الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد الشافعي, الحلقة (16 / 29): دعوى القياس الجزء 2

انور سلطان

2016 / 7 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نقد الشافعي, الحلقة (16 / 29): دعوى القياس الجزء 2

الأدلة الأخرى على القياس

لقد قدم الشافعي ثلاثة أدلة على القياس سبقت مناقشتها في الفصل السابق. وقدم غيره أدلة أخرى, منها حديث معاذ في الإجتهاد, ومنها الآية: (فاعتبروا يا أولى الأبصار) وقالوا أن الإعتبار يعني القياس. ولا يهم كيف يدل قول معاذ (اجتهد رأيي ولا آلو) أو تدل الآية السابقة على القياس, ويكفي لإبطال هذين الدليلين, وغيرهما, أنه لا يمكن أن يوجد نص يأمر الصحابة بالقياس في عهد النبي, وإذا لم يكن هذا المعنى ممكنا في عهد النبي لأي نص فلا يمكن أن يكون بعد عهده.
وسوف نناقش أهم مثال استخدم لتمرير مفهوم القياس المغالط وهو الخمر, ثم سنعرض للأمثلة الأخرى التي استخدمت كأمثلة للقياس وعلى العمل بالقياس.

المثال النموذجي للقياس

يشكل مفهوم العلة حجر الأساس في القياس الفقهي وفي الإجتهاد التشريعي (الإجتهاد في معرفة حكم ما لا نص فيه). والقول بوجود سبب (علة) للحكم غير المصلحة التي جاء الحكم من أجلها عبارة عن مغالطة. ومسألة تحريم الخمر هي أهم مثال استخدم لتمرير هذه المغالطة.
وقبل نقاش هذ ه المغالطة, سوف نناقش أولا تحريم الخمر على أساس هذا التفريق بين العلة والمصلحة. ثم الأدلة على القياس والأمثلة الأخرى غير الخمر التي استشهدوا بها من القران والحديث.

تحريم كل مسكر قياسا على الخمر

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون). (المائدة: 90).
فالخمر، وهي نبيذ العنب، مشروب مسكر. والخمر نوع واحد من جنس المسكرات، فهناك أنواع مسكرة غير الخمر, منها نبيذ التمر والشعير ...الخ.

المسكرات تُذهب العقل. وهذا النوع من التأثير المعروف سمي بالإسكار, وهو صفة ظاهرة, أي محسوسة (في الواقع هي صفة جوهرية, أو ذاتية, حددت جنس المسكرات). وقالوا أن صفة الإسكار (إذهاب العقل) في الخمر سبب أو علة الحكم. وأي حكم لم يأت إلا لتحقيق مصلحة, سموها حكمة الحكم, والمصلحة إما أن تكون جلب منفعه أو دفع مضرة. والمصلحة في تحريم الخمر هي حفظ العقل (في الحقيقة هي دفع مضرة الإسكار التي يُحدثها شرب الخمر).

وقالوا أن أي مسكر آخر, مثل البيرة, حرام قياسا على الخمر, لإن الصفة التي كانت السبب في تحريم الخمر متحققة في البيره ولذلك فهي حرام كالخمر. وقالوا أن النص نزل في تحريم الخمر فقط ولكن بالقياس عرفنا أن المسكرات الأخرى حرام كالخمر.

وحسب منطق الشافعي: إن إنزال الله لحكم الخمر دل على حكمه في الخمر نصا، وعلى غير الخمر دل دلالة لمّا بنى الحكم على سبب معين وهو هنا صفة الإسكار. فصفة الإسكار، وهي سبب الحكم، جعلها الله دلالة لحكمه في غير الخمر من المسكرات.


الخمر اسم خاص أم عام

لما نزل القران بتحريم الخمر، هل كان يقصد حصر التحريم في الخمر، أم يقصد كل مسكر؟

لم يحرم القران الخمر لأنها خمر، أي كونها نبيذ عنب. بل حرمها لأنها مسكرة. أي أن التحريم تعلق بالإسكار (أو بتعبير أدق تعلق بدفع الإسكار), والإسكار صفة جوهرية مشتركة تحدد جنس المسكرات. وهذا استنتاج يقتضيه العقل وإلا سيكون التحريم من أجل التحريم وبلا هدف, وهذا عبث.

ولكن لماذا ذكر الخمر بالتعيين؟ هناك احتمالان, إما أن الخمر هي المسكر الوحيد وقتها. وتحريمها في هذه الحالة هو تحريم للجنس كله، لأنه إذا لم يوجد من جنس إلا نوع واحد قام النوع مقام الجنس. وهنا سيكون التحريم من باب النوع الدال على جنسه أو الخاص المراد به العموم.

وإما أن اسم الخمر أصبح اسما مشتركا بين النوع والجنس، أي أصبح اسما للنوع وهو نبيذ العنب، واسما للجنس كله أيضا. وهذا يحدث في الواقع، حيث يغلب، أو يشتهر، اسم نوع من جنس ما، وبالتالي يُستخدم كاسم للنوع وللجنس في نفس الوقت.
وهنا سيكون التحريم من باب العام الدال على العموم، أي وكأن الآية قالت: (إنما المسكرات ... رجس من عمل الشيطان فاجتنبوها). فيشمل كل أنواعها بما فيها الخمر كأسم خاص دال على نبيذ العنب.

لكن لا يمكن حمل هذا النص على العموم إلا إذا ثبت أن كلمة (خمر) استعملتها العرب كاسم جنس بالإضافة إلى استعمالها كاسم للنوع. وفي كلا الحالتين النتيجة واحدة، فإن لم يكن الحكم عاما بلفظه فقد قُصد به العموم. ولا يُعقل أن يكون القصد تحريم إسكار نبيذ العنب فقط.

ولو صح القول أن في الخمر وأمثالها قياس لوجود سبب غير المصلحة المباشرة, فهذا القول لا يصح في أحكام المعاملات, لأن السبب في الخمر صفة جوهرية تجعل الحكم الذي تعلق بهذه الصفة حكما عاما للجنس لا حكما خاصا بالنوع الذي ورد فيه النص. وهذا السبب الذي هو صفة جوهرية في الخمر غير متوفر في أحكام المعاملات ولا فروع العبادات.

ولذلك فإن ما سمي بالقياس في الفقه أساسه الحكم على أفراد الجنس بالحكم الذي جاء في نوع منه، أي أساسه تعميم حكم النوع على الجنس, كما هو في الخمر, ثم تم توسيع المفهوم ليشمل مسائل المعاملات وحتى فروع العبادات.


المغالطة في إثبات القياس

والمغالطة الثانية, بعد مغالطة التفريق بين السبب والمصحلة, تتمثل في القول أن المسكرات غير الخمر حكمها مجهول. ولأن فيها صفة الإسكار، عرفنا أنها محرمة قياسا على تحريم الخمر، الذي كان سبب تحريمها صفة الإسكار. فالإسكار صفة مشتركة، فلما تعلق بها الحكم في مسألة معينة، دلنا ذلك التعلق على حكم المسائل الأخرى الموجودة فيها تلك الصفة. والصفة (السبب) أصبحت دلالة على الحكم.

وبالتالي فتحريم الخمر التي أُلحق بها غيرها قياسا عليها، دليل على أن القياس طريق لمعرفة حكم الله فيما لا نص فيه. وهنا مكان المغالطة. لأنه لا يوجد استدلال أساسا عن طريق القياس أو غيره، بل تعميم حكم واحد على أفراد جنس واحد، بطريقة التفافية سميت قياسا، والحكم في الأساس عام وليس خاصا بنبيذ العنب. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لو قلنا أن هناك استدلال، بغض النظر سميناه قياسا أم لا، فالاستدلال هنا أساسه التسوية بين أفراد جنس واحد، تعلق الحكم بالصفة الذاتية الجوهرية المشتركة الجامعة بينها. وإذا صحت التسوية بين أنواع الجنس الواحد في الحكم، فلا يمكن أن تصح بين أنواع من أجناس مختلفة، أو بين أجناس وأجناس. فحكم جنس لا يمكن سحبه على جنس آخر، وحكم نوع من جنس لا يمكن سحبه على أنواع من أجناس أخرى.


المصلحة الذاتية والمصلحة الزمنية الظرفية

المصلحة كسبب للحكم على نوعين, مصلحة ذاتية وهي في الأشياء المباحة أو المحرمة, فالمصلحة هنا مرتبطة بذات الشئ المباح أو المحرم, فالنفع في ذاته والضر في ذاته لا يتعلق بعصر من العصور ولا مكان من الأمكنة. فما غلب ضرره محرم أن يتعاطاه الإنسان, ومحرم أن يتعامل به الناس بيعا وشراء كالخمر ولحم الميتة والدم المسفوح. والنوع الثاني مصلحة زمنية (ظرفية) وهي في المعاملات, في غير تبادل الإشياء المعروفة الضرر أو النفع, لأن المصلحة هنا مرتبطة بالظروف والأحوال القائمة، مثل نهي النبي عن تلقي الركبان.

حكم الخمر جاء تطبيقا لمبدأ عام، هو تحليل كل نافع وتحريم كل ضار من الأشياء. وبالتالي فحكمها ثابت لا علاقة له بالظروف القائمة. والأمر يختلف في المعاملات جذريا، إذ لا تنفصل عن ظروفها، والقاعدة فيها العدل والمصلحة، وهذه تتحدد وفق الظروف والملابسات القائمة، وبالتالي فأحكامها ليست ثابتة بطبيعتها لأن المصلحة فيها زمنية لا ذاتية.


وكما أسست مقولة القياس على مغالطة اعتبار تعميم حكم النوع على الجنس استدلالا أو قياسا، كذلك هناك مغالطة ثالثة تعتمد على الخلط بين أحكام الأشياء الثابتة، ومسائل المعاملات والجنايات المتغيرة دوما والتي تتطلب تغير الأحكام، ولا يمكن تعميم حكم في مسألة منها على بقية المسائل، فكل مسألة تعتبر جنسا بنفسها مختلفة عن غيرها. وكان نتيجة هذا الخلط فصل الشريعة العامة عن الواقع، فاعتبروا المعاملات كالخمر حكمها نابع من ذاتها لا علاقة له بالظروف والأحوال القائمة. ومثال المعاملة التي قاسوها على الخمر الأصناف التي حُرم الربا فيها, حيث اعتبروا تحريم الربا فيها سببه علة يجب اكتشافها, بينما تحريم الربا في بعض الأصناف ليس نابعا من علة ذاتية فيها كالخمر (إذا سلمنا أن تحريم الخمر جاء لعلة غير المصلحة) بل لأن الربا فيها, وهو معاملة في سلع أساسية, قد ينتج عنه غبن وظلم. ولأنه لا توجد علة ذاتية في الأصناف التي حُرم الربا فيها, هي سبب التحريم, فقد قالوا بعلل لا علاقة حقيقية لها بالمصلحة من تشريع الحكم. أو بحسب تعبيرهم, لا مناسبة بين هذه العلل والمصلحة من الحكم.

إن قياس مسائل الحياة المتجددة على مسائل جاءت أحكامها تطبيقا للعدل والمصلحة، وفق الظروف القائمة حينها، ومنع الرجوع لمبدأ العدل والمصلحة مباشرة، كما تقتضيها الظروف في كل مسألة، هو إسقاط للعدل وتعطيل للمصالح. ولن ينتج عن ربط الدنيا بكل متغيراتها بمسائل محدودة إلا تحجيرا للحياة وحبسها في قالب زمني معين وإفساد للحياة أيما إفساد.

والحقيقة أن كل ما عُرف نفعه للإنسان فهو مباح، وكل ما ثبت مضرته للإنسان فهو حرام, وبتعبير أصح؛ كل شئ مباح إلا ما ثبت ضرره. فمعرفتنا بذات أو صفات الأشياء تحدد حكم تعاطينا معها. هذه قاعدة عامة في علاقة الإنسان بنفسه. ولا تحتاج مفتين، وإن كان من مفت فيها فهو العلم. أما في المعاملات بين الناس, في غير تبادل الأشياء الضارة, فالقاعدة هي العدل والمصلحة. وهذه لا تتحدد تلقائيا بل تتحدد وفق الظروف القائمة، لأن المعاملات ليست ذوات ثابتة نتعاطى معها، بل تصرفات مبنية على الحاجات والمصالح. ويختلف تصرف عن تصرف، وحاجة عن حاجة، ومصلحة عن مصلحة. وهذه ترجع للسلطة التي تمثل الناس، تشريعا وقضاء، بما يحقق المصلحة والعدل وفق الظروف القائمة. ولا تحتاج مفتين متعددين يضعون شرائع دينية -بزعمهم- مختلفة ومتعددة، لا علاقة لها بالواقع، تفسد دين الناس ودنياهم وتسمم حياتهم.


القياس والشريعة الكاملة

مفهوم القياس لدى الشافعي يقوم على فرضية خاطئة وهي أنه لا يمكن أن تظهر مسألة جديدة إلا ولها حكم جاء به نص من النصوص في مسألة سابقة. أي لا يمكن أن تظهر مسألة جديدة تتطلب حكما جديدا لم يأت به نص سابق. وبتعبير آخر: لقد استغرقت النصوص جميع العلل (نترك الشبه لمكان آخر, وهو أمر ثانوي نادر في القياس) فلا يمكن أن تظهر علة جديدة تتطلب حكما جديدا. ولذلك ما على المجتهدين سوى الاجتهاد لاكتشاف علل الأحكام التي جاءت بها النصوص, وما أن تظهر مسألة جديدة تُعطي حكم المسألة القديمة المنصوص عليها الموافقة لها في العلة.

وعليه, فشمول الشريعة يعني بالضرورة أنه لن تظهر مسائل جديد تتطلب أحكاما جديدة. وطالما أنه لا مشرع إلا الله فلا ينبغي إحداث حكم جديد, وعندما تصل هذه الفكرة للمسلم يقتنع أن المشرع هو الله وحده. ولكن تم استحداث وإنشاء أحكام جديدة وألبست ثوب القياس وأهم هذه الأحكام مسألة الخلافة. وإصرار الشافعي على القياس وعدم الإعتراف بغيره كمصدر للدين, ثم التوسع في مفهوم القياس عند التطبيق عبر التوسع في مفهوم العلة المغلوط, الهدف منه تصوير أن الاجتهاد, الذي حصره في القياس, مجرد الحكم بحكم الله الذي جاء به نص سابق على المسألة الجديدة لا أقل ولا أكثر. وربما أراد الشافعي أن يقنع نفسه هو قبل غيره بهذه الفكرة ليرضي ضميره. فليس أمامه إلا أحد خيارين إما أن الشريعة ناقصة وعندها سوف يشرع الناس لأنفسهم بينما التشريع لله وحده, وإما أن الأحكام متناهية ولا يمكن أن توجد مسألة جديدة تحتاج حكما جديدا. وقد اختار الخيار الأخير. والقول بمصادر أخرى غير القياس يعني أن الشريعة ناقصة ويعني أن البشر مصدر للتشريع, وهذا ما جعل الشافعي يرفض القول بمصادر غير القياس رفضا مطلقا.


هامش:ــــــــــــــــــــــ
من تعريف القياس والمثال النموذجي له (الخمر) استخلصوا أركان القياس الفقهي, وهي: (1) الأصل وهو المسألة التي جاء فيها النص بحكم معين. (2) الفرع وهو المسألة التي لم يأت فيها نص ووجد فيها نفس سبب حكم الأصل. (3) حكم الأصل (4) العلة أو سبب الحكم.
وإذا عدنا لمثال الخمر, فالخمر أصل, والبيرة فرع, والعلة الجامعة هي الإسكار, والحكم هو التحريم.
واشترطوا شروطا للركنين الأخيرين.
فشروط حكم الأصل هي: (1) أن يكون حكما عمليا ثبت بالنص. (2) أن تكون المصلحة من تشريعه مفهومه, أي يمكن إدراكها بالعقل. (3) أن يكون الحكم غير مختص بالأصل. ويكون حكم الأصل مختصا بالأصل في حالتين: (أ) إذا كانت علة الحكم لا يُتصور وجودها في غيره مثل قصر الصلاة للمسافر. (ب) إذا دل دليل على اختصاصها بالأصل. (علم أصول الفقه, عبدالوهاب خلاف, دار القلم, ط 8, ص: 61).
وشروط العلة التي تجعلها صالحة لأن يُبنى عليها الحكم هي: (1) أن تكون وصفا ظاهرا محسوسا. (2) أن تكون وصفا منضبطا, أي محددا, بحيث يمكن التحقق منه في الفرع. (3) أن تكون وصفا مناسبا للمصلحة التي شرع الحكم لتحقيقها, أي أن وجودها يُظن أنه يحقق المصلحة التي شرع الحكم من أجلها. (3) أن تكون غير قاصرة على الأصل, أي يمكن أن توجد في غيره. (خلاف, ص: 68).
والعلة (سبب الحكم) هي: (وصف في الأصل بُني عليه حكمه ويُعرف به وجود هذا الحكم في الفرع). (خلاف, ص: 63).
هذا يعني أن الأحكام العملية بنيت على الأوصاف الظاهرة المنضبطة (الأسباب) التي تعلقت بكل منها مصلحة معينة ولم تُبن على المصالح مباشرة. فإذا وجد السبب وجد الحكم وإن انتفت المصلحة, وإذا انتفى السبب انتفى الحكم وإن وجدت المصلحة. وهذا هو معنى قولهم إن الأحكام تدور وجودا وعدما مع عللها (أسبابها) لا مع حكمها (المصالح) التي جاءت من أجلها. وهذه مغالطة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53


.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن




.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص