الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد الشافعي, الحلقة (18 / 29): دعوى القياس الجزء 4

انور سلطان

2016 / 7 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نقد الشافعي, الحلقة (18 / 29): دعوى القياس الجزء 4

المغالطة في مقولة العلة (السبب والمصحلة):

كان الحديث السابق عن حكم الخمر على أساس أن هناك سبب (علة) للحكم غير المصلحة, وذكرنا حينها أنه لو صح هذا التفريق في حكم الخمر وما شابهها لا يمكن أن يصح في غيرها, لان ما عدوه سببا في تحريم الخمر ليس إلا صفة ذاتية تجعل تعميم الحكم على غيرها من المسكرات من باب النوع الدال على جنسه, أو الخاص الذي أريد به العام. ولذلك لو صح مفهوم القياس الذي يقوم على القول بوجود سبب للحكم غير المصلحة فلن يكون إلا في مسائل معدودة, وهي أحكام تعاطي الذوات كالخمر وغيرها. وهو في حقيقته تعميم للحكم.

القول بوجود سبب للحكم غير المصلحة, وأن هذا السبب مناط المصلحة, مغالطة. وقد اعتمدوا على الخمر لتمرير هذه المغالطة. وقالوا أن الخمر فيها صفة الإسكار وقد بُني الحكم على وجود هذه الصفة, والمصلحة من الحكم هي حفظ العقل. فالحكم لم يُبن على مصلحة الحفاظ على العقل بل على صفة الإسكار. فعدم تناول الخمر لأنها مسكرة يؤدي إلى تحقيق المصلحة وهي حفظ العقل. وسموا هذا الإرتباط بين العلة والمصلحة, أي ترتُّب المصلحة على وجود العلة, مناسبة العلة للمصلحة.

وعند فحص المناسبة بين العلة والمصلحة في الأحكام التي اخترعوا لها عللا لا نجد هذه المناسبة إلا في الخمر وما يشبهها, والمناسبة هنا تقوم على مغالطة. فالمصلحة إما جلب منفعه أو دفع مضرة, ولم تحرم الخمر لجلب منفعة حفظ العقل, فالأصل أن العقل موجود, بل حرمت لدفع مضرة الإسكار, أو تغييب العقل, الذي تحدثه الخمر. فالإسكار (الذي عدوه سببا) الذي تحدثه الخمر هو المضرة عينها, والمصلحة من التحريم هي دفع هذه المضرة. أي أن تحريم الخمر بُني على المصلحة مباشرة, وهذه المصلحة هي سبب الحكم, ولا وجود لثنائية العلة والمصحة.

ولإن الإسكار صفة في الخمر, وهذه الصفة عبارة عن أثر الخمر على عقل من يتعاطاها وهو السكر, وهي المضرة عينها, وحتى يمرروا مفهوم العلة, اعتبروا صفة الإسكار، أي إحداث السكر للعقل, مجرد صفة في الخمر, ولم ينظروا لها كمضرة, واعتبروا المصلحة من الحكم شئ آخر وتلاعبوا بالألفاظ في اختراع مصلحة للحكم وقالوا أنها حفظ العقل.

إن تحريم الخمر مثل تحريم أكل لحم الميتة, والمصلحة من تحريم لحم الميتة دفع مضرة لحم الميتة, لأن لحم الميتة غالبا ما يكون مضرا, والقول أن تحريم لحم الميتة سببه الموت مثلا, والمصلحة منه هي الحفاظ على الصحة تلاعب بالألفاظ.

والسؤال: لماذا لم يُبن الحكم على المصلحة مباشرة؟
هذا السؤال لا معنى لطرحة لولا مقولة العلة, لأن الأحكام بنيت على المصالح أساسا, ولكن عندما تم اختراع مقولة العلة والقول أن الأحكام بنيت على العلل لا على المصالح, فرض هذا السؤال نفسه. وكان لا بد من الإجابة عليه للإنتصار لمقولة العلة. ووضعوا للعلة أربعة شروط, وهي: أن تكون غير مقتصرة على المسألة التي نزل فيها النص (الأصل), وأن تكون مناسبة للحكم, وأن تكون صفة ظاهرة, أي محسوسة غير خفية, وأن تكون منضبطة غير تقديرية. وقالوا أن الصفتين الأخيرتين لا توجد في بعض المصالح, فهناك بعض المصالح الخفية غير الظاهرة وهناك بعض المصالح التقديرية غير المنضبطة.

وما عدوها مصلحة خفية أو تقديرية هي في الحقيقة مصلحة محتملة, ولا يوجد أي مانع من بناء الحكم على المصلحة ولو كانت محتملة, فليس شرطا أن تكون المصلحة قطعية حتى يُبنى الحكم عليها, ولو كان الشرط في المصلحة أن تكون قطعية في المسائل التي ذكروها لما كانت هناك فائدة من ربط المصلحة بعلة ظاهرة منضبطة, فظهور العلة وانضباطها لن يجعل المصلحة الظنية مصلحة قطعية, وإلا كان التشريع من أجل وجود العلة, وحتى يخرجوا من هذا الإعتراض قالوا ان المصلحة غالبا لا تتخلف عن علتها. وبهذا القول عادوا لنقطة الصفر, فطالما أن المصلحة لا تتخلف عن العلة في الأعم الأغلب فلماذا تُربط المصلحة ولو كانت خفية أو تقديرية بالعلة طالما أنها متحققة في الأعم الأغلب من تشريع الحكم؟

القول بوجود سبب للحكم, واعتباره أمرا غير المصلحة, الهدف منه الإنتصار لمقولة أن الله وضع علامات على أحكامه ليُعرّف المجتهدين بها. وهذه الفكرة وضع بذرتها الشافعي عندما قال بوجود علة للحكم وأهدر المصلحة الظاهرة كعلة للحكم. والذين جاؤا بعد الشافعي اعتمدوا على هذه المغالطة وتشعبوا فيها عندما تناولوا مفهوم القياس وأركانه والعلة وشروطها وشروط الحكم الذي يُعدى إلى مسائل أخرى. ولو اعترفوا أن الأحكام بُنيت على المصالح لسقط القياس, وحتى يسدوا الثغرة التي يحدثها السؤال السابق في مقولة القياس لا بد أن يستبعدوا المصلحة تماما من أن تكون سببا للحكم, فقالوا إن بعض المصالح خفية غير ظاهرة أو تقديرية غير منضبطة بخلاف العلة التي اخترعوها اختراعا واشترطوا فيها هذه الشروط التي لا توجد في بعض المصالح.


المصلحة الخفية
مثال المصلحة الخفية: "إباحة المعاوضات التي حكمتها دفع الحرج عن الناس بسد حاجاتهم, والحاجة أمر خفي, ولا يمكن معرفة أن المعاوضة لحاجة أو غير حاجة." (علم أصول الفقه, عبدالوهاب خلاف, ص: 64).
ولذلك بُني الحكم على العلة وهي العقد المتمثل في الإيجاب والقبول حسب قولهم.

والسؤال هل وجود العقد (وهو العلة هنا) في ذاته يدل على وجود حاجة؟ أو بتعبير آخر, هل وجود العقد يجعل الحاجة الخفية حاجة ظاهرة محسوسة غير خفية يمكن التأكد من وجودها؟

والجواب: لا. بل قد تتخلف المصلحة في بعض الجزئيات. يقول خلاف: "وتخلف الحكمة في بعض الجزئيات لا أثر له بازاء استقامة التكاليف واطراد الحكام". (خلاف, ص: 66). بمعنى أن المصالح التي شرعت من أجلها الأحكام تتحقق في الأعم الأغلب ولا تتخلف إلا نادرا, وهذه الندرة لا أثر لها.

وهذه عودة لنقطة البداية, فطالما أن المصلحة متحققة من الحكم فلا فائدة من ربطها بالعلة, وبالتالي لا فائدة من بناء الحكم على العلة دون المصلحة التي جاء الحكم من أجلها أساسا.

لقد بُنيت الأحكام على مصالح قطعية أو غالبة, أي أن تطبيق الحكم يحقق المصلحة قطعا أو غالبا. والحالة الأخيرة تعني أن المصلحة قد لا تتحقق في بعض حالات التطبيق وهذا لا يقدح في بناء الحكم عليها.

والقول أن هناك مصالح خفية والحكم لا يُبنى على أمر خفي قول مغالط. كون المصلحة في ذاتها خفية (إذا كانت هناك مصلحة خفية فعلا) أي غير محسوسة ماديا شئ, وكونها موجودة فعلا وغالبة شئ آخر تماما. والحكم في هذا النوع من المصالح بني على كونها موجودة فعلا وغالبة ولا علاقة له بكونها خفية غير محسوسة.

الغالب في المعاوضات أنها تحقق مصلحة وهي سد الحاجة (أو جلب منفعه), وكون الحاجة في ذاتها غير ظاهرة أي غير محسوسه وغير مجسده ماديا, لا يعني أنها غير موجوده, فطالما أن سد الحاجة هو الغالب من المعاوضات, فلا يقدح خفاء الحاجة في ذاتها, أي عدم ظهورها الحسي, في بناء الحكم عليها.

في الواقع أن المعاوضات المصلحة منها جلب منفعه مادية, وهي أمر ظاهر, والقول أن المصلحة هي سد الحاجة قول مغرض الهدف منه القول أن الحاجة غير ظاهره, وحتى هذا الهروب لم يجد نفعا, كما تبين.

المصلحة التقديرية
ومثالها "قصر الصلاة الرباعية للمسافر حكمته التخفيف ودفع المشقة, وهذه الحكمة أمر تقديري غير منضبط لا يمكن بناء الحكم عليه وجودا وعدما." (خلاف, ص: 65). وبالتالي بُني الحكم على العلة وهي السفر وهو أمر ظاهر منضبط غير تقديري.

والسؤال: هل السفر (وهو السبب) يجعل المصلحة التقديرية منضبطة غير تقديرية؟
إذا لم يكن الأمر كذلك, وسوف تبقى المصلحة تقديرية, وقد تتخلف (كثير من الأسفار اليوم لا توجد فيها مشقة) فلا فائدة من ربط الحكم بالعلة.

والقول أن هناك مصالح تقديرية غير منضبطة والحكم لا يبنى على أمر غير منضبط هو قول مغالط أيضا. لأن كون المصلحة تقديرية في ذاتها شئ, وكونها موجودة غالبا شئ آخر تماما. والحكم في هذا النوع من المصالح بُني على كونها موجودة غالبا وإن كانت تقديرية.

والشأن في السفر أنه ملازم للمشقة, والمشقة فيه غالبة إن لم تكن أكيده, خصوصا في الماضي, وكون المشقة تقديرية غير منضبطة, لا يقدح في بناء الحكم على مصلحة دفع المشقة أو التخفيف منها.

المناسبة بين السبب والمصلحة
عند الإنتقال من الخمر إلى أمثلة أخرى يظهر التكلف الكبير عند الحديث عن علل الأحكام من جهة, ويظهر عدم وجود إرتباط بين العلة والمصلحة من جهة ثانية. مثل القول إن صفة النقدية هي السبب في تحريم الربا في الذهب والفضة. فهل يرتبط بصفة النقدية ذاتها, مثل صفة الإسكار في الخمر, منفعة أو مضرة ولا تظهر إلا عند الربا؟ هل يمكن القول إن تحريم الربا المصلحة منه دفع مضرة النقدية أو المضرة الناشئة عن النقدية؟ ومثله القول بان تحريم الربا في البر والشعير والملح هو الكيل أو القوت أو الطعم, فهل كان تحريم التفاضل هنا لدفع المضرة الناشئة عن الكيل أو القوت أو الطعم؟ ومثل القول أن صيغة الإيجاب والقبول الدالة على الرضا هي صفة (سبب) لإباحة البيع والشراء لتحقيق مصلحة سد الحاجة, فهل المصلحة من البيع والشراء ترتبط بالإيجاب والقبول ذاته مثلما ترتبط مصلحة حفظ العقل بصفة الإسكار؟ (الحقيقة أن المباحات لا تحتاح إلى سبب لإباحتها, لأن الأصل في الأشياء الإباحة, وإذا ورد نص بإباحة أمر نافع فليس إلا تأكيدا للقاعدة).

كل العل التي قالوا بها في غير الخمر وما شابهها لا يوجد بينها وبين المصلحة من الحكم أية مناسبة, أي لا تترتب المصالح على تلك العلل التي قالوا بها. فضلا على أن المناسبة بين المصلحة والعلة في الخمر عبارة عن مغالطة لإن العلة هنا هي عين المصلحة, فدفع السُّكر الذي تحدثه الخمر (الذي سموه علة) هو المصلحة ولكنهم سموها باسم آخر هو مصلحة حفظ العقل, وهذا تلاعب بالألفاظ. كما ان الإسكار صفة ذاتية في الخمر, بينما الصفات التي قالوا إنها علل ليست صفات ذاتية في تلك الأشياء, فالنقدية ليست صفة ذاتية في الذهب والفضية مثلها مثل النقود الاخرى ومنها النقوذ الورقية والمعدنية اليوم, فالنقدية صفة جاءت من استعمالها كنقود, أي من استعمالها كوسيلة للتقييم والتبادل, وليست خاصية ذاتية في الذهب والفضة ولا في غيرهما. ومن أغرب العلل المخترعة القول إن الإيجاب والقبول في البيع والشراء علة وسبب بينما هو شرط لصحة المعاملة.

كان لا بد من اختراع علل للأحكام حتى يحافظوا على مقولة العلة كعلامة وضعها الله لأحكامه.

ما هي العلة في تحريم تناول الدم المسفوح؟
لا نحتاج إلى البحث عن علة لتحريم الدم, فالمصلحة من التحريم واضحة وهي دفع المضرة من تناول الدم. فضرر الدم على صحة البدن هو سبب التحريم. والبحث عن علة هو تعقيد للأمور لا نفع منه إطلاقا إلا الإنتصار لمقولة العلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س