الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين صورية الحدث وحقيقته - مقدمة لاشتقاق المفهوم الحقيقي للحدث.

علي عامر

2016 / 8 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بين صورية الحدث وحقيقته - مقدمة لاشتقاق المفهوم الحقيقي للحدث.


أولاً: علافة الفكر بالواقع:
1- تؤكد الماركسية من خلال كتابات ماركس وانجلس ولينين على وجه خاص, بالإضافة إلى آخرين ساروا على نفس الطريق, أنّ نمط حياة الناس هو ما يحدد وعيهم, وليس الوعي هو ما يحدد نمط الحياة, في نقد مادّي و جوهري لنظرية المعرفة المثالية, التي تدّعي العكس.
2- كما تنظر الماركسية العلمية للتاريخ كسلسلة متصلة ومتشابكة من الحقبات-الحلقات التاريخية التي يلد قديمها جديدها, من خلال تضخم التناقضات الداخلية في الحقبة القديمة, إلى حدودها القصوى, لتنفجر على شكل ثورة تطيح بالقديم, لينبعث الجديد من رماده, بعد أن يحتفظ بالضروري من القديم ويدفن منه كل ما هو غير ضروري, مؤكداً على الجانب الخاص المتميّز لكل حقبة على حدا, والذي ينبع أساساً من اختلاف شكل الملكية الخاصة لكل حقبة.
3- و بالضرورة, فإنّ لكل حقبة تاريخية مميّزة ومحددة وعي بشري ينعكس عنها, ويعبّر عنها في مؤسسات حقوقية ودينية وأخلاقية.
4- لذا فالثقافة والدين والحقوق والأخلاق والفنون ثم الفكر والفلسفة, ليست إلّا انعكاساً للطبيعة الاقتصادية لحقبة تاريخية ما, التي تعمل كبنية تحتية تشكل أساساً ومحدداً لتلك العناصر المكوّنة للبنية الفوقية.
5- فمستوى تطوّر علاقات الانتاج هو المحدد الأساسي لمستوى تطوّر الوعي البشري بأشكاله.
6- ولكن ما هي طبيعة العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية؟ هل هي مجرد علاقة بين سبب يُنتِج, ونتيجة تُنتًج؟ هل الفكر النظري و التنظير السياسي هو مجرد سلوك عدمي محكوم بسطوة الواقع الموضوعي؟ ألا يشكل هذا دعوة للتسليم للظروف والإقرار بها والخضوع لها؟ ألا يعني هذا إعدام ضرورة النضال والكفاح من أجل واقع أفضل؟ في إجابة هذه الأسئلة التي أساءت فهم الماركسية, وحاولت من خلال الانتقائية في التعامل معها, خلق ثغرات وهمية ينفذ النقد من خلالها, سأورد فقرة لإنجلس, على درجة عالية من الضرورة و الأهمية, فهي أساس متين لفهم جدلية الظرف و الوعي, أو البناء التحتي و البناء الفوقي, وفيها على صغر حجمها ردّاً وافياً على تلك الأباطيل.
7- يقول انجلس في رسالته إلى يوسف بلوخ: "إنّ الوضع الاقتصادي إنّما هو البناء التحتي, ولكن مختلف عناصر البناء الفوقي تؤثر هي أيضاً في مجرى النضال التاريخي, وتحدد على الأغلب شكله في كثير من الأحيان, ونقصد بهذه العناصر: أشكال النضال الطبقي السياسية ونتائجه- النظام السياسي الذي تقيمه الطبقة الظافرة بعد كسب المعركة, وما إلى ذلك, والأشكال الحقوقية و حتى انعكاس جميع هذه المعارك الفعليّة في عقول المشتركين فيها, و النظريات السياسية و الحقوقية و الفلسفية, و الآراء الدينية وتطورها اللاحق وصيرورتها نحو نظام من العقائد, وجميع هذه العناصر تتفاعل, وفي هذا التفاعل تشق الحركة الاقتصادية لنفسها في آخر المطاف, بوصفها حركة ضرورية, طريقاً عبر كثرة لا عد لها من الصدف (أي من الأشياء والأحداث التي صلتها الداخلية بعيدة أو عسيرة البرهان إلى حد أنّه يمكننا إهمالها واعتبارها غير موجودة)."
8- هنا بؤكد إنجلس على الأفكار التالية:
• الوضع الاقتصادي هو البناء التحتي, هو الأساس الصلب.
• ولكن عناصر البناء الفوقي, ليست مجرد نتيجة سلبية للبناء التحتي, تكتفي بكونها نتيجة فحسب, لا, وإنّما تمارس هذه العناصر دورها في التفاعل والتأثير المتفاعل مع البناء التحتي على مجرى الأحداث.
• عنصر الحسم, نتيجة التفاعل, لن يكون إلّا من خلال الحركة الاقتصادية, أي أنّ نتيجة التفاعل بين البنية التحتية الأساس وبنيتها الفوقية سيكون باتخاذ شكل الحركة الاقتصادية, ليعود الأساس ليمتلك زمام الأمور, أي يعود الأساس لأساسيته الصريحة والواضحة.
• يكون الحسم النهائي على شكل حركة اقتصادية, أي تغيّر في نمط الانتاج و وضع الملكية الخاصة, ولكن لن يكون هذا الحسم إلّا من خلال التفاعل مع كامل البناء الفوقي تأثراً و تأثيراً, وبالتالي فإنّ شكل الحسم الاقتصادي, قد احتوى في داخله كل التفاعل بين البنية الفوقية والبنية التحتيّة, فالحسم ليس بحركة أو تطوّر اقتصادي مجرد, بل في حركة اقتصادية غنية بكل مكتسبات التفاعل بينها وبين السياسة والعلم والفن والفكر والفلسفة. أي أنّ تفاعل كل مكونات الحقبة التاريخية يكتسي لبوس الحركة الاقتصادية في نهاية المطاف.

ثانياً: مقولة التفاعل ضد مقولة السبب والنتيجة
1- نظرة انجلس الجدلية للعلاقة التفاعلية بين البناء التحتي والبناء الفوقي, الرافضة للفكرة الميكانيكيّة الخطيّة في إدراك هذه العلاقة, تجد أساسها المنطقي والفلسفي في منهج هيجل العظيم, حيث وبعد أن يصل هيجل في منهجه لمقولة السبب والنتيجة الخطيّة (مقولة السببية التقليديّة), يقوم بنقدها جدلياً, ليستنبط منها مقولة التفاعل.
2- ففي ترجمة إمام عبد الفتاح إمام, للمنهج الجدلي عند هيجل, وتحت عنوان (السبب والنتيجة), نجد:
"الجوهر إذنْ عبارة عن علاقة ذاتية, وبالتالي فهو يسلب نفسه ويتجلّى في العَرَض, أي أنّ الجوهر يُخرج العَرَض من ذاته, ولكن ما يخرجه الجوهر ليس إلّا نتيجة لسلب نفسه, ولذلك فهو قوّة سالبة أو هو قوّة نشطة, إنّه جوهر نشط أو فعّال. ومن ناحية أخرى فإنّ ما يقدمه لنا الجوهر ليس إلّا ذاته, أعني أنّه هو نفسه جوهر. ومن هنا كان العَرَض جوهراً هو الآخر, وبذلك يكون لدينا تصوراً لجوهر نشط فعّال يخرج من جوفه جوهراً آخر نتصوره على أنّه: متقبل لهذه القوّة."
3- "تلك هي العلاقة بين السبب والنتيجة, فالجوهر الفاعل هو السبب والجوهر المتقبل هو النتيجة, والعلاقة بينهما هي العلاقة بين الجوهر الفاعل والجوهر المنفعل."
4- ثم يقدم هيجل نقداً جدلياً لمقولة السببية فيقول تحت عنوان (التفاعل):"تعتمد مقولة السببية على التمييز بين الجوهر الفاعل والجوهر المنفعل, إلّا أنّ هذا التمييز لا يمكن أنْ يستمر, ذلك لأنّ ما هو منفعل هو كذلك فاعل, لأنّه جوهر هو الآخر, وبذلك ينهار التمييز بين السبب والنتيجة و يصبح كلّاً منهما سبباً ونتيجة في آن واحد, فالجوهر (أ) – مثلاً – باعتباره فاعلاً يؤثر في الجوهر (ب) باعتباره منفعلاً... ولكن (ب) باعتباره فاعلاً يؤثر كذلك في (أ) وذلك هو التفاعل, أو الفعل ورد الفعل."
5- يؤكد المنهج الهيجلي هنا, على الأفكار المترابطة التالية:
• الجوهر ينتج العَرَض, من هنا فالجوهر سبب, والعَرَض نتيجة.
• الجوهر ينتج العَرَض, وبالتالي فهو جوهر نشط وفعّال ومنتج.
• لكن العَرَض ليس إلّا نتيجة لسلب الجوهر النشط لذاته, أي أنّ العَرَض يخرج من صلب الجوهر, ومن هنا فالعَرَض يحمل صفات الجوهر النشط والفعّال.
• فالنتيجة التي ظهرت على شكل عَرَض, تحمل صفات السبب الجوهرية, لذا تنشط وتفعل في التأثير على الجوهر الأساس, فتمسي النتيجة سبباً في نفس اللحظة, ويكون السبب نتيجة في نفس اللحظة.
• فإذا كانت البنية التحتية الاقتصادية هي السبب, فالبنية الفوقية هي النتيجة, ولكن هذه النتيجة حسب ما شرح انجلس أعلاه, ليست نتيجة سلبية جامدة, بل نتيجة نشطة فعالة تعيد التأثير في السبب الذي هو ليس إلّا البنية التحتية. ومن هنا نجد مدى الدقة والتطابق بين منهج هيجل كأساس, وتطبيقات الماركسية المختلفة له كنتيجة.
6- يقول إنجلس عن هذا, في رسالته إلى كونراد شميدت: "لا شيء ينقص جميع هؤلاء السادة كما ينقصهم (الديالكتيك). فهم دائماً يرون السبب هنا والنتيجة هناك. إنهم لا يرون أنّ هذا تجريد فارغ, وأنّ هذه المتناقضات الميتافيزية لا توجد في العالم الفعلي إلّا في زمن الأزمات وأنّ السير العظيم للتطور يجري كلّه بشكل تفاعل (رغم أنّ القوى المتفاعلة على درجة كبيرة من التفاوت , وأنّ الحركة الاقتصادية بينها هي الأقوى, والأولية, والحاسمة), وأنّه لا وجود هنا لأي شيء مطلق, وإنّ كل شي نسبي, و بنظرهم, لم يكن (هيغل) موجوداً".

ثالثاً: مقولة التفاعل في العلاقة بين الرأسمال الانتاجي والرأسمال الصوري
1- ما هو الرأسمال الصوري؟
• يجيب الرفيق حاتم بشر على هذا السؤال في مقال له من جزأين عن الرأسمال الصوري, نشر في جريدة صوت الشعب, اقتبس منه ما يلي:
"أطلق ماركس تسمية الرأسمال الصوري على الرأسمال الذي يتكون نتيجة للقروض والذي يظهر في صورة الأوراق المالية (كالأسهم والكمبيالات والسندات وقوائم البنك العقاري..الخ) والذي لا يتمتع بقيمة ذاتية، وإّنما هو فقط يخوّل حق الحصول على دخل ثابت في صورة فوائد وعائدات. وهو ليس مجرد جزء من الرأسمال القرضي، بل هو كيان اقتصادي جديد تتعارض قوانين حركته في كثير من الملامح مع قوانين حركة الرأسمال القرضي."
2- ما هو جوهر العلاقة بين الرأسمال الصوري والرأسمال الانتاجي-الفعلي؟
• يجيب حاتم بشر: "
• "إلّا أنّه في نهاية الأمر يقع نشاط الرأسمال الفعلي في أساس حركة الرأسمال الصوري".
• قصد حاتم أنّ الرأسمال الفعلي هو الأساس للرأسمال الصوري.
3- ما هي طبيعة هذه العلاقة وحدودها؟
• هنا اقتبس فقرة لاسماعيل حسين زادة, قمت بترجمتها, بعنوان: "ماركس عن الفقاعات المالية, نظرات أكثر تبصراً من الاقتصاديين المعاصرين" نشرت في الحوار المتمدن, يقول فيها إجابةً عن طبيعة العلاقة بين الرأسمال الصوري والرأسمال الفعلي:
• "الإجابة التي قدمها ماركس, اعتمدت على مرحلة تطوّر الرأسمالية,
ففي المراحل المبكرة من تطوّر الرأسمالية, قبل صعود المصارف الكبيرة ونظام الائتمان الحديث, كان نمو الرأسمال المالي ينتظم ويتحدد بنمو الرأسمال الصناعي. فبغياب المصارف الاحتكارية الكبيرة ونظام الائتمان الحديث, كان نمط الائتمان السائد يتألف من الائتمان التجاري. وفي نظام الائتمان التجاري, يقوم أحد الأشخاص بإقراض المال لشخص آخر في خضمّ عملية إعادة الانتاج, (مثل, إقراض تاجر الجملة لتاجر التجزئة, أو إقراض تاجر التجزئة للزبون), فإنّ الرأسمال المالي لن ينحرف كثيراً عن الرأسمال الصناعي: "عندما نتفحص هذا الائتمان المنزوع من الائتمان المصرفي, سيبدو جلياً لنا أنّه ينمو مع زيادة في حجم الرأسمال الصناعي نفسه. حيث يتطابق الرأسمال الإقراضي والرأسمال الصناعي في هذه الحالة."
ولكن في مراحل الرأسمالية الأعلى, حيث تقوم المصارف بالجمع والتركيز والتحكم بالمدخرات القومية, فإنّ الرأسمال المالي يتوقف عن الحركة المرادفة لنمو الرأسمال الصناعي. في مثل هذه الظروف, "بات من الممكن تكوين الربح من خلال الاتجار بطائفة من المستحقات المالية الموجودة على الورق فقط... في الحقيقة, بات من الممكن تكوين الربح, باستخدام الرأسمال المقترض فقط, للدخول في مضاربة غير مدعومة بأي نوع من أنواع الأصول الملموسة". انتهى الاقتباس.
• بمعنى أنه بتقدم الرأسمالية وتطورها, تزداد الفجوة بين الرأسمال المالي والرأسمال الفعلي, ويزداد الاستقلال النسبي للأول عن الأخير.
4- ولكن ما هي خصائص المرحلة التي نعيش, ما هو مستوى تطور الرأسمالية الآن, وبالتالي ما هي طبيعة العلاقة بين الرأسمال الفعلي و الرأسمال الصوري الآنْ؟
• يقول حسين اسماعيل زاده, في مقال بعنوان -عصر الرأسمال المالي, وعدم علاقة التيار الاقتصادي السائد- في ترجمة أنجزها كاتب هذا المقال:" إحدى الخصائص المميزة لعصر الرأسمال المالي, هي تحرر الرأسمال المالي في هذه المرحلة من القيود التنظيمية, وبهذا لم يمتلك القدرة على النمو المستقل عن الرأسمال الانتاجي فحسب, بل في بعض الأحيان, ينمو حقاً باستقلال عن الرأسمال المالي."
• فكرة اسماعيل حسين زادة, تجد أساسها النظري في كتابات ماركس و انجلز, ففي رسالته إلى كونراد شميدت يقول إنجلس:
• "ما إن تنفصل تجارة النقود عن تجارة البضائع حتى تكتسب – في ظروف معينة يحددها الانتاج وتجارة البضائع, وضمن هذه الحدود- تطوراً خاصاً بها, و حتى تغدو لها قوانين خاصة وأطوار خاصة تحددها طبيعتها الخاصة...عندما تتسع تجارة النقود, فضلاً عن ذلك, خلال تطورها, حتى تشمل تجارة الأوراق المالية – مع العلم أنّ هذه الأوراق المالية لا تتألف من سندات الدولة فقط , بل تتألف أيضاً من أسهم مؤسسات الصناعة والنقليات, فإنّ تجارة النقود تظهر بالتالي بالسيادة المباشرة على قسم من الانتاج الذي يسود عموماً واجمالاً عليها – عند ذاك يصبح التأثير المقابل لتجارة النقود على الانتاج أقوى وأعقد".
• ما ورد أعلاه, يحدد المرحلة الحالية من الرأسمالية, بمرحلة سيادة الرأسمال المالي, ولكنه يؤكد أيضاً على النقاط التالية:
أ‌. الرأسمال الانتاجي هو الأساس للرأسمال المالي.
ب‌. الرأسمال المالي اكتسب عبر سنين تطور الرأسمالية استقلالية نسبية.
ت‌. الرأسمال المالي ليس مجرد منتَج سلبي للرأسمال الانتاجي, وإنما تخضع العلاقة بينهما لقانون التفاعل, فبالرغم من الاستقلالية النسبية للرأسمال المالي, إلّا أنّه وفي حدود معينة يؤثر ويتأثر بالرأسمال الانتاجي.
5- من المهم التأكيد على أن طبيعة العلاقة بين الرأسمال الفعلي والرأسمال المالي, تجعل من الأوّل مغموراً غير ظاهراً كجذر النبات, ومن الأخير ظاهراً وبارزاً ومخيماً كفروع الشجر الوارفة.
رابعاً: الوعي البرجوازي في إدراك سيادة الرأسمال المالي
1- ملاحظة مبدأية: لا يُقصد بالوعي البرجوازي وعي الطبقة البرجوازية فقط , بل وعي الطبقة البرجوازية الذي يتسرب ويسيطر على كافة مكونات المجتمع و طبقاته, من حيث موقعها كطبقة سائدة ومسيطرة.
2- يقول إنجلس في رسالة إلى كونراد شميدت: "تظهر أمامك السوق العالمية في انعكاسها بوصفها سوقاً للنقود وسوقاً للأوراق الماليّة...إنّ حال الانعكاسات الاقتصاديّة والسياسية وغيرها من الانعكاسات يشبه تماماً حال الانعكاسات في العين البشرية. فهي تجري عبر عدسة جامعة ولهذا تبدو بشكل مقلوب , رأساً على عقب. إلّا أنّه لا وجود للجهاز العصبي الذي يوقفها من جديد على عقبها أمام أبصارنا. إنّ رجل البورصة لا يرى حركة الصناعة والسوق العالمية, إلّا في الانعكاس المقلوب رأساً على عقب لسوق النقود وسوق الأوراق الماليّة, ولهذا تغدو النتيجة سبباً بالنسبة له".
3- يقول إنجلس, أنّه و كلما زاد استقلال الرأسمال المالي عن الرأسمال الانتاجي, ظهرت العلاقة بينهما للمشاهد, أولاً مقلوبة الأساس, ليبدو الرأسمال المالي أساساً للرأسمال الانتاجي, -ونضيف على ما قاله انجلس- ثانياً مستقلّة تماماً, ليبدو الرأسمال المالي وهماً للمشاهد باعتباره مستقلاً تماماً عن الرأسمال الانتاجي, ومسيطراً تماماً عليه, أي يُنظر إليه كأساس مطلق, أو كسبب مطلق, وثالثاً, ولأن الأساس مغمور, أي الرأسمال الانتاجي الفعلي مغمور, كجذر النبات, وغير ظاهر على السطح, فإنّه وبالنسبة للوعي العادي لا يظهر له أي أثر.
4- هكذا تظهر العلاقة بينهما في الوعي البرجوازي, المنعكس أكاديمياً وعلمياً وبشكل أساسي في تيّار الليبرالية والليبرالية الجديدة وتيّار الكينزية. كما وضّح اسماعيل حسين زاده في المقال الذي ترجمته عنه (الفقاعات المالية...) فإنّ هذه التيارات السائدة يسقط عنها دراسة الجذر أو السبب الحقيقي لكن المغمور لمشكلة الأزمات المالية, وتعزوها لأسباب تقنية وإدارية محض. فتراه يقول:" تذهب النظرية الماركسية عن عدم الاستقرار المالي (و الأزمة الاقتصادية بالعموم) إلى أعمق من مجرد اتهام (السلوك غير العقلاني للوكلاء الاقتصاديين) ببساطة, كما يفعل الاقتصاديون النيوليبراليون, أو إتهام (التنظيمات الحكومية غير الكافيّة), كما يفعل الاقتصاديون الكينزيون. فهي تذهب في مقابل ذلك, إلى التركيز على الديناميّات الداخلية للنظام الرأسمالي, التي تسوس سلوك وكلاء السوق وسياسات الحكومات. فهي على سبيل المثال, تستعرض الانهيار المالي عام 2008, كمُخْرَج منطقي لتراكم الرأسمال المالي الصوري الزائد عن الحد, نسبةً للمجموع الكلّي لفائض القيمة الناتج عن العمل في خضمّ عملية الإنتاج." انتهى الاقتباس.
5- وكما ورد في الباب الأوّل عن علاقة الفكر بالواقع, أنّ الوعي أو البنية الفوقية ليسا إلّا انعكاساً عن الواقع, وإذا كان واقع العلاقة بين الرأسمال الانتاجي والمالي سيظهر للمختصين والأكاديميين بتلك الصورة المبتورة والمشوهة, المذكورة في النقطة الثالثة, فإنّه بالنسبة للانسان العادي. سيتسرب بعمق في ذهنه, الذي ودون أنْ يشعر, ونتيجة لتوسّع استقلال المالي والصوري عن الانتاجي والفعلي, وتضخم الأول على حساب الأخير, سيبدأ بإدراك الوهم كواقع, والواقع كوهم, ويجعل من الوهمي والافتراضي أساساً للواقع, وسيعطي للواقعي قيمة أقل, لذا وبتطبيق المبدأ الماركسي, فزيادة استقلال المالي والصوري في البنية التحتية, وتضخمه, سيعكس نفسه في الاديولوجيا الشعبية العامة, في تضخم وسيطرة الوهمي والصوري على الواقعي والفعلي, ومن هنا منبع كل هذا الميل نحو العوالم الافتراضية التكنولوجية, في مقابل العزوف عن أشكال الاتصال الاجتماعي الواقعي الفعلي.
6- لذا وبتكثيف, فكلما زادت سطوة الصوري والمالي والبورصة على حساب الانتاجي والفعلي والصناعي, سينعكس ذلك, في زيادة الافتراضي والصوري والوهمي على حساب الواقعي والفعلي والمادي في وعي البشر وحياتهم اليوميّة.

خامساً: ما هي إديولوجيا إدراك الحدث في عصر الرأسمال المالي
1- بناءاً على ما تقدّم, فإنّ الوعي الناشئ في عصر سطوة الرأسمال المالي, والمنعكس عن طبيعته, والذي سنسميه الوعي الصوري Fictitious Consciousness, سيدرك الحدث بطريقة مقلوبة أولاً, ومطلقة ثانياً, وسيغيب عنه دراسة جذر الحدث المغمور نسبةً للوعي الصوري ثالثاً.
2- إنّ الإدراك المقلوب للظواهر الطبيعية, هو من طبيعة العقل العادي, غير العلمي, نسترجع هنا مثال انجلس عن تجمع الصورة المقلوبة في العين أمّا الإدراك المقلوب للظواهر الأكثر تعقيداُ, مثل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية المتقدمة والمعقدة, فهو فخ يقع فيه بالاضافة للانسان العادي اليومي, مجمل الأكاديميين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والانثروبولوجيا, فالاقتصاديين المعاصريين مثلاً, لا ينظروا لعجز الإدارة والتخطيط في معالجة الأزمات الجوهرية في الرأسمالية كنتيجة لهذه الأزمات بل كسبب, كما يعتقد علماء الاجتماع أنّ الجريمة مصدرها تمرّد الفرد وانحرافه أخلاقه, فيطرحوا الحل من خلال معالجة الفرد نفسه بالسجن أو الغرامة, ولا يدركوا أن تمرّد الفرد وانحرافه هو عَرَض من أعراض بنية مجتمع مأزومة. وبنفس المنطق سيتم إدراك الحدث السياسي أو الاجتماعي كسبب في حد ذاته لا كنتيجة, لعلاقات معقدة ومغمورة تستتر تاريخياً خلف الحدث وتحته.
3- أمّا إدراك الحدث كسبب مطلق, منعزل عن سياقه, معلّق في السماء, فنعزوه لطبيعة السطح الحالي من انتاج الحياة البشرية اليومية, حيث تظهر البورصة والأسواق المالية, كحاكم مطلق يتربع على عرش مملكة (سطح) الواقع, وفي المقابل, تنغمر وتستتر أشكال الانتاج العينية والفعلية, وتتجذر مختفية في تربة الواقع الخصبة, لذا فالاديولوجيا العامة والتي عادة ما يسقط عنها إدراك الأسباب المحركة والدوافع الكامنة, وكانعكاس لطبيعة (سطح) الواقع, ستدرك الوهم أو الافتراض أو العَرَض ادراكاً ميتافيزيّاً مطلقاً, منزوعاً من سياقه التاريخي, ومبتوراً عن جذوره المادية, وبنفس منطق هذه الإديولوجيا, سيبدو الحدث كقوة مطلقة انبثقت من العدم, تعلّقت في السماء, وبسطت سطوتها على سطح الواقع.
4- ومن هنا, تبقى الاديولوجيا الصورية, أسيرة للمُنتَجات على حساب المنتِجات, أسيرة للأعراض على حساب الجواهر والمسببات, أسيرة للنتيجة على حساب شبكة العلاقات المعقدة, أسيرة للبورصة وسوق المال على حساب الانتاج الفعلي والصناعة, أسيرة للوهم والافتراض على حساب الواقع والعياني.
5- لذا يقول إنجلس عن هذا الوعي الصوري في إدراكه للنضال: ""ينعكس النضال بين الطبقات الموجودة والمتناضلة على النضال بين الحكومة والمعارضة, وينعكس ذلك بشكل مشوّه: لا مباشرة بل بصورة غير مباشرة, لا كنضال بين الطبقات, بل كنضال في سبيل المبادئ السياسية, وينعكس بشكل مشوّه إلى حد أنّه مرّت آلاف السنين قبل أن يتضح لنا كنه المسألة." حيث ينفصل النضال السياسي عن أسبابه الاقتصادية الطبقية الحقيقية الكامنة والمستترة والمغمورة تحته.

سادساً: مقدمة لإدراك حقيقة الحدث
1- يستطرد انجلس في رسالته إلى ويسف بلوخ ليقول: "يصنع التاريخ بنحو تحصل معه النتيجة النهائية دائماً من تصادم كثرة من الإرادات الفردية , مع العلم أنّ كلّاً من هذه الارادات تصبح ما هي عليه بالفعل, وذلك بفضل طائفة من الأحوال الحياتية الخاصة...وهكذا يوجد عدد لا يحصى من القوى المتشابكة, مجموعة لا نهاية لها من متوازيات أضلاع القوى, ومن هذا التشابك تنجم قوّة محصّلة واحدة هي الحدث التاريخي. و هذه النتيجة يمكن أيضاً اعتبارها نتاج قوّة واحدة تفعل فعلها ككل واحد, بلا وعي ولا إرادة."
2- لا يمكن وعي الحدث, وعياً حقيقياً كاملاً, بمعزل عن استعراض المنهج الجدلي كاملاً, وبالأخص مقولات السبب والنتيجة, و الجوهر والعَرَض, والتفاعل.
3- فالحدث هو نتيجة لأسباب تاريخية متراكمة ومعقدة.
4- يظهر الحدث وحسب مبدأ التراكم الكمي والتغير الكيفي, عند نقطة معينة من تراكم التفاعلات التاريخية قبله, والتي تصل إلى النقطة الحديّة, التي تنقلب عندها الظاهرة من كيف إلى كيف آخر, فانقلاب تركيا الأخير كان حدثاً دموياً, تفجّر وعبّر عن أربعة عشر عاماً من الصراع الأبيض أو الحرب الباردة بين أقطاب البرجوازية التركية, فتراكم تفاعلات وديناميات تلك الحرب الأهلية البرجوازية الباردة, وصل لنقطة الذروة, أو النقطة الحدية, التي انقلبت عندها تلك الحرب من كيف الحرب الباردة وغير الدموية, إلى كيف آخر, هو انقلاب دموي مسلح وعنيف.
5- الحدث نتيجة, ولكنه ليس نتيجة سلبية, بل نتيجة فاعلة وناشطة, تكتسب استقلالاً نسبياً عن شبكة الواقع المعقدة, وتمارس فعلها وتأثير على الواقع.
6- فهذا الحدث الذي نتج عن شبكة معقدة وتاريخية من التفاعلات النشطة والحيوية, لا بد أن يكتسب صفاتها النشطة والفعالة, وكما العّرّض بالنسبة للجوهر عند هيجل, فالحدث أيضاً ليس مجرد عَرَض, بل عَرَض يحمل صفات الجوهر, وهو نتيجة تخمل صفات السبب.
7- ومن خلال هذه المحاولة للتقديم لمفهوم الحدث, نؤكد أنه من المستحيل إدراك حقيقة الحدث في حد ذاته, لأنه وبمعزل عن سياقه لا يملك أية حقيقة.
8- وفي عصر الرأسمال الصوري, وتطوّر التكنولوجيا الصورية المرافقة, يكتسب النضال النظري الجدّي عقبات جمة وتحديات صعبة, لأن الماركسي حين سيقدم تحليلاً تاريخياً كاملاً لحدث أو ظاهرة ما, لن يواجه الأحكام المسبقة والآراء الاعتباطية فقط, بل سيناضل ضد بنية عقل بشري غارقة بكاملها في عالم الافتراض والوهم, و سيحاول ايقاظها من حلمها المضلل, ووضع أقدامها على أرض النضال اليومي الحقيقي. فنحن لا ندعو لتصحيح العقل البشري الحالي, بل نبشر بولادة عقل جديد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما التصريحات الجديدة في إسرائيل على الانفجارات في إيران؟


.. رد إسرائيلي على الهجوم الإيراني.. لحفظ ماء الوجه فقط؟




.. ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت فيه إسرائيل


.. بوتين يتحدى الناتو فوق سقف العالم | #وثائقيات_سكاي




.. بلينكن يؤكد أن الولايات المتحدة لم تشارك في أي عملية هجومية