الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابنة المارد

أوري أفنيري

2005 / 12 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


أغنية ألمانية مشهورة تروي عن ابنة المارد، التي وجدت فلاحا يحرث حقله وأحضرته إلى بيتها بمنديلها لتريه لأبيها. إلا أن علامات الجدية ارتسمت على وجه والدها. "الفلاح ليس دمية!" قال لها، وأمرها بوضعه برفق في نفس المكان الذي وجدته فيه.

تذكرني الولايات المتحدة بابنة المارد هذه. ولكن، لمزيد الأسف، ليس لديها جدّ ليقول لها أن الشعوب والدول ليسوا دمى.



عندما اعتلى جورج بوش الابن السلطة، أحضر معه زمرة من المحافظين الجدد الذين آمنوا، بغرور يثير الاشمئزاز، أنه من الممكن قلب الدول رأسا على عقب، فرض أنظمة الحكم كما يحلو لهم وبسط سيطرتهم على مواردها.

في الجولة الأولى من اللعبة كان في نيتهم وضع العراق، سوريا وإيران داخل منديلهم. العراق وإيران بسبب مواردهما النفطية وسوريا بسبب موقعها الاستراتيجي. فيما عدا ذلك، وبالصدفة، اعتبرت حكومات إسرائيل هذه الدول الثلاث تهديدا استراتيجيا. المحافظون الجدد، ومعظمهم من اليهود، أبهجهم مد يد العون لإسرائيل أيضا.

كان السؤال المطروح هو أي مِن الدول الثلاث يفترض أن يتم احتلالها أولا، ووقع الاختيار، كما هو معلوم، على العراق. ولأن المحافظين الجدد كانوا على ثقة بأن الجيش الأميركي سيستَقبل هناك بالزهور (وكيف لا؟) وأن المعركة ستنتهي خلال أيام معدودة، فطُرح السؤال من هي الدولة التالية، الجارة من الشرق أم الجارة من الغرب؟

اليوم، وبعد وقوع الأمر، يمكن الاستغراب أي كان هو الأشد: جهل المحافظين الجدد أم غرورهم. لم تكن لديهم أية فكرة عن العراق، ويبدو أن هذا الأمر لم يقلقهم البتة. كانوا على يقين من أن ضربة واحدة تكفي لإنهاء العملية ومواصلة الطريق.

لو سألوا حلفاءهم البريطانيين، لكان بإمكانهم أن يتعلموا شيئا ما عن الدولة التي عقدوا العزم على مهاجمتها، على سبيل المثال، أن العراق لم تكن يوما دولة حقيقية. لقد تم تركيبها من قبل الإمبراطورية البريطانية بما يتلاءم مع ما تراه مناسبا، من ثلاث مناطق مختلفة جدا. وقد احتاجوا إلى الدكتاتورية دائما للسيطرة عليها: في البداية دكتاتورية البريطانيين أنفسهم، ومن ثم دكتاتورية الطغاة على مختلف أنواعهم. صدام حسين كان آخرهم فقط.

عند قيام الجيش الأمريكي بتحطيم القوة الرابطة، تفككت الحزمة. تدور اليوم رحى حربين متوازيتين في تلك البلاد البائسة: حرب السنة ضد الاحتلال الأمريكي، وحرب أهلية ثلاثية. يثرثرون في واشنطن عن الجيش العراقي الجديد، الذي سيتحمل، خلال وقت قصير، مسؤولية الأمن، وسيخلي طرف معظم القوى الأمريكية. غير أنه، عمليا، ليس هناك جيشا عراقيا، بل كتائب منفصلة من الأكراد، الشيعة والسنة، وكل منها تخدم زعماء طائفتها.

كان بود الأمريكيين إخراج أغلبية جيشهم من العراق وإبقاء غرفة عمليات مقلصة هناك، تضمن سيطرتهم على الموارد النفطية. سرعان ما تحوّل هذا التطلع إلى حلم. ستكون النهاية، على ما يبدو، كما كانت في فيتنام. لقد مل الرأي العام الأمريكي الحرب التي لا جدوى منها، وسينصرف الجيش وذيله بين رجليه. سيترك من خلفه خراب يباب.



أما بالنسبة للجارات،

لقد انتشر المحافظون الجدد في واشنطن إلى كل حدب وصوب، ولا حديث عن مغامرة عسكرية ضد إيران أو سوريا. العراق ترهق جيش الولايات المتحدة المؤلف من المرتزقة، وهناك نقص في الجنود. إذن ما العمل؟ يحاولون زعزعة الدولتين بأساليب أخرى، من خلال قلب مقولة كلاوسفيتش الشهيرة رأسا على عقب: "السياسية ما هي إلا استمرارا للحرب بوسائل أخرى".

تدور الآن معركة أمريكية حول العالم بهدف كسر النظام السوري بوسائل غير عسكرية. يقوم سكرتير الأمم المتحدة، الذي تحوّل منذ زمن بعيد إلى عميل أمريكي، بوظيفته في هذه المعركة، وكذلك الأمر أيضا بالنسبة لمعظم دول العالم، المتعلقة بكرم الولايات المتحدة. لذلك يتم استغلال اغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني السابق. لا يحضرني أن واشنطن قد تأثرت ذات مرة من اغتيال سياسي، حين كانت الضحية أسقفا رفيع المستوى في أمريكا أو شيخا مسلما في غزة. الاهتمام المفاجئ بمعاقبة قتلة الملياردير اللبناني، تثير المشاعر حقا.

إحدى الشريكات الأكثر نشاطا في الحملة لكسر سوريا هي حكومة إسرائيل. إنها تقدم يد العون بمئات الأساليب المختلفة. سوريا متهمة بأفعال حزب الله في لبنان، باحتضان "الإرهابيين" الفلسطينيين، وغيرها وغيرها. لقد اخترع رئيس شعبة الاستخبارات، الذي يطرح تقديرات في وسائل الإعلام تكاد تكون صبيانية، عدة مؤامرات سورية.

يبدو للوهلة الأولى أن هناك منطق في ذلك، فقد شطبت الولايات المتحدة من جدول أعمالها أمر احتلال الجولان. كوندوليسا رايس تعظ حول غزة والضفة الغربية ولكنها لا تنبس ببنت شفة فيما يتعلق بالجولان، الذي كان منطقة تقع تحت السيادة السورية. ضم المنطقة في الحرب يعتبر خرقا سافرا لوثيقة هيئة الأمم المتحدة. هذا الأمر لا يقض مضجع جورج وكوندي.

على الرغم من ذلك، أقترح على حكومة إسرائيل أن تعيد التفكير فيما إذا كنا معنيين بكسر الدولة السورية. إذا حدث ذلك فكيف سيكون الوضع على حدودنا الشمالية؟



أتذكر حديثا دار بيني وبين إسحاق رابين عام 1976، عند اجتياح السوريين للبنان. بدأ اليوم النسيان يطوي حقيقة كون المسيحيين بالذات هم الذين استدعوا سوريا، ليحاربوا قوات منظمة التحرير الفلسطينية والمسلمين.

عندما اقترب السوريون إلى الحدود الإسرائيلية، دب الرعب فينا. طالب وزير الدفاع آنذاك، شمعون بيرس ومساعدوه، رسم "خط أحمر" ومنع السوريين من الوصول إلى الحدود. كان رأي رئيس الحكومة إسحاق رابين مخالفا لرأيهم. وقال لي أنها حماقة تامة. لا توجد أية مشاكل في حدودنا مع سوريا، في هضبة الجولان. إذا استولى السوريون على حدود الجليل فسيسود الهدوء هناك.

لقد صدق رابين، بالطبع، وخسارة أنه قد انصاع لبيرس وللتاريخ الجماهيري. توقف الجيش السوري، وفي الفراغ الذي نشأ بينهم وبين إسرائيل، تواجدت أولا "فتح-لاند" ومن ثم مملكة حزب الله.

يمكن للأمر ذاته أن يحدث الآن على الحدود السورية، إذا انهار النظام هناك ونشأت فوضى عارمة.

سوريا هي دولة هشة. صحيح أنه لا يوجد فيها ثلاثة شعوب مختلفة، كما هي الحال في العراق، ولكن تسود فيها منافسة قديمة العهد بين دمشق وحلب، العرب والأكراد، والكثير من الطوائف الدينية. لقد رضي السوريون بدكتاتورية عائلة الأسد، لأنهم متخوّفون من انتشار الفوضى.

(الأسد هو ابن إحدى الطوائف الأصغر، وهي طائفة العلويين، أنصار علي بن أبي طالب، صهر النبي صلعم. هذا يذكرنا بالقصة التوراتية حول اختيار أول ملك لإسرائيل. تم اختيار شاؤول الملك لأنه "أَنَا بَنْيَامِينِيٌّ مِنْ أَصْغَرِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ، وَعَشِيرَتِي أَصْغَرُ كُلِّ عَشَائِرِ أَسْبَاطِ بَنْيَامِينَ" (صموئيل، 21:1). حين لا تستطيع الأسباط الكبيرة والقوية أن تتوصل إلى اتفاق بينها حول مرشح ما، فإنها تفضل ابن سبط صغير وضعيف لا يشكل خطرا عليها).

منذ 33 سنة لا نواجه أية مشاكل على الحدود السورية. من يمكنه أن يعرف ماذا سيحدث إذا سادت الفوضى في سوريا؟ صحيح أن هذه ليست مشكلة أمريكا، ولكنها مشكلتنا.



المشكلة الإيرانية مختلفة تماما.

الأمة الإيرانية متكتلة وقوية. من شأنها أن تنتج قنبلة نووية. يبدو ذلك كابوسا في أعين الكثيرين: دولة مسلمة متشددة، تكره إسرائيل، وبحوزتها سلاح دمار شامل.

أنا لا أتأثر بذلك كثيرا. الشعارات الإيرانية المعادية لإسرائيل متطرفة حقا، ولكن إيران تنجز صفقات تجارية مع إسرائيل بهدوء، وليس في فضيحة "إيران غيت" فقط. يتصرف آيات الله الطغاة عادة بذكاء حاد.

إذا أردنا منع وجود ميزان-الرعب النووي، فهناك طريقة واحدة فقط: الاستفادة من الوقت الذي نتمتع فيه باحتكار هذا المجال وصنع السلام - بداية مع الشعب الفلسطيني، ومن ثم مع كافة دول المنطقة. في مثل هذا الإطار من السلام يمكننا إقامة نظام لنزع السلاح النووي مصحوب برقابة متبادلة.

المشكلة هي أنه من غير الممكن النقاش حول هذا الموضوع الحيوي، طالما تكتنفه السرية لدينا. أقترح فتح الباب على مصراعيه ومواجهة هذه المشكلة بشكل علني. لقد حان الوقت لذلك.



أما بالنسبة لابنة المارد، فقد حان الوقت بأن يقول لها أحد ما: اتركي هذه المنطقة. إنهم ليسوا دمى!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست