الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشروع مؤجل

خالد صبيح

2016 / 7 / 21
مواضيع وابحاث سياسية



كما في مفتتح القرن العشرين دخل العرب القرن الواحد والعشرين بشيء من الصخب والحراك التاريخي. عاشوا من جديد بعض الفوضى وكثير من العنف، ووُضعت خرائطهم في مهب رياح مفككة جديدة، ولم "يتورعوا" عن بناء بعض الامال التي رافقتهم كاحلام مؤجلة حول مصيرهم، حملوها معهم منذ لحظة وعيهم المعاصر لذاتهم.

دشن التونسيون القرن الجديد بملمح جديد أُريد له أن يشكل سمة لزمننا، وأسسوا لحراك نوعي أخذت فيه عامة الناس القرار وقادت التغيير بمزيج من العفوية والجرأة، ثم تلقفه من بعدهم المصريون فاضافوا اليه عمقا وسعة منحت الحراك الجديد بعدًا كاد أن يكون عالميا لو قيض له أن يولد في أرض أكثر خصبا. وسمي حراكهم بـ" ثورات الربيع العربي".

وما أن مُلئت شوارع تونس والقاهرة بالمتظاهرين المحتجين حتى تلقفتها بغداد في هتاف نوستالجي خافت، مستحضرا صورة نسجتها المخيلة الوطنية، اليسارية منها على وجه الخصوص، لواقع الخمسنيات الذي بهت في الذاكرة الجمعية بعد أن لوثتها سنوات طويلة من الخضوع والاستبداد واللاجدوى.

"ياتونس ويامصريين ذول احنه العراقيين"

كان المنظر بائسا ومحزنا، بضعة انفار رددوا الهتاف في سوق السراي محاولين تقليد الحراك المصري والتونسي، حتى أن أحد الفنانين "ممثل" أراد أن يلعب لعبة ساذجة ليكون من بين أول المتظاهرين ـ ربما سعيا لخلق نجومية يفتقد اليها - كما فعل الفنان المصري عمرو واكد، الذي شارك، عن وعي وقناعة، بالتظاهرات المصرية منذ يومها الأول. لكن التقليد لن يكون كما الأصل. وفشلت التظاهرات وانسحب "الممثل" إذ لم يجد له مكانا تحت الشمس.
كانت التظاهرة تلك نسخة باهتة لما حصل في ساحات مصر وتونس.

ثم جاءت بعد حين تظاهرات غضب في المدن، شمالا وجنوبا، وفي العاصمة، تطالب بالخدمات حصرا، من غير بوصلة وطنية ولامطلب سياسي كبير. غير أن تظاهرات بغداد، ومنذ عام، وضعت تقليدا جديدا هو استمرار التظاهر في كل يوم جمعة في ساحة العاصمة الشهيرة" ساحة التحرير"، إذ لم يرقَ مستوى التظاهر والاحتجاج العراقي "بعدث" حد إحتلال الميادين الرئيسية، كما حدث في مصر ومنح الإحتجاجات سيماءً جديدة، فعالة ومبتكرة. فالعراقيون لم يتهيأوا بعد لمثل هذا المستوى من الحراك، لأنهم مشغولون بمواجهة الإرهاب وبحرب الطوائف، ولا وقت لهم للهموم الوطنية.

تخوفت الحكومة العراقية من هذه الإحتجاجات، فالمثال المصري مازال طازجا، وحركت آلة قمعها، غير أنها لم تعّول على القمع كثيرا، لأنها تمتلك أدوات أكثر صلابة وتأثيرا لمواجهة احتجاجات الشارع، أعني الضد النوعي. فهي قادرة على أن تسيّر تظاهرات أكبر عددا من المتجمعين في ساحة التحرير بعشرات المرات لترد بها عليهم أو تنافسهم في احتمال آخر لتفريغ شحنات غضبهم، المترددة، في غير أماكنها.

وكانت الأبصار ترنو دائما الى التيار الصدري كقوة قادرة على لعب دور الضد النوعي، لتركيبته النموذجية؛ فهو ، رغم أنه معارض لبعض توجهات وممارسات الحكومة، إلا أنه يشّكل، من ناحية أخرى، جزءًا عضويا من تركيب النظام الثيوقراطي الطائفي الجديد، بل أنه أخذ يدخل في منافسة مع أحزاب السلطة على حيازة حصص أكبر من غنيمة السلطة والقرار، مما أثر على سمعته كقوة ذات هم إجتماعي "طبقي".

وهذا ما وقع لاحقا.

فبعد أن تواصلت التظاهرات بشكلها المحدود، كل يوم جمعة، وبدا أن السلطات تستطيع أن تتعايش مع الحالة، وكيفت نفسها مع هذا الواقع: محتجون يتجمعون كل أسبوع يهتفون، يفرغون غضبهم ثم يتفرقون، وهذا لن يخيف سلطة لها قاعدة اجتماعية عريضة، فيما المنابر الدينية والمذهبية، التي تبني، بطريقتها، وعيا مغايرا لما يريد ان يعممه محتجو ساحة التحرير، تنشط في نسج القاعدة الاجتماعية أو "الغفلة الاجتماعية" لنظام سياسي طائفي فاسد.
وحين بلغ تدهور الوضع العام حدودا لاتحتمل، سقطت أثناءها مدينة الموصل والمنطقة الغربية بيد الإرهاب، اتسعت التظاهرات وأخذت شكلا جديدا؛ حيث ازداد عدد المنخرطين فيها وتعمقت شعاراتها ومطالبها.
هنا برز عنوانان لشخصية التظاهرات هما: المدنية والسلمية.

وفيما حافظ المتظاهرون على سلمية التظاهرات، اهتزت مدنيتها بانضمام التيار الصدري إليها، وذلك بعدما حظيت بتاييد وتشجيع المرجعية في النجف، وهي صارت، في الواقع، بهذا الدعم وبغيره، وسيلة للمزايدة السياسية والحزبية وأحيانا للتكسب الفج.
ولّدت مشاركة التيار الصدري في التظاهرات حالة من القلق لدى مجاميع المتظاهرين وألقت بهم، أو ببعضهم على أقل تقدير، في مفترق طرق؛ بين الإلتزام بالهوية المدنية الخالصة للإحتجاجات وبين القبول بتغيرات جوهرية عليها. فالصدريون أرادوا أن يجيروا الاحتجاجات لتيارهم ويسبغوا عليها سمتهم الفكرية والسياسية. وهم تيار، مهما تعددت الإجتهادات في توصيفه، يبقى واحدا من تيارات الإسلام السياسي بايدلوجية غيبية وصبغة طائفية بينة. وهذا يتعارض بالضرورة مع تطلعات وهوية الحراك الذي أُريد له أن يُبقي على مدنيته التي هي، باختصار، ودون تعقيدات نظرية، اتجاه سياسي يريد بناء مجتمع ديمقراطي ودولة قانون تقبل بالاختلافات وتدير الصراعات الناشئة عنها بوسائل سلمية وغيرها من خصائص الدولة المدنية. وهذا يتعارض جوهريا مع نهج اي تيار سياسي ديني في العراق الآن. فإرث المدنية بعمومه مايزال غضا وغير قادر على التاثير والتغلغل كمفهوم وقناعة وهدف بين القوى السياسية، الجديد منها والقديم. بينما إرث الاستبداد والشمولية والعقل الغيبي والنزعة الطائفية راسخا وأقوى من أن تزحزحه احتجاجات مهما خلصت نوايا القائمين بها.

من هنا فإن أي تعويل على تحول محتمل في مواقف التيار الصدري أو "تجذر" في الوعي عند جمهوره، او التفكير بالاستفادة من قاعدته العريضة، يتيح امكانية استقطابها، هو ضرب من الخيال. لكن، وبما أن ساحة الإحتجاجات هي ميدان عام ومفتوح للجميع، ووجود التيار الصدري وتاثيره فيها غدا جليا ولا يمكن تخطيه، فلم يبق أمام المدنيين سوى قبول هذا الواقع لكن ينبغي التشديد على الحفاظ على الإستقلالية الفكرية والتنظيمية في الشعارات وفي أهداف الحراك، وجعلها من الثوابت، حتى لو كانت هناك ضرورات تفرضها الساحة لأي تنسيق أو تعاون مع التيار.

إن احتجاجات التحرير والحراك المدني بعمومه، بمايجسده من رقي في لحظته التاريخية، هو حراك أكثر تقدما من واقع المجتمع العراقي الحالي، الذي رسمت بعض ملامحه تركيبته وإرثه التاريخيين، وأكبر من قدراته على هضمها، ولهذا فهي ستغدو مشروعا مؤجلا مثلها مثل المشاريع المؤجلة الأخرى التي رسمت ملامح العراق المعاصر. فقد حمل العهد الملكي مشروعا حداثيا أُجِّل أو أُجهض لأن النظام أراد بمشروعه بناء دولة عصرية حديثة، ترتبط بالسوق الرأسمالية وتأخذ، في تطورها السياسي والإجتماعي، شكل نظام تمثيلي "تداولي" بطرق سلمية، لكنها اعتمدت لإنجاز مشروعها ذاك على قاعدة اجتماعية إقطاعية، شبه عبودية، متخلفة، فحملت بذلك بذرة تناقض لمشروعها و أداة لإجهاضه. وكانت ثورة تموز 1958 مشروعا واعدًا أراد أن يزيح تناقضات العهد القديم ويبني عهدًا جديدًا يقوم على احترام حقوق الوطن والإنسان فيه" الفقير غالبا"، لكنها اعتمدت اسلوبا فرديا، دكتاتوريا، في الحكم كأداة لتجسيد مشروعها، وبهذا شكلت خميرة لإجهاض مشروعها هي، ومن ثم القضاء على كل حيثيات الحياة السياسية بعد ذلك، مما أوصل البلد، بالنتيجة، بعد الآمال العراض، الطموحة، للعالم المشرق الذي وعدت به الثورة، إلى عالمٍ كالحٍ من دكتاتوريات عسكرية قبّحت وجه الوطن وتاريخه" لتنتهي بحكم صعلوك اسمه "صدام حسين" للعراق.

ولا أظن أن مشروع الدولة المدنية الذي تمثله حركة الاحتجاجات في التحرير، سوف يستطيع تحقيق وعده لانه سوف يقع، دون إرادته، في نفس القصور الذاتي، الذي يكاد يكون قدرا عراقيا، بإعتماد وسيلة خاطئة، أو غير مؤهلة، لحمل المشروع، كما يَلوحُ ذلك في الأفق. فمشروع دولة مدنية لا يمكن أن تكون أدواته وقاعدته سلفية دينية، أو طائفية.

لهذا ستبقى احتجاجات التحرير، وما تحمله من آمال، هي الأخرى مشروعا عراقيا مؤجلا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإنفاق العسكري العالمي يصل لأعلى مستوياته! | الأخبار


.. لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م




.. ألفارو غونزاليس يعبر عن انبهاره بالأمان بعد استعادته لمحفظته


.. إجراءات إسرائيلية استعدادا لاجتياح رفح رغم التحذيرات




.. توسيع العقوبات الأوروبية على إيران