الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القصة القصيرة - الهارب و عازفة البيانو -

تامر سلامة

2016 / 7 / 23
الادب والفن


قصة قصيرة بعنوان " الهارب و عازفة البيانو "

صافراتُ إنذارٍ مدوية في كل مكان ، حراس السجن يطوقون محيط السجن بعد سماع دوي إنفجارٍ قرب الحائط الجنوبي للسجن ، يصدح صوت المأمور عالياً عبر مكبرات الصوت " إقتلوا كل من تسول له نفسه أن يهرب ، نفذوا أوامري دون نقاش " ، أصوات الأعيرة النارية تخرق الآذان ، و تطايُر الرصاص غزيرٌ كالمطر ، ينتهي كل شيء بعد لحظات ، يتفقد المأمور الجثث ، يعُدُّها بإشمئزاز بارز على وجهه ، يركل البعض بقدمه و يطلق النار على من تبقى على قيد الحياة من الهاربين ، يأمر الحراس بجمعهم و إحصاء كل نزلاء السجن فوراً ، فيعود الحارس بنبأ سيء ..
هاني ، المعروف بالسجين رقم ٩٧٣ ، إستطاع الهرب ، فينطلق الحراس خلفه ككلابٍ بوليسية مسعورة ، فالمأمور قد وضع وعد من يحضره أولاً بزيادةٍ في الأجر ،فإنطلقوا يبحثون عنه تحت المطر مواجهين غضب الطبيعة الثائرة .

بعد مرور ثلاث ساعات ، خرج هاني من حاوية الملابس المتسخة ، تقدم نحو عامل النظافة بحذر شديد ووجه له ضربةً خاطفةٌ على رأسه ، فأوقعه أرضاً مغمياً عليه ، إستبدل ملابسه بملابس عامل النظافة ، تقدم آخذاً معه عربة الملابس المتسخة متجهاً نحو بوابة السجن ، أنزل قبعته للأسفل بحذر كي لا يراه الحراس الذين قد يتعرفون عليه بسهولة ، يتقدم بخطواتٍ يكتنفها الرعب ، و كل نبضة يصدرها قلبه تُخَيَّلُ له أنها الرصاصة التي ستسقر في رأسه في صباح غد لو إكتشفوا أمره ، إستنشق الهواء بشهوة ، كأنه يستنشقه أول مرة ، و للمرة الأخيرة ، يقترب من الحراس ، يلقي عليهم التحية بصوت خفيض ، يتصببُ عرقاً مثل لوح ثلجٍ متمركزٍ تحت عين الشمس ، يفتش الحراس العربة بحذرٍ و تركيز شديد ، ينظر إليهما محاوراً تجميع شتات نفسه المرتعبة ، يراقب بدقة و حذر شديدين كل ما يفعله الحارسان . إنتهى الحارسان من عملهما و سمحا له بالمغادرة ، تقدم نحو شاحنة شركة التنظيف ، ووضع الملابس المتسخة في الشاحنة ، ثم أدار المحرك و إنطلق باحثاً عن أقرب هاتف عمومي كي يتصل ب أصدقائه القدامى ...
يجذب سماعة الهاتف بعنف ، يضع قطعة من النقود كان قد سرقها مسبقاً من كنتينة السجن ، و إكتنزها لهذا اليوم المنتظر ، الذي ينوي فيه إقتلاع حريته من فكّي هذا العالم القاسي ، طلب رقم أقرب أصدقائه الذي كان قد دقه وشماً على يده كي لا ينساه خلال فترة سجنه الطويلة ،رن الهاتف مطولاً ، لحظات مرت كأنها نصول منشارٍ صدء ، مرّ على قلبه دون إكتراث للألم .
قبل إنتهاء المدة ، رفع خالد السماعة ، إختصر هاني التحيات و الأسئلة إختزالاً للوقت المختزل ضمناً في دقائق مدفوعة ، هُدِرَ أغلبه في الإنتظار ، أخبره هاني بمكان تواجده و أغلق السماعة ، جلس ينتظره تحت المطر و هدير الرعد يشق السمع كخنجرٍ غادر في ليلةٍ صيفية بالغة السواد .
مرة ساعة و نصف ، وصلت سيارة رمادية اللون و توقفت بجانب كابينة الهاتف ، نزل الزجاج الجانبي ، أطلَّ خالد برأسه و نادى على هاني ليركب بسرعة ، قاد خالد مسرعاً و خلال الطريق أخبره بقصته العجيبة و خطته المُحكمة للهروب , فأخبره خالد بضرورة التخفي ، فلم يمضي على هروبه سوى بضع ساعات و أجهزة الشرطة تبحث عنه ، تقطع نشرة أخبار الساعة التاسعة الإذاعية حديثهما ، و كان الخبر الرئيسي "هروب السجين رقم 973 و الذي هرب بعد أن قتل ما يزيد عن عشرين سجيناً و خمس حراس و أن هناك جائزة مالية لكل من يقبض عليه أو يساهم في ذلك " ، إشتاط هاني غضباً من تلفيق الإعلام لتلك التهم له دون أدنى حق ، هل أصبح كبش محرقة حريته الخاصة ؟ ، صدقه خالد دون تفكير مكذباً الإعلام و الصحافة المعروفة بتضخيمها لكل شيء و إن كان متناهي الصغر و اللاأهمية حتى ...
توقفت السيارة بعد ساعة من القيادة المتواصلة أمام أحد المنازل الريفية القديمة ، ترجل الرجلان من السيارة و دخلت المنزل بسرعة ،أعطى خالد مفتاح المنزل لهاني بعد أن أخبره أنه يملكه ، و أخبره لان يختبىء فيه حتى تهدأ الأحداث ، و يجد حلاً منطقياً للمشكلة التي تفاقمت بعد كل تلك التهم التي نزلت على هاني دون سابق إنذار أو حسبان ، و أخبره أنه سيأتيه بالطعام صباح غد ، و لكنه يجب أن لا يلفت إنتباه الجيران في غيابه ، وودع صديقه و خرج مغادراً للمنزل .

غيّر هاني ملابسه بعد أن أخذ حماماً سريعاً ، جلس في غرفة النوم و الأرق يسيطر عليه ، لم يستطع النوم ، ما لبث أن سمع صوت موسيقى من البيت للمقابل البيت الذي يختبئ فيه ، نظر من خلف الستارة بحذر ، رأى فتاةً عشرينية تعزف على البيانو في غرفتها، عذبة الملامح ، ناعمة التفاصيل مسدلةً شعرها الأسود كسماء ليلةٍ صيفيةٍ صافية دون نجوم ، تعزف بشغفٍ و نشوة المتعة الموسيقية تعتلي بإبتسامة لذةٍ على شفتيها ،وقف يستمع لتلك الموسيقى التي تنسجها تلك الملاك بيديها العذراء ، كم هي جميلة ، لم يتمالك نفسه ، بل لم يستطع التنفس أمام هول جمالها الأخّاذ ، إستمرت بالعزف حتى موعد الفجر ، لم يهتم للوقت بتاتاً ، فهو قد ضاع في عذابات الموسيقى و جمال عازفتها ، و ما إن إنتهت الفتاة من عزفها ، نهضت عن البيانو متثائبةً متثاقلة في مشيتها ، و هو يراقب خطواتها الناعمة بكل إنتباه ، كطفلٍ يراقب ساحراً يقوم بخدعةٍ سحرية مذهلة ، راقب جسدها الفاتن ، المثالي القوام ، المنحوت كضخرةٍ ملساء ناعمة ، حتى تقدمت من نافذتها و أسدلت ستارة غرفتها و أطفئت النور ، إختفت إبتسامته الطفولية التي رسمها دون قصدٍ أو وعي ، وضع رأسه على الوسادة ، لم يستطع النوم ، تقلب يمينا و يساراً ، يهاجمه الجوعُ تارةً ، و تهاجمه العازفة الملائكية في أفكاره و عقله ، بقي يتقلب حتى أشرقت الشمس فغط في نومٍ عميق بعد أن أنهكه الجوع و السهر و التعب .

أيقظه قرعٌ على الباب ، إرتبك و إرتعد خوفاً ، هل كشفوا أمره ؟! ، هل رآه أحدهم ليلة أمس ! ، ملايين الأسئلة إجتاحت عقله خلال لحظات ، تلاشت حين سمع صديقه يصفر ، فتح الباب فدخل خالد مسرعاً ، محملاً ببعض الطعام و المعلبات و علب السجائر و القهوة ، وضعها على عجلٍ في المطبخ ، و هم مستعجلاً مخبراً هاني أنه يجب أن يذهب للعمل و سيعود له بعد إنتهاء الدوام ، و أخبره أنه يستطيع إن شعر بالملل أن يزور مكتبة الحي ، فلا أحد يعرفه هنا لحسن حظه ، و الشرطة قليلة التواجد هنا ، و لكن عليه الحذر أيضاً ، أعطاه بعض المال و غادر مسرعاً كي لا يتأخر .

تناول هاني فطوره ، حاول تشغيل التلفاز فوجده متعطلاً ، قام ببعض التمارين الرياضية ، أخذ حماماً و غيّر ملابسه ، خرج من المنزل و إتجه للمكتبة ، لا تزال عازفة البيانو تلك تحتل تفكيره ، و تلك المقطوعة الموسيقية التي عزفتها لا تزال تترنم في خياله دون إنقطاع ، دخل المكتبة ، توجه نحو أمينة المكتبة ، و سألها عن قسم الكتب الموسيقية ، أراد أن يعرف إسم تلك المقطوعة الخلابة ، و تصادف أن أخذ كتابً عن الرف ، فتلاقت عينيه بعَينَي تلك العازفة ، أشاحت نظرها بعيداً عنه خجلاً ، وهو وقف كالأحمق لا يعلم ما يفعل ، أصابه الشلل في عقله و جسده لدقائق ، تجمد في مكانه كمسمارٍ عتيقٍ صدئ ، تقدم منها بخطواتٍ ملأها الخوف و الخجل ، إستسمحها أن يجلس على نفس الطاولة فلم تمانع ، بدأ بالتعارف معها ، لكنه لم يخبرها بحقيقته ، لم يجرؤ أن يخبرها بأنه ذاك السجين الخطير الهارب ، و ما إنتهى اللقاء حتى إستسمحته في المغادرة ، و غادرت بخطواتٍ خفيفةٍ مسرعة .

تبعها هاني ، يتتبع خطواتها بخفة و سرية ، يتتبع خطواتها بكل شغف ، يراقبها بكل غرامٍ و عشق ، حتى ركبت الباص ، وعاد لبمنزل مسرعاً ، ينتظر الليل ليستمع لمعشوقته ، التي تشجع ليتعرف عليها صباح اليوم ، فنزل ستار النهار فإصطبغت السماء بالسواد ، و صعد القمر للسماء يلقي بنوره على نافذة العاشق المفعم بالحُبِّ المعذّب بنار الإنتظار و لوعة الحرمان .
راقبها تلك الليلة ، و الليلة التي تلاها ، و التي تلتها كذلك ، في الليلة الرابعة قرر التسلل نحو نافذتها ، و إعطائها وردة ً كتعبيرٍ عن حبه الذي قرر الإعتراف به لها أخيراً ، تسلق نحو نافذتها ، دق ثلاث دقات بيده على الزجاج ، صعقت لرؤيته و إقتربت منه بخجل ووجهٍ يملؤه الحياء ، قدم لها الوردة دون مقدمات أو كلام ، و طبع قُبلةً على يدها ، ضحكت بخجل برز خلاله جمالها الفاتن ، كانت ضحكتها فاتنة لدرجة أنه قد فقد توازنه لثواني و كان أن يقع لولا أن أمسكت بيده و سحبته تجاهها ، تشجعت و قَبّلته على شفتيها قُبلةً طويلة ، تبادلا خلالها مشاعر لا توصف بالكلمات ، و تبادلا عهود الحب و الإخلاص ما إستطاعوا إليه السبيلا ، ثم ودعا بعضهما ، و توجه كل منهما لمنزله لينام .
في صباح اليوم التالي ، إستيقظ هاني على صوت قرع الباب ، ظن أنها معشوقته أتت لتيقظه ، لبس ملابسه بسرعة و هرع نحو الباب ، فتح الباب ليشاهد شرطياً يوجه فوهة بندقية نحو وجهه ، بوجهٍ ساخرٍ مليءٍ بالشماتة العميقة ، قائلاً بكل تفاخر " أخيراً قد أمسكنا بك أيها الذكي , تنتظرك أيامٌ سوداء ، بيننا سأقضي إجازةً طويلة صارفاً المكافأة الموضوعة لمن يقبض عليك " ، رفع هاني يديه فوق رأسه معلناً إستسلامه التام ، فماذا سيفعل رجلٌ أعزل و إن كان يملك شجاعة العالم كله في وجه شخصٍ مسلح و إن كان حتى جباناً أو أبلهاً .

في لحظةٍ ثارت فيها دماء هاني في شرايينه ، خطرت له فكرته الجهنمية بتوديع معشوقته الغالية ، بينما كان الشرطي المتحذلق يضع الأغلال في يدي هاني من الخلف ، ركله هاني في معدته ثم ضربه بكل ما أوتي من قوة على رأسه ، و إنكلق نحو منزل معشوقته ، فنادى بكل صوته " ريم !!! " ، أحبك يا ريم , سامحيني على كل شيء ، و فجأة إخترق صوت الرصاص الهدوء الصباحي المعتاد للحي ، رصاصة خرجت من بندقية الشرطي لتصيب هاني في ظهره ، ليغمى عليه على عتبات منزل معشوقته التي راقبت هول المشهد من نافذتها بصمتٍ جليديٍ لا يوصف .
مرّ إسبوع و هاني يرقد في مستشفى السجن ، إستيقظ من غيبوبته فجأة ، و كان أول ما ينطق به هو إسمها ، نظر حوله ، وجد نفسه مكبل الأيدي و الأقدام بالأغلال إلى السرير ، دخلت ممرضة الغرفة متفاجئةً بإستيقاظه ، فقد أصيب بشلل نصفي فلن يستطيع السير مجدداً ، تقدمت منه الممرضة بعد أن أخبرته بحالته ، و قالت بطريثة مبهجة محاولةً تخفيف ألمه و صدمته النفسية " هناك زائر ٌ يأتيك منذ اليوم الأول لك هنا ، سيدخل بعد قليل .. " .
يفتح باب الغرفة ، و إذا بها ريم تدخل الغرفة ، بإبتسامتها المفعمة بالأمل و المحبة ، كشمسٍ تخترق الضباب الكثيف بأشعتها اللامعة الدافئة ، إقتربت منه ، حاولت تهدئته ، إحتضنته و قبلته على جبينه ، و هو بدوره قبل يديها و خدها ، و حدثها مخاطباً بلهجة ملأها الإكتئاب و فقدان الأمل :
- آسف على كل شيء ، حقاً آسف على إخفائي حقيقة هروبي حبيبتي ، لم أكن أقصد إيذاء أحد ، قد لا تريدينني الآن ، فأنا مصاب بشلل نصفي ، و لن أستطيع السير مجدداً ، فقد أخبرتني الممرضة بأن الرصاصة إخترقت عموديَ الفقري ، لا شفاء من ذلك عزيزتي ، فإن أردتِ الرحيل فسأتفهم الوضع بكل هدوء و تعقل..

= لن أرحل ، أحبك كما أنت ، لا يهمني ماضيك ، لا يهمني وضعك الصحي أو حتى التشوهات التي تركتها الرصاصات على جسدك ، كل ما يهمني أنك أحببتني بصدق ، بكل بساطة عشقتني ، لم تسأل عن ماضيَّ ، لذلك لن أهتم لماضيك ، و سأبقى بجانبك ما حييت يا حبيبي ..

عانقا بعضهما البعض عناقاً طويلاً ، و إتفقت ريم مع إدارة السجن على جدول زيارات محدد ..
أثبتت التحقيقات خلو طرف هاني من الهروب الكبير ، و عدم صلته بقتل العدد الهائل من المساجين الهاربين ، و أصدرت المحكمة حكماً بتبرئته من جميع التهم الملفقة ضده من قِبل مدير السجن ، مع الأمر بإعتقال مدير السجن تحت ذمة التحقيق ، و أن يكمل هاني فترة عقوبته و أن يفرج عنه بعد إنتهاء المدة .

مرت خمس سنوات ، كم إنتظر هاني هذه اللحظة ، التي لطالما كانت حلماً راوده طوال خمسٍ و عشرون عاماً ، إقترب منه الحارس و فتحت زنزانته ، سلّمه قرار الإفراج عنه ، تذكرته نحو الحرية و بدء حياة جديدة ، دفع الحارس كرسيه المتحرك ، نحو الباب ، و عند المخرج قابلته معشوقته الوفية التي صانت حبهما طوال خمس سنوات ، و لم تنطفىء شعلة العشق في قلبها تجاهه للحظة واحدة رغم كل شيء ، إستلمته و رحبت به بالأحضان و القبلات ، و بعض دموع الفرح التي أصرت على التمرد على عينيهما لتخرج دون إرادتهما .

أكمل هاني حياته مع ريم في سعادة و محبة ، تناسيا كل شيء ، فقد تركا الماضي خلفهما دون إهتمام أو حتى أدنى شعور لأهميته ، فالماضي المؤلم لهو تجربةٌ سيئة يجب التخلص منها بكل تفاصيلها ، و إن كان قد ترك أثراً نفسياً أو معنوياً ، لكن كل شيء يشفى مع الوقت ، فكما تُنسى تستطيع أن تَنسى ، فالفضيلة لم تخلق لك لتمارسها مع من لا يتحلون بها ، فقط تمسك بمن يحبك ، ولا تهتم لأي شيء ..

بقلم :
تامر سلامة
-أبو جيفارا-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة