الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : استوديو أبو شنب

ادريس الواغيش

2016 / 7 / 23
الادب والفن


قصة قصيرة : استوديو أبو شنب

فترةُ فراغ دفعتني إلى النبش في بعض الأرشيفات ومقتنيات الكتب القديمة، فتحتُ أجندات ودفاتر ذكريات كدت أنسى ما فيها بفعل التقادم، تفحّصت أوراق كراسة في غفلة من الزّوجة والأولاد، وإذا بي أمام صورة بدأت تفقد ملامحها، ووردةً تنام هادئة في غياهب أوراق فقدت نصاعة البياض. كان صمتُ الصورة باهتٌ كلون الإدمان، لم أتذكر مناسبة ترجعني إلى تاريخها أو مكان أخذها، فلمتُ ذاكرتي وانزويتُ.
كل ما أذكره منها، هو أن حروفها الأولى مكتوبة بخط غير واضح فوق ظهرها، مع وريقات نالت منها الأرَضَة، تذكرت بعد إلحاح شديد مني على الذاكرة، أنها تعود لصديقة قديمة، عشقتها عن قصد وعشت معها حبًّا جارفاً، بدأ سريعا وانتهى في غياهب الذاكرة نسيا منسيًّا. كانت هي قد تزوجت، فيما أتذكر، من شاب يشتغل بوظيفة تناسب طموحات أسرتها، و كنتُ أنا أيضا قد تزوَّجتُ من فتاة تناسب بعض أفكاري اليسارية القديمة!.
كان يؤلمني أحيانا ما يصلني من أخبارها:
- نضجت، نجَحَت، تزوجت، ثم أخيرا وهذا ما آلمني أكثر،أنجب منه أطفالا يشبهونها‼.
هو أقصى طموح كان يراودني حينها ويعشش في دواخلي، أن أنجب منها أطفالا يشبهونها، كنت ألتقي في مناسبات متقطعة بصديقاتها فيذكرنني بماضينا المشترك، هو الذي سعيتُ مرارًا لأن أهدم الهوة بيني وبينه أو بينه وبين الحاضر، وأعمقها أحيانا عن قصد، لأن طريقنا كان قد رسم منذ البداية بشكل مختلف!.
كل ما كنت أتمناه في تلك الصبيحة ونحن على انفراد، وقد خرجت لتوديعي بلباس نومها الأبيض الناعم الشفاف، وشعرها الكستنائي المترامي بشكل فوضوي فوق كتفيها، هو أن ألمس بشرة يديها الناعمتين للمرة الأخيرة، أصافحها مُصافحة مُختلفة عمّا ألفناه في السّابق وأنا أغادر مدينتها، ومن يدري قد لا أراها ثانية؟!. أسترجع بعض الجزئيات الصغيرة من لقاءاتنا، أتذكر جيدا أنني سلمت عليها من خلال يديها البضتين، ولامست لأول مرة، عن قصد، نهديها النافرتين، وكدتُ أقارب شفيتها وأقبلها في الزُّقاق الضيق من كثرة أغصان الأشجار المتدلية أمام بيت أهلها، لولا هَمْهمَة كيْديّة من أحد جيرانهم العائد لتوِّه من صلاة فجر صيفي حار، انسحبتُ حينها مرتبكا أجرّ خيبتي، فيما ارتمت هي، في خفة هِرّة، إلى ما وراء الباب الخارجي.
هي معركتي الأخيرة، وقد كانت مختلفة عن معاركي السابقة في تلك الصبيحة الصيفية الباكرة، وكان عليَّ أن أربَحَها بكل ما أملك من أسلحة، حتى وإن بدت بشائر خسارتي فيها واضحة منذ البداية، توقفت طويلا أمام منزلهم علي أفوز منها بنظرة أخيرة. ترددت، ثم قلت:
- من أدراني؟ قد تطل علي ثانية وثالثة ورابعة، وحتى المرة الأخيرة من الشرفة لأحييها على الأقل تحيّة الوداع، لكنها لم تفعل‼
انصرفت وقد يئست، أصبح الأمر قاسيا وأكثر تعقيدا، لم يعد بإمكاني أن أرسم لها وداعي الأخير، أن أصيح بكلمة أو أشير لها بتلويحَة بويهميّ قد نجد لها تفسيرا فيما بعد، وهذا ما آلمني، كنت قد خسرت دون إرادة مني، معركة من معاركي الصغيرة‼.
تذكرت في غفلة مني وعجلة من أمري، يوم رتبنا ميعادنا الأول على عجل، قالت لي في آخر جلسة سريعة جمعتنا معا:
- خلي هذه الذكرى معك، وأعطتني صورة (كنت قد أضعتها) ووردَة، مادامت هذه الصورة معك، لا يمكنك أن تنساني أبدًا...!
أودَعتُ ذكراها في قلبي إلى الأبد، و كتبتها في كرّاسة كسطر انتهى بنقطة في الأخير، ولن تكتمل الأحداث الباقية إلا بمداد أكثر قتامَة، فانتهى المشوار سريعا كما بدأ في أول مرة، لكن نسينا معا أننا لم ننتهي منه، و ظلت الخاتمة مُعلقة.
- أكاد أنساها أحيانا، فتراودني صورتها المرسومة في ذهني من حين لآخر، وفجأة تُفجِّر في داخلي ما يشبه البكاء أو براكين تهزني، فكيف لي أن أنساها، وإن حصل غصبا عني، من حين لآخر؟.
أتذكره الآن جيدا، كان قد هَزمَنا منذ البداية وهو يُدخلنا إلى الغرفة المُظلمة وبيده آلة تصوير، يبحث عن شيء كنا نراه ولا نعرفه، حتى يطول انتظارنا أحيانا.
- لا تتكلما...!.
بقي نظري مشدودا إلى صُوَر استوائية مُعلقة على حيطان الأستوديو، كنا لا نراها إلا في الأفلام الهندية، وعندما عاد أمرنا بصوت جهوري، خرج من شفتيه الغليظتين الداكنتي اللون كقطعة كبد وفوقهما شنب مخيف، يحملهما وجه أكثر صرامة:
- لا تحركا رأسيكما، انظرا إلى الضوء و انتبها جيدا، لا تبتسما قبل أن أبدأ في العَدّ...!.
هل كنا على خطأ وتسرعنا منذ البداية، حين استبقنا الأمور وسارعنا إلى رسم ابتسامة عريضة، وأظهرنا عن رضَا بدت من خلاله سعادتنا أكثر وضوحا قبل الأوان؟. لم تكن المرة الأولى أو الوحيدة التي أخذنا فيها صورًا في ”أستوديو أبو شنب” بالتقسيط، لأنه الأقرب إلى الجامعة والأرخص في حي ”الليدو” الشعبي، بعيدا عن أضواء مركز المدينة.
في إحدى المرات كاد يصفعني، لولا دخول زبون آخر إلى المحل، انتبه إلى أنني حاولت أن أستغفله من خلال سلوك إيحائي، حاولت من خلاله قطف قبلة من خدها الأيمن، الأمر الذي كان يزعجه أكثر من أي شيء آخر. قال لي في استخفاف:
- أنا فنان ماشي قوّاد هنا؟ وهادا راه أستوديو ماشي دارالقحَاب...!!
كان هناك بيت آخر ملتصق بالأستوديو، يعلق فيه صاحبنا صور من لم يؤدون ثمنها بشكل تعسفي، فيضع المسامير في أعين الجميلات من الطالبات!
”أبو شنب” هو اللقب الذي كان يحمله الرجل الخمسيني الأعزب، إضافة إلى ألقاب أخرى أقل حدة مثل ”السوايعي” و”العسكري” إضافة إلى ألقاب أخرى أكثر إيلامًا. كل طلبة الحي الجامعي بفاس والأحياء الشعبية المجاورة له يعرفونه، خريج قاعدة عسكرية دون رتبة، لم يلتزم بقواعدها فسرحوه إلى حال سبيله. بدأ يصلح أعطاب الساعات السويسرية القديمة في محل صغير مجاور للجامعة، ولما ظهرت الساعات الإلكترونية بارت مهنته، فكان عليه أن يجد بديلا، فحَوّل المحل الصغير إلى أستوديو تصوير الطلبة والطالبات في الجامعة، مع تسهيلات في الأداء، وأضاف له فيما بعد دكانا آخر. التقط ”السوايعي” الصورة بخفة المحترفين، تساهل معي في حركات إيحائية كثيرة، وأعطاني مهلة دون وصل.
بعد ذلك بيومين كانت الصور جاهزة كما اتفقنا، لكنه تحايل عليّ، وأصرّ على أن أدفع له ثمن صورتين معًا بدل واحدة، مقابل تغافله على ما قمت به فيما ظننت، وهدّدني بدق المَسامير في عينيّ حبيبتي، مشيرا إلى بعض نماذج من صور يتصدع لها القلب، إن أنا لم أفعل!!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج