الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- بواية النبي - المجهول

بدر الدين شنن

2016 / 7 / 19
الادب والفن


قبل 2011 .. أي قبل الحرب ، كانت تمتد أمام شرفات قلعة حلب المهيبة ، المطلة على الجنوب ، مساحة واسعة من العمران الشعبي الأصيل ، تصل إلى " باب المقام وباب قنسرين " مشكلة أحياء متجاورة أهمها ، حي ساحة بزة ، أي " ساحة البازات " كما كان يسميه مؤسسو الحي قبل مئات السنين . وحول هذا الحي تنتشر أحياء أخرى تحمل أسماء ، قلعة شريف ، والمغازلة ، وزقاق النخلة ، والسفاحية ، والأصيلة ، وباب المقام ، وسراي إسماعيل باشا .
وكان لمعظم سكان هذه الأحياء حياتهم البسيطة في كل شيء .. في المعيشة .. والاحتياجات الاجتماعية .. وثقافة الوعي .. وفي البحث عن جهات تساعدهم ، في التعامل مع ظروفهم الصعبة وأزماتهم .
وكان أكثر الخيارات الشعبية المحببة ، في البحث الذي يجري عفوياً ، هو اللجوء إلى " النبي " الذي يرقد في مسجد ، في زقاق مغلق اسمه " بوابة النبي " وهو يقع على الطريق من القلعة إلى " حي ساحة بزة "

لا أحد من سكان المنطقة يعرف اسم هذا النبي . لاسيما أن " النبي محمد " قد قال " لا نبي بعدي " . ما يعني أن هذا " النبي " في الزقاق الصغير التابع لحي ساحة بزة ، قد يكون أحد أنبياء ما قبل الإسلام المغمورين . أو أنه كان من الرجال الأتقياء الصالحين سماه معاصروه من شدة وثوقهم بصدقه وتقواه ، وتعاطفه مع الناس " بالنبي " .
ولهذا" النبي " شهرة في الأوساط الشعبية التي في أحياء عدة . وهي ناتجة ولاشك ، عن تلبية " النبي " استغاثة الضعفاء به . فهو في ضريحه الخشبي المجلل بالحرير الأخضر ، المزين بآيات قرآنية ، ولفظ الجلالة وأسماء الصحابة ، بمداد ذهبي اللون ، يقدم العون لكل من ينشده من المرضى ، والملتاعين من فقدان الأحبة ، والمحرومين من التواصل والتراحم .

كل من زاره .. واستنجد به يقول .. لقد تحقق ما رجوته منه . أحدهم يقول .. خلصني من " الفالج " . وامرأة وقور تقول .. لقد رد لي ابني . وأكثر من شخص يكرر بين أصدقائه عن ثمرة رجائه " بالنبي " أنه ربح بعد خسارة . وفتاة تقول بخجل .. لقد لم شملنا وتزوجنا . وإحداهن تقول .. لقد رزقت بفضله بولد ، بعد عقم دام طويلاً

أكثر البراهين على قدرة وسخاء " النبي " في مساعدة من يقصده ، بالنسبة إلي هو ما قدمه لي .. حقاً .. وفعلاً .. وأعانني على العودة إلى الحياة بعد أن انقض عي الموت ، مصدقاً ما كان يعتقده والداي أني سأموت عما قريب . فأنا مذ ولدت ، حاصرني مرض ، كان قد أمات أخوي ، بكري ومحمد ، قبلي ، وهما لم يبلغا السنة الخامسة .. كما أخبرتني أمي بعد سنوات ..
لقد كنت بين وقت وآخر ، وأنا أراوح في الثالثة من عمري ، " أغشو " بعض الوقت ، ثم أصحو ببطء ، حتى أتخلص من الوهن الشديد والصداع فيما أمي تبكي ، وتصرخ ، وتنثر الدعاء مع شقيقتي ، وأبي ينتحب بجانبي عاجزاً لفقره ، عن فعل أي شيء من أجلي .
وبعد كل مرة يداهمني " الغشي " كان الأمل يراود أمي وأبي .. بأنني خلاف أخوي سأعيش . لكن المرض استقر في وكبر ، وصار أكثر تواتراً .. وأكثر ألماً . وبات من المؤكد ، أنه قاتلي لامحالة .
وحين " غشيت " في المرة الأخيرة ، كان هجوم المرض ضارياً ، وأضفى علي أعراض وألوان ، وصفات احتضار الموت .
ومن شدة صراخ أمي وشقيقتي ، جاء من نصح أمي بأخذي إلى " النبي " .. ووضعي بجوار مرقده .. ومناشدته أن يمد لي يد العون .
حملتني أمي .. كما قالت .. إلى المسجد ، ووضعتني إلى جوار مرقد " النبي " ، وهي غير مصدقة ، أنها ستعود إلي لتراني حياً .

وخوفاً من رؤيتي أحتضر ، وروحي تفارقني أمام عينيها ، خرجت من المكان ، وراحت وصديقاتها ينتظرن حزينات كيف سيكون مصيري . هكذا قالت لي أمي فيما بعد .. أما الذي أذكره أنا ، رغم صغر سني ، فإنني قبل أن " أغشو " وأذوب في اللاوعي .. واللا مكان .. واللا وجود .. كنت في البيت . لكنني لما صحوت ، وجدت نفسي وحدي ، في مكان كبير مهيب ، إلى جوار شيء ضخم مكسو بالأخضر . شيء لم أره من قبل . لم أشعر بالخوف منه ، بل راح الإحساس بالأمان ينتشر حولي . ومع اكتمال صحوي نظرت حولي أبحث عن ذاك الرجل الجليل ، الذي كان يضع يده بحنو ولطف مبتسماً فوق رأسي . .. فلم أجده .
حاولت النهوض .. فنهضت . فرحت .. انتعشت .. أحسست لأول مرة بعد " الغشي " ، أني مرتاح .. دون ألم أو خوف .

وخرجت من المكان ، لأجد أمي ومن معها ، يركضن نحوي ، ويقبلنني . قالت أمي " خلص " لقد عرفت دواءك .. سآتي بك في المرات القادمة ، إلى هنا .. إلى النبي .. لكنها لم يخطر ببالها ، أن زيارتي هذه " للنبي " ، هي الزيارة الأولى والأخيرة .

ما أشعر به الآن ، رغم انتشار العلم بأنواعه المختلفة ، وخاصة في مجال الطب عامة ، والطب النفسي خاصة، ورغم تفهمي مضامين العلمانية ومتطلباتها ، في معظم مجالاتها ، هو أن ذاك " النبي " المجهول .. قد تدخل .. بشكل ما .. بطريقة ما .. بعملية عودتي إلى الحياة ، وشفائي من ذاك المرض القاتل .

ما يلفت في قصتي مع النبي ، وفي الكثير من قصص الآخرين المماثلة معه ، أنه لابد أن يكون لحاملي البركات في حياتهم ، وبعد أن يرقدوا في المساجد ، والمقابر ، وفوق الجبال ، ومفارق الطرق ، قدرة نوعية نادرة .. لا توجد إلاّ لدى عدد نادر جداً من الأفراد في المجتمع الإنساني .. تمكنهم من مساعدة من هم بحاجة للمساعدة .

بعد عدوان الإرهاب الدولي ، واشتعال الحرب ، وتمددها إلى مدينة حلب ، شوهت القلعة الأنيقة الشامخة ، وشوهت إلى حد كبير المساحة العمرانية ، الشعبية ، العريقة ، التي تضم " حي ساحة بزة " والأحياء المجاورة له ، وتحولت إلى ساحة حرب ، أدت إلى نزوح معظم سكانها . وذهبت تلك الأصالة الشعبية .. والحركة اليومية الاجتماعية ، في السوق ، والمقهى ، والحمام ، والقسطل ، إلى غير رجعة .
وصارت مساحة العمران .. مساحة تدمير .. تمتد من قبالة القلعة .. إلى ما بعد " باب المقام وباب قنسرين " .. لتصل إلى ما بعد الصالحين .
و’فقدت معالم الدروب والطرق ، وامحت معالم " بوابة النبي . ودار السؤال في الحي .. ماذا حل بذاك المرقد الأخضر .. ذاك النبع الفياض .. حنواً .. وبركات .. ورجاء .

وتحت قصف المدافع ، والطائرات ، وهمجية الإرهاب ، صار من بقي من سكان الحي متمسكاً ببيته ، يبحث عن قدرة نوعية ، خاصة به وبأقرانه .. ليقاوم وباء الحرب والإرهاب .. والدمار .. والموت الغادر .. وليستعيد أمنه .. وحق بقائه .. ووجوده .
لكنه لم ينس ذاك " النبي المجهول .. ويمني النفس .. بأن يبحث عنه بعد الحرب .. بين خرائب بوابة " النبي " ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/