الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد الشافعي, الحلقة (24 / 29): الحديث ومدى حجيته الجزء 1

انور سلطان

2016 / 7 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نقد الشافعي, الحلقة (24 / 29): الحديث ومدى حجيته الجزء 1

الحديث عقل أم وحي

يختلف أصل الحديث باختلاف موضوعه. ما تعلق بالعبادات مصدره الوحي بكل تأكيد، لأن شكل العبادة ووقتها ونوعها، وأنواع القربات والكفارات، لا تحكمها قواعد عقلية، بل إرادة إلهية. والعقل يقطع أن العبادة أساسها الوحي، إذ لا يمكن للنبي أن يخترع الصلاة وشكلها وأوقاتها من عند نفسه، وجاء الحديث الذي أخبر عن تعليم جبريل للنبي كيفية الصلاة المفروضة مؤكدا للعقل. وهذا ما ينطبق على بقية الصلوات والعبادات الأخرى. فالعبادات جميعا أصلها الوحي بنوعيه: المنصوص،أي القران، أو غير المنصوص بنزول جبريل يُعلِّم النبي أو يُعْلِمه بالمطلوب.
والإيمان بالوحدانية والعبادة وما تعلق بهما، هما أمر الدين لأنهما يحكمان علاقة الإنسان بربه. أما ما سواهما فهو من أمر الدنيا. وهذا الأمر على ثلاثة أنواع. الأول علاقة الإنسان بنفسه، والثاني علاقته بغيره على المستوى الإنساني، والثالث علاقته بغيره على مستوى الحقوق. والدين في هذه المساحة أرجع الإنسان إلى مبادئ عقلية عامة تحكم كل نوع من السلوك. فأمر الإنسان في علاقته بنفسه بعمل النافع وألا يخرج فعله إلى الضر، وأمره في علاقته بغيره على المستوى الإنساني بحسن الخلق وألا يخرج فعله إلى الإساءة. وأمره في علاقته بغيره على المستوى الحقوق بالعدل وألا يخرج فعله إلى الظلم، ومنه الإضرار بالناس. وللاختصار سنسمي هذه المساحة التي تشمل الأنواع الثلاثة من السلوك بالمعاملة.

ما سوى العبادة من معاملات أساسها العقل، لأن القران أرجع الإنسان في المعاملة إلى عقله عندما أمره بالتمسك بتلك المبادئ التي يقرها العقل نفسه. وقد ينزل فيها وحي، ونزول الوحي في مسائل منها لا يلغي الأساس العقلي لها، بل يؤكده لأنه يحقق أحد تلك المبادئ الثلاثة حسب نوع السلوك الذي يتناوله.

وقد جاءت أحكام القران في الحقوق انعكاسا للظروف القائمة تطبيقا لمبدأ العدل، وبالتالي لا يمكن أن تكون تلك الأحكام الجزئية في نفسها مبادئ ثابتة. وجعل الفرعيات مبادئ لا تتغير إسقاط لمبدأ العدل الكلي الذي جاءت تلك الأحكام الجزئية إعمالا له. ولأن الأحكام الفرعية في الحقوق إعمال للمبادئ في ظروف معينة، فهي تدور وجودا وعدما مع ظروفها، فإن لم تُغير بتغير الظروف أصبحت شرا لا عدلا ولا مصلحة ولا برا ولا تقوى.

في هذه المساحة يصدر النبي من عقله وحكمته تحقيقا للعدل والمصلحة وفق الأحوال والظروف القائمة. والقول أنه يصدر من الوحي إدعاء بلا دليل، لا من العقل ولا النقل، بل يخالف العقل والنقل.
والخلط بين العبادة والمعاملة أدى إلى اضطراب موقف القوم من الحديث المنشئ للأحكام في المساحتين. أو ربما تعمدوا الخلط لمصادرة العقل ومكانته، ثم بحثوا عن مخرج. خلطوا العبادة مع المعاملة، واعتبروهما جميعا موضوع الدين، ولا بد من نزول أحكام مفصلة فيهما. ولأن العبادة عقلا ونقلا لا مشرع فيها إلا الله، ولا يمكن أن تكون اختراعا، عمموا مقولة لا مشرع إلا الله على المعاملات التي جعلوها موضوع أساسي للدين كالعبادات، وتساءلوا بعدها: كيف يكون النبي مصدر الأحكام، ولا مشرع إلا الله؟ هل يستدل على أحكام الله كغيره؟ والجواب بنعم يتناقض مع جوهر المقولة، كما أنه يسقط الحديث ليكون أساسا للقياس عليه كالقران. ولذلك نفى الشافعي أن يكون النبي يصدر عن قياس أو استدلال، فقال: (ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلابالاستدلال، بما وصفت في هذا -أي القبلة- وفي العدل وفي جزاء الصيد، ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سابق). (الرسالة: 25).

فالرسول لا يقول بالاستدلال، وغيره يجب أن يقول بالاستدلال الذي هو إرجاع أي مسألة جديدة إلى ما نزل في القران أو ما جاء به الحديث على أساس وجود علة جامعة أو شبه غالب.
هذا يعني أن الحديث في العبادات والمعاملات أصل في ذاته. لكن ما هو أساسه؟ هل هو العقل؟ وكيف يشرع النبي ولا مشرع إلا الله؟
قال الشافعي معلقا على قوله تعالى: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ...). (النور: 48 – 50).

قال: (فأعلم الله الناس في هذه الآية أن دعاءهم إلى رسول الله ليحكم بينهم دعاء إلى حكم الله، لأن الحاكم بينهم رسول الله، وإذا سلموا لحكم رسول الله فإنما سلموا لحكمه بفرض الله وأنه أعلمهم أن حكمه حكمه، على معنى افتراضه حكمه، وما سبق في علمه جل ثناؤه من إسعاده بعصمته وتوفيقه، وما شهد له من هدايته وإتباعه أمره). (الرسالة: 84).

علل الشافعي إيجاب طاعة الرسول وجعلها من طاعة الله بأن الله وفق رسوله وعصمه من الخطأ. وهذا منقوض بتعقيب القران وعتبه على الرسول، وأيضا بدليل أن الرسول أوكل القضاء إلى بعض أصحابه في حضوره ولم يكونوا معصومين، ومعنى ذلك أن ما يقضون به كان سيلزم الجميع ومنهم النبي، وإلا فإسناد القضاء إليهم عبث. وطاعة هؤلاء في قضاءهم واجبة، لأنها طاعة للرسول الذي أسند القضاء إليهم. وبالتالي، فليست العلة في إيجاب طاعة رسول الله عصمته من الخطأ، بل العلة وحدة الكلمة وعدم التنازع بين الصحابة حتى يستطيع الرسول إبلاغ رسالة ربه والتمكين لها. وشدد القران في إيجاب طاعة الرسول بأن جعلها طاعة لله لخطورة الأمر، فنجاح الرسول معلق على وحدة كلمة الصحابة، وهذه معلقة على طاعة الرسول.
ثم عاد الشافعي وذكر أربعة أقوال، منها التوفيق والعصمة السابق ذكرها، فيما لم ينزل فيه كتاب، لم يرجح أيا منها، وهي:

القول الأول: تركه الله للنبي لأنه وفقه لإصابة الحق.
الثاني: لم يسن سنة إلا ولها أصل في الكتاب.
الثالث: جاءت به رسالة. (أي وحي غير منصوص).
الرابع: ما سنه أُلقي في روعه.

بالإضافة إلى ما سبق من رد، فإن القول الأول حق أريد به باطل (نوع من المغالطة)، نعم النبي موفق بما أعطاه الله من عقل وحكمه، وبحراسة الله له وتسديده إياه بالوحي إن اخطأ. لكن ليس التوفيق إلى درجة علم العبادات. أما القول الثاني فمتهافت. والثالث والرابع دعاوى لا دليل عليها،
والحديث: (إن الروح الأمين قد ألقي في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فأجملوا في الطلب) حدد ما القي في روع الرسول وهو: لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها.
كما أن هذه الدعاوى الأربع جميعا ينقضها تعقيب القران على الرسول في مناسبات عدة.

كما ينقضها توقف الرسول في بعض المسائل. لكن من عجائب الشافعي أنه حاول الالتفاف على هذا الدليل فقال: (وفي انتظار رسول الله الوحي في المتلاعنين، حتى جاءه فلاعن، ثم سن الفرقة، وسن نفي الولد، ولم يردد الصداق وقد طلبه: دلالة على أن سنته لا تعدو واحدا من الوجوه التي ذهب إليها أهل العلم: بأنها تبين عن كتاب الله: إما برسالة من الله، أو إلهام له، أو بأمر جعله الله إليه، لموضعه الذي وضعه من دينه). (الرسالة،هامش: 154 , نقلا عن الأم).
ما سنه الرسول مع حكم اللعان دليل، عند الشافعي، على أن سنته إما رسالة، أو الهام، أو أمر ما، يتمكن به من معرفة حكم الله، وإلا كيف سن هذه والوحي جاء باللعان فقط؟ وهنا الالتفاف، ركز على ما سن النبي مع حكم اللعان، لا التوقف في حكم اللعان. وما سن النبي مع اللعان أساسه ما رآه من عدل ومصلحة.

إن توقف الرسول في عدة مسائل، ومنها اللعان، يؤكد أن الأصل أن النبي يصدر من عقله وحكمته، ولو كان هناك رسالة (نزول جبريل يعلم النبي)، أو الهام، أو أمر ما جعله الله إليه، يعرف به حكم الله المفترض، لما توقف النبي إطلاقا.
ونفي الشافعي عدم استدلال النبي على أحكام الله صحيح، لأنه ليس لله أحكام غائبة تحتاج استدلالا. لا يصدر النبي عن قياس واستدلال بما سبق من أحكام في القران، ولا غير القران، بل تحكمه المباديء الكلية. ويشرع ويقضي بما يراه صوابا في المسألة التي أمامه التي لا تنفصل بحال من الأحوال عن ظروفها ومكانها وزمانها.

القول بالاستدلال على ما استجد وفق ماسبق، هو إلغاء للعقل الذي خاطبه القران، والذي صدر منه النبي، باعتبار أن خطاب القران كان موجها للنبي كإنسان مثل بقية الناس. إن ذلك القول يقوم على أساس تحويل الفروع إلى مبادئ لا تتغير، وعدم اعتراف بالمبادئ الكلية نفسها وأنها هي الحاكمة أولا وأخيرا. وهذا في حقيقته إسقاط لدعوة الإسلام، وكل الأديان السماوية. لقد انتصروا للمسألة الجزئية المحكومة بظرفها، وثبتوها كمبدأ، وهدموا أساسها وهو المبدأ الكلي الذي جاءت تطبيقا له، وفق الظرف القائم حينها. ويحسبون أنهم انتصروا لدين الله، وانتصروا للرسول. ولو امتد بالرسول العمر لغير أحكاما كما فعل في حياته، وأنشأ ما يناسب المستجدات بدون أي عملية استدلال على فرع بفرع.

الرسول، واقعا، لا يقول بالاستدلال لأنه يصدر عن عقله وحكمته. فكل مسألة لها خصوصيتها ولا تقاس على غيرها. والمسائل الجزئية لا يرجع بعضها إلى بعض. ولكن الشافعي لا يريد أن يعترف بالعقل، بل يريد الانتصار للأيدلوجية، ولذلك اكتفى بإيراد المخارج الأربعة، واعتبر أي منها صحيح، لأنها في جوهرها لا تختلف عن بعض. فالنبي موجه ومسير مثل أية آلة تؤدي وظيفة معينة، أو همزة وصل ليس إلا. وهذه أسوأ إهانة توجه للنبي. أما هؤلاء المجتهدون الذي أهانوا النبي بهذه الأيدلوجية الهابطة، فلهم، على الأقل، القدرة على الاستدلال بما أعطاهم الله من عقل يعرف العلل.

لقد ترك الله أمور الدنيا، أو المعاملات، للعقل في عهد الرسالة وبعدها. ولكن في زمن الرسالة أوكلها للنبي، وجعل طاعته فيها دين حتى يؤدي رسالة ربه. وكان النبي في ذرى الحكمة وفي أعلى مراتب العقل وعلى أعظم قدر من الخلق، ولهذا استحق النبوة. والنبوة قرينة الحكمة، ولا يمكن أن يؤدي الرسول ما طلب منه مالم يكن أحكم وأعقل الناس، يقود ولا يقاد. أما بعد عهد الرسالة يعود أمر الدنيا إلى الناس، دون أن يدعي أحد أن له طاعة دينية كالرسول.

خلاصة المسألة
هناك طاعة لله فيما نزل من عند الله، وهناك طاعة للرسول، فيما وضعه الرسول، جعلها الله من طاعته. ما نزل من عند الله إما عبر وحي منصوص وهو القران، أوحي غير منصوص مثل بيان الصلاة، والتزامه طاعة لله، وأول من يطيع الله فيه الرسول. والرسول في هذا الأمر يطيع مثل غيره، ولا يميزه إلا أنه مبلغ عن الله، ويفهم مراد الله على حقيقته، ولذلك فهو وحده المرجع فيه إن حدث سوء فهم.
أما ما وضعه الرسول فهو في أمور الدنيا البحتة، وصدر فيه الرسول من عقله وحكمته مستهدفا تحقيق المصلحة والعدل، ولا يخرج عن الصلاح إطلاقا. طاعة الرسول فيه، أثناء حياته، هي من طاعة لله، لأن الله أمر الصحابة بذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53