الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كارل ماركس في العراق الجزء الثامن عشر

فرات المحسن

2016 / 7 / 25
الادب والفن





ــ في خضم هذه الفوضى العارمة كل شيء يبدو ممكنا وغير مستبعد.

هكذا قال ماركس وهو يفرك يديه ببعضهما وأدار نظره متفحصًا بإحساس كئيب زوايا غرفة الحبس. شعر لحظتها بأنه بات جزءً من هذه الفوضى العارمة التي تلف العراق، يجعله الوضع يعيش وسط دوامة لا يستطيع الخروج منها. كل شيء فيها غريب ومتسارع وموجع، لم يعد يطيق احتماله وليس بمقدوره مسايرته أو اللحاق به. تأتي الحوادث فيه غريبة وصاعقة لتفرض نفسها عليه وتسحبه وتكبله بقيودها. لا يجد في هذه الأجواء ما يوحي بالاطمئنان، بل هناك دائما مجهول يخفي ملامحه ثم يظهر بشكل ما، أغلبه غير متوقع وغير مرغوب فيه، دائما ما يكون على شكل صدمة أو واقعة خارج نطاق المألوف. يتذكر كيف وقع حادث الفندق في تلك الليلة المظلمة التي أراد بها ملاطفة الحارس أبو شمخي، ولكن أبو شمخي سقط فاقد للوعي من شدة الخوف. كان من الجائز أن تنتهي حياته العملية في تلك الساعات، عندها عليه أن يتحمل ذنب موت ذلك الرجل، ودون أي مبرر مقنع للحدث المفاجئ ويكون مصيره عندها السجن لعدة سنوات،عندها تنتهي مهمته أو حتى حياته العملية وقدراته الفكرية وتذهب جهوده المضنية التي بذلها خلال كل تلك السنين هباءً منثورا. ثم توالت الأحداث دون أن يستطيع إيقافها أو تغيير مسارها. وها هو الآن وقد مضى الشطر الأكبر من الليل، يجلس جوار أبو رمزي السجين اللغز المريض، الذي لا يفصح عن سبب اعتقاله ولا عن مرضه ولن يروي حكاية أو حدث يقع في السجن أو خارجه إن كان في الحاضر أو الماضي دون أن تكون هناك مقدمة طويلة من الغاز أو قصائد شعرية، وما عاد يستطيع هو اللحاق أو التعرف بالكامل على معانيها ومكنوناتها، ولكنه يجد نفسه مجبرًا على الاستماع لها وحتى قبولها، فهو لا يريد أن يختلي مع نفسه ويفكر بوحدته وما تخبئ له الأقدار. يكفيه كل تلك السنين التي أضاعها وصار فيها ضحية لأجل الآخرين، وكان يضغط على حياته ويكرس يومه لموضوعة الطبقة العاملة وضرورة انتصارها المستقبلي الناجز.
عند هذه اللحظة توقف ماركس وزجر نفسه معاتبا، كيف تسنى له الآن أن يبخس نضاله الطويل، كيف سمح لنفسه الوقوع في فخ الوهن هذا، ليذهب فيه بعيدًا ويقرع النفس على سنوات الكد والجهد الفكري الذي جاء بنتائج كبيرة لصالح الطبقة العاملة وأصبحت الشيوعية راسخة تجوب العالم وتهدد مصالح الطبقة البرجوازية وتعطي للعامل شعلة نور هادية تدله على طريق الصواب للحصول على حقوقه وحقوق طبقته وباتت الشيوعية حفارة قبر الرأسمالية.يا ترى ما الذي دفعه للوقوع في هذا المطب..إن التغييرات الظاهرة أو المظاهر الخارجية للحدث تظل نظرة قاصرة أن لم يحاول المرء معرفة الخصائص البنيوية الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع، ويتعمق في دراستها. فالتغييرات الاستعراضية التي يشاهدها المرء أمامه لا تكفي لتلمس الحقائق، فلا بد من عمل وتفكير دءوب متعمق للوصول إلى مدى تأثيرها.
لم أستطع وتلك كانت لها أسباب ومصادفات لم تخطر على البال أو لم تكن متوقعة وموضوعة ضمن ما قررت معرفته،لم استطع أن أصل بعمق إلى الخصائص الأولية، ومنها طبيعة النمو السكاني الانفجاري للشعب العراقي رغم ما مرت عليه من حروب وصراعات، وما يرافق هذا الأمر من اختلال في التوازن بين العدد المتزايد للسكان و الموارد المتوفرة مما يسبب قصور كبير ومشاكل جمة اقتصادية اجتماعية، ومثل هذا الأمر يحدو بالمرء مراجعة هذا النمط من الفعل بين السكان والذي ممكن تشخيص أهم علة له وهو انخفاض المستوى الثقافي للشعب .
ياترى ما الذي جعلني أتخلى عن كل هذا الوعي لصالح فكرة انهزامية خطرت فجأة على بالي دون تمحيص.
ــ هاي وين رحت سيد ماركس؟
ــ عزيزي أبو رمزي. كانت جولة مراجعة خاطفة.
ــ هاي شغلة مو سهلة عليه.. آني ما عندي شي خاطف.. لو أخش بالسالفة طول بعرض لو أعوفه لغيري.
ــ ألم تنعس بعد؟
ــ إن نمت هسه لو بعد ساعتين لو باجر حتمًا راح أكَعد من النوم وألكَي نفسي بنفس المكان.. ويمكن أنام وبعد ما أكعد.. وكل هذا يك أحساب.
ــ أنا اشعر بالتعب والنعاس.
ــ أخذ راحتك.. بس قبل شويه قلت لي بانك غير راغب بالنوم.
ــ بت مقتنعًا بأن في العراق هناك ضرورة أن يخالف المرء نفسه في بعض الأوقات ليكون جزءً من الواقع. أعتقد إن المرء يحتاج أيضًا لبعض الأنانية وهذه ضرورية كي يخلو لنفسه ليكتشف خفاياها.
ــ حلو.. حلو أبن عمي هسة تمام.. هذا هو الصحيح.. كلمن عليه بنفسه مثل ما يكول الشاعر:
هالوكت شيخه وشبابه كلمن يهفي الكبابه
يشتغل كلمن الشخصه بشغل غيره ما يخصه
ينفصل عن الأحبة أولا تفيد وياه صحبه
ــ ولو أني لم أفتهم تماما ما عنيته بشعرك، ولكني لم أكن أقصد ما أنت تحدثت عنه، وربما أنا كنت سيئًا بالإفصاح عن ما أردت قوله.
ــ صاحبي، لتكوم تبيع بوزات وتتفلسف براسي بهذا الليل.. دور وجهك ونام وتصبح على ألف خير.. أوكي سيد ماركس أبن هنروش لو مو أوكي.
ــ أوكي ...تصبح على خير
مد ماركس جسده فوق الغطاء الصوفي لينهي الحديث مع أبو رمزي ويدخل في عالمه الخاص.
رغم النعاس الذي بدأ يراوده فقد ظهرت أمامه كومة من أحداث وأحاديث راح يلملمها ويبعثرها، متنقلاً هنا وهناك، فشعر بثقل كبير يضغط على رأسه. فرك فروة رأسه فشعر بشيء من رضا وهو يمرر راحة يده ويداعب الشعر الذي بدأ يظهر مثل دبابيس ولكن برؤس ناعمة رغم يباسها. فقد بدا له، ربما بعد فترة ليست بالطويلة ممكن له استعادة لحيته وشعره الجميل، اللذين كان يعتز بهما أيما اعتزاز. ولكنه عند هذه اللحظة شعر بضيق تنفسه وثقل في صدره وأحس بالخوف من رجوع المرض أليه، وبدء عودة علته من جديد، تلك العلة التي تجعله طريح الفراش لعدة أيام وتتطلب علاجًا مكثفًا.عسى أن يكون ظنه هذا خائبًا في مثل هذه الأوضاع السيئة. ففي مسيرته الطويلة تعرض لذلك مرات عديدة وواجه المرض بشجاعة ولكن لم يكن يتهيبه مثل هذه المرة، فهو يشعر الآن بعدم القدرة على المقاومة إن عاد له الربو المؤذي. تبسم ماركس ومسد شعر لحيته الخفيف محاولاً أبعاد ذهنه عن مثل هذا التفكير السيئ والمخيف.
ولكن ما كان يراود الآن بإلحاح، هو البحث أو محاولة تفسير وتوصيف سبب مجيئه إلى العراق ووضعه الآن في هذا المحبس الغريب ولسبب يبدو أكثر غرابة من المكان نفسه. ما الذي حدث وهل حقق الغرض الذي جاء من أجله، مهمة صعبة وعسيرة منذ بدايتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق