،بما حققته المجتمعات الغربية،لكن ما حدث على مستوى الفكر العربي وبالأخص ما هو معاصر من تياراته،هو تحول مسألة قبول العَلمانية أو رفضها نظريا،وفي تقاطع هذه المشكلة الجديدة مع معطيات الواقع السياسي للمجتمع العربي المعاصر،وخصوصيته بما يتميز به هذا المجتمع من بنية ثقافية اقتصادية مقارنة مع المجتمع الغربي(نموذج العَلمانية)،ظهرت إشكالية العَلمانية نمطا فكريا أو نظرية سياسية تطرح من خلالها مشكلة بل مشكلات واقعية.
والعَلمانية ليست هي المشكلة،وإنما الأداة المستخدمة لحلها،فالمشكلة العربية حقيقة تظهر في التخلف والتبعية والانحطاط،إنها تكون إشكالية أخرى لاحتوائها على تظافر لمشكلات كثيرة،ويمكن ردها جميعها إلى الجدلية القائمة بين العقل والدين في الفضاء العام العربي،والعَلمانية واقعا لا تعدو أن تكون وسيلة من الوسائل التي استدعيت استجابة لظن إمكانية الحل من خلالها،فكانت علاقتها بالفضاء العام العربي في المرحلة المعاصرة بالذات،وضمن إمكانية تقويضه أو ترسيخه عمليا.لذلك جاء الحديث لاستعراض مواقف وأطروحات أتى بها الفكر العربي المعاصر،ودارت في غالبيتها حول العَلمانية مقولة حضارية استدعيت من الفكر الغربي خالصة مرحلة عصر الأنوار إلى مشكلة تجاوز مشكلة العلاقة بين الدين ممثلا في الكنيسة وسلطانها الروحي المطلق والدولة المؤسسة على دساتير وضعية مسندها الأول والأخير العقل بوصفه الحارس على دولة المؤسسات.
وهذا ما استدعى وجوب إحضار أطروحات الفكر الغربي الذي أثر بشكل كبير وواضح في الفكر العربي المعاصر الدائم البحث في التنظير لمجتمع مدني ودولة جديدة عربية،تحاكي نظامها السياسية ودستورها الوضعي الدولة العَلمانية العربية أمام علاقة جدلية قائمة بين الدين والعقل في فضائه العام العربي،الذي ولد عنه مواقف متناقضة بين رجلات الفكر العربي-حديثه ومعاصره-تجاه العَلمانية،تأرجحت غالبا بين القبول والرفض واتسمت بالحدة أحيانا كثيرة.
إن التوتر بين الحلف الديني والحلف العقلي(الأصولية-العَلمنة) له تراكمات تاريخية طويلة في العالم العربي، خاصة تلك المرحلة التي عاشها عصر الانحطاط ومرحلة الاستعمار وما بعده،فكانت النتيجة انقسام المفكرين العرب بين مؤيدي(العقل) ومؤيدي(الدين)،هذا التوتر سمح فهم الدينامية التي تحرك العالم الحالي،باعتبار أصحاب الفكر الحداثي العقلاني(العَلماني) طبقة عالمية إلى حد ما،أو طبقة عابرة للحضارات التي تسمح لهم بلعب دور الوسطاء من أجل تفاهم إنساني على مستوى الكون بكامله،في مقابل ذلك الحلف الديني(الأصولي) يعرف أيضا طموحات كونية من خلال الدين باعتباره عالمي(مد إسلامي تركي أو وهابي أو إيراني).
فزرع بذرة العَلمانية في الفكر العربي كان مخاض تأثير قوي جدا من المفكرين الغربيين الذين أثروا بشكل قوي فيه ولعب كانط في كتابه نقد العقل الخالص الفيصل النهائي بين الإيمان والعقل،وبين الإدراك الحدسي والظواهر المحسوسة حيث أرسى عالمين منفصلين وهو ما يشكل تقدما منذ ذلك الوقت بجعله من مفهومين(العقل والدين) منفصلين،حيث يطالب الأول(العقل)بحقوقه بعيدا عن العالم الآخر ويلزم التحليل،بينما(الدين)يتخذ المسلمة الإعتقادية بديهية دون تحليلها،وبذلك استطاع كانط أن يسلم بوجود الإله وبخلود الروح مع وجود حرية الإرادة،وهذه الإرادة متمثلة في العقل الخالص.
وكان لدور عصر التنوير قوة مأثرة جدا في الفكر العربي،حيث برز من يناهض هذا العصر ومن يناصره،وهذه هي المشكلة التي واجهت الفكر العربي بين متقبل وبين رافض.حيث أن العَلمانية لا تقتصر على مجتمع بتقاليده وأفكاره وعاداته ومعتقداته،بل هي شمولية كونية تعطي السلطة الأولى والأخيرة للإنسان بوصفه عقلا لا بوصفه نقلا.وهذا ما جعل فكرة العَلمانية تكون في جانب الرفض لمن ينظر للإنسان بوصفه نقلا(دينا) لا عقلا.هنا ظهر مفهوم قيام الدولة الدينية الشمولية العالمية سواء أكان الإمتداد(مد إسلامي تركي أو وهابي أو إيراني)،فأصلها لاهوتي،مرجعها لاهوتي،نهايتها لاهوتية عالمية،وهذا ما ذهب إليه الفكر الأصولي سواء أكان متشددا أو معتدلا،ومن رواد هذا الفكرحسن البنا وفكره الرافض لعقلنة الإنسان،حيث أرسى مفهوم الدولة الدينية الشمولية،والذي تأسس بعده الفكر الديني سواء يمينه أويساره بين إرهاب الفكر وبين اعتداله لكن في إطار دولة دينية عالمية اقتداءا بالدولة العثمانية الميتة،وهذا ما ذهب إليه الإتجاه الإخواني بخاصة تركيا التي تحاول جمع رفات الميت من قبره وإعادته من جديد تحت راية الخلافة الإسلامية بدءا من بقعتها المحلية وإمتدادها الإقليمي حتى الوصول للعالمية،بينما يشهد الفكر الأصولي المتشدد الوهابي ثورة جارفة نحو الامتداد القوي إقليميا وعالميا،بعد سيطرة هذا المفهوم المتشدد محليا تحت لواء البيعة مع الإمامة وتخرج من تحت أضلعه جماعات التكفير لا التفكير،وأبرز هذه الجماعات تنظيم القاعدة،جبهة النصرة،داعش،بينما لم تسلم إيران في أخذ قسط لها من توزيع وهم التركة،فمنذ قيام ثورة الخميني وإيران حالمة بقيام دولة دينية فارسية قائمة على ولاية الفقيه إقليميا نحو العالمية بعد تمكنها محليا.
ولهذا الاتجاه مفكروه عرب ومسلمين دافعوا وبقوة في شقه الأصولي(الدين)سواء أكان معتدلا أو متشددا بينما كان الحداثي(العقلاني) قسطا وافرا من هيئة الدفاع لا يستهان بها،بذلك انقسم المفكرون العرب والمسلمين بين مؤيد لقيام دولة مدنية(عَلمانية) وبين معارض لها وطرح البديل قيام دولة دينية(أصولية) في المنطقة العربية والصراع لا يزال قائم الوجود ليومنا هذا. ومن بين مفكري الإتجاه الأصولي سواء أكان متشددا أو معتدلا يذكر على سبيل المثال لا الحصر:((حسن البنا-الشيخ الألباني-سيد قطب-محمد مصطفى المراغي،راشد الغنوشي-حسن الترابي-حامد بن أحمد الرفاعي-محمد الحبيب المرزوقي*أبو يعرب المرزوقي*-طارق السويدان-محمد سليم العوا-أبو الحسن حميد المقدسي الفرقي-علي الحسين السيستاني-محمد محمد صادق الصدر،قلب الدين حكمتيار...))،ولعل هذا العداء والرفض المطلق لفكرة عَلمانية الإنسان كان ولازال حاضرا بقوة ذلك خوفا من غزو هذا الفكر وجعل مفهوم العَلمانية يتعدى حدود المجتمع العربي ذو خصوصية وطابع وتقاليد وعادات وشعائر ومعتقدات تحذو حذو الغرب،وتجعل من سلطة العقل سلطة قهرية لا يمكن النقاش إلا من خلالها وحولها،باعتبارالعقل هوالإرادة الحقيقية في الإختيار،وهذا الإختيارهوجزء لا يتجزأ من المعتقد.وهنا يكمن مربط الفرس،الخوف من غزو هذا الاتجاه العقلاني الشمولي الكوني العالمي والدولة المدنية القائمة على الاختيار المطلق والإرادة الحرة في المعتقد،وهذا ما جعل هذه الفئة الرافضة للعَلمانية(الاتجاه العقلاني) تحارب بقوة انتشار هذا الفكر وطرح البديل له في الدولة الدينية باعتبار اللاهوت هو البداية والنهاية لهذا العالم،حاملين سواء في شقه المعتدل أو المتشدد مصلحة النقل(الدين) فوق الإنسان(العقل).
في مقابل ذلك الفكركان أصحاب الحداثة(العقلانيين) يتخبطون في التحليل والترجيح والبرهان متمسكين قواعد العقل منهجا وتحليلا وتفكيكا لإرساء دولة عقلية عالمية نحو نسالة إنسانية كونية عَلمانية،ومن رواده:((قاسم أمين-طه حسين-إحسان عبد القدوس-فرج فودة-ناصر حامد أبوزيد-عبد الوهاب المسيري-علي حرب- فؤاد زكريا-محمد أركون-محمد عابد الجابري-ناصيف نصار-طه عبد الرحمن-عبد الله العروي-جورج طرابيشي-جورج بطرس كتورة-إدوارد سعيد،محمد حسنين هيكل...)).
وإذا كانت الحداثة بناءا متخيلا وإيديولوجيا،فإن المجتمعات التي تنضوي ضمن العولمة،هي وحدات حقيقية بالفعل وقعت بداية تحت سيطرة الاستعمار وفي ظل احتلاله وما بعد استقلال تلك المجتمعات،حيث صار مفهوم كيفية التغيير هو السؤال الذي حاقب هذه المجتمعات ما بعد استقلالها،ولعل انعكاس حضارة الاستعماربهذه المجتمعات جعلها تتأثر سواء بالإيجاب أو السلب بداخل تكوينها،لهذا وجد صراع بين الحضارة الطبيعية وغنيمتها المكتسبة،وهذا حسب ميشال فوكو هناك تأثير قوي جذري بين الأنتربولوجيا والاستعمار،لكن وبتطور العلوم وبخاصة سيطرة الوسيلة التقنية جعل الفكر العربي يتطور بسرعة وذلك من تبادل المعرفة والخطابات الفكرية بين العالم بأسره،بل أصبح الفكر العالمي مشروعية عابرة للتاريخ والثقافة،متجاوزا الشروط التاريخية والجغرافية التي أنتجتها المجتمعات قبيل الاستعمار،وبذلك أصبحت العلوم الإنسانية منفتحة على العالم،وهيكلتها غير خاضعة لأي نسق جغرافي محدد،حيث أصبح بإمكان النتاج الفكري عند كبار العلماء يوصل بسرعة البرق للعالم بأسره،وذلك بفضل التطور التكنولوجي والتقني في العالم.
ولما كانت العولمة هي البوابة الرئيسية لعَلمنة الإنسان وفكره لم يقتصر الفضاء العام في المجتمعات الإنسانية على ساحات أغوارا والمسارح الرومانية بل تعدت إلى وسائل أخرى عبر التطور الفكري للإنسان العالمي،وإن كان هابرماس قد شرع فضاءا عاما للنقاش وطرح المواضيع ذات أهمية في البرلمانات أو عن طريق منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والجمعيات فإن بودريار بواسطة التكنولوجيا والإعلام قد برهن تطور التقنية وجعل الفضاء العام واسعا حدود الأرض،فالمعاهد والجامعات ودور الدين والتلفزيون وشبكات التواصل الإجتماعي و الهواتف الذكية... كلها أصبحت فضاءا عاما يلتقي فيه مجتمعات العالم لتناقش الفكر ولبحث عن الأسئلة التي تهلك أرقها المستمر.ولعل هذا ما حصل في الفضاء العام العربي وموضوع الدراسة يستلهم ثلاث نماذج في العَلمانية القائمة على جدلية العقل والدين فيما يخض تونس ومصر والمغرب.
حيث شهدت المنطقة العربية منذ2011 تحولات لم تشهدها منذ مرحلة الاستقلال عن الدول الاستعمارية في منتصف القرن العشرين،فرفض العالم العربي الاستجابة لعمليات التحول الديموقراطي في أوربا وأمريكا وآسيا،مما جعل استثناءا عربيا في هذا المجال ووجود تناقض بين الثقافة العربية وقيم الديموقراطية .
وإذا كانت الثورات العربية اليوم هي إحدى النتائج الإيجابية للتقدم(الإلكترومعلوماتي) الذي حصل في العالم المتقدم والغربي منه بشكل خاص،فهي تفرض أن ترتبط أشد الارتباط بطبيعة العصر وآخر منجزاته،وخاصة مساحته العامة المتمثلة في استنبات الفكر ودخوله في دياليكتيك مع ذاته.
فقد بدا على العالم العربي يشهد بداية تفكك النظم الحاكمة بفعل انتفاضات شعبية فيما يعرف ب((الربيع العربي)) بدأت في تونس وانتقلت بسرعة إلى مصر،وكان الهدف من هذه الانتفاضات الشعبية مطلبا واحدا هو سقوط الأنظمة الحاكمة سواءا كليا أو جزئيا وإدخال الإصلاحات السياسية والاقتصادية في هذه الدول.
وتعتبر التجربتين التونسية والمصرية على أنهما ثورتان ناجحتان في نظر البعض ،بينما يرى البعض الآخر، ((أن الثورة بطبيعتها لا تقبل التدخل الأجنبي حتى ولو بداعي التحالف مع الشيطان)) ، وما حدث بتونس ومصر هي محاولات ثورية قابلة للنجاح وإن كان تحتفظ كثيرا على بطئ التغيير والتحول في السياسات والمؤسسات والتغيير في القيم الحاكمة في المجتمع ،فقد شكلت ثورة تونس و التي عرفت* بثورة الكرامة أو ثورة الأحرار أو ثورة الياسمين*، وثورة مصر التي عرفت *بثورة الغضب أو ثورة الشباب أو ثورة اللوتس أو الثورة البيضاء أو ثورة التحرير أو ثورة الصبار* هما ثورتان شعبيتان كانت نتيجة تدهور الأوضاع الاجتماعية و تفاقمها وانعكاسها إقتصاديا وسياسيا على المجتمعين مما أدى إلى إسقاط أنظمتها الحاكمة،وقد أحدثت هذه الثورتان(تونس-مصر) تحولات متباينة على مستوى أدوار الفاعلين الإقليميين والدوليين في منطقة الشرق الأوسط،فنجد أن القوى الإقليمية تشهد حالة من التفاعل غير مسبوق سواء أكانت دولا أو فعالية غير الدول.ورغم أن مفهوم الإقليمية الجديدة ينحرف إلى صيغ تكثل والتعاون الإقليمي-المجال الاقتصادي-بين مجموعة متقاربة من الدول جغرافيا وسياسيا واقتصاديا من أجل مواجهة أي تدخل أجنبي،ولتحقيق التوازن الدولي،في إطارالتعددية القطبية في العالم(الأمريكي-الروسي-الأوربي-الصيني)،نجد أن إيران وتركيا دخلا خط التماس في المنطقة .
وكان من أبرز نتائج هذه الثورات العربية(تونس-مصر) عودة الجدل بشأن الحركات الإسلامية،سواء فيما يتعلق بدورها في إشعال الثورات أو مستقبلها السياسي الحركي،خاصة في ظل حالة الإقصاء والتهميش التي تعرضت لها هذه الحركات عقود عدة،وإن كانت الحركات الإسلامية أهم الأطراف المستفيدة من هذه الثورات،فإن ثمة استحقاقات وتحديات عديدة واجهتها هذه الحركات حتى وصلت إلى الحكم والقيادة .
في مقابل ذلك كانت استباقة المغرب في الإصلاحات الإقتصادية والاجتماعية والسياسية قبل هذا الثورات لكن هذا لايعني لم تكن لها انعكاسات على المغرب،فقد قرر الملك محمد السادس في طرح تعديلات دستورية اقترن باستفتاء شعبي سنة2011،وجرت بعدها انتخابات تشريعية مما تمكن فيها حزب العدالة والتمنية(الإسلام السياسي) من الفوز بأغلبية المقاعد،وهذا يدل على تأثير الثورات العربية(تونس-مصر)في المغرب خاصة في الحركات الإسلامية ذات التوجه الديني السياسي،وكان لدستور2011 للمغرب نموذجا يكرس مقومات وآليات الطابع البرلماني للنظام السياسي المغربي،في أسسه القائمة على مبادئ سيادة الأمة،وسمو الدستور،كمصدر لجميع السلطات،وربط المسؤولية بالمحاسبة،وذلك في إطار نسق دستوري فعال،جوهره فصل السلطات واستقلالها وتوازنها .
وما وصول الحركات الإسلامية إلى مراكز الحكم في كل تونس ومصر والمغرب(الحكومة) فإن هذا يفسر على قوة التأثير والتأثر في كل ما يجري بالمنطقة والعالم،فهو انعكاس جوهري بين العقل والدين،خاصة وأن التعددية القطبية ودخول تركيا وإيران خط التماس في المنطقة جعل الكل يريد إعادة ترسيم الخارطة الجغرافيا حسب إيديولوجيته .
ولعل التجارب(تونس-مصر-المغرب*الحكومة*) أخفقت فيها الحركات الإسلامية التي لم تحقق مطمح ومتطلبات الشعب،وهذا ما جعل الإنهيار يقع لنظامي الإخوان*محمد مرسي*والنهضة*راشد الغنوشي* ينهاران بقوة في مقابل ذلك فإن حكومة العدالة والتمنية بالمغرب بدأت إن لم تكن قد انهارت،وهذا كله يرجع إلى عدم القدرة الكاملة لهذه الحركات من استيعاب الفكر،بل أبعدته وخلصت فقط إلى إغلاق الفكر واختصاره فقط في الميكيافلية لكن بغطاء لاهوتي.
وهنا يمكننا أن نتساءل،إلى متى سيظل الغبن محتكرا صوت الفكر العربي؟هل الفكر العربي بشقيه عقلا ونقلا صانع ذاته أم تابع؟ متى يتخلص الفكر العربي من الجمود ويدخل به قفص الاتهام إزدراء الأديان؟ هل الدين هو جمود العقل أم تحريره وتحركه؟ ثم في الأخير ما هي أولويات الحكم في الفكر العربي،حكم العقل(الدولة المدنية) أم حكم الدين(الدولة الدينية)؟
كل هذه الأسئلة سيتم معالجتها في إطار تحليلي نقدي بين جدلية العقل والدين في اتجاه علمنة العالم العربي عبر فضائه العام في قسمه التحللي القادم.

الدكتورة فدوى أحمد التكموتي

باحثة أكاديمية في فلسفة التواصل السياسي

المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري