الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزعامة الكارزمية ( الملهمة):

عقيل الناصري

2016 / 8 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


- "... الكاريزما ( charisma) (مصطلح) مستمد اصلاً من العهد الجديد في النص اليوناني الذي يعني ( عطية النعمة الألهية)، أدخله عالم الاجتماع ماكس فيبر (1864- 1920) ليعني الصفة الخارقة التي يمتلكها بعض الأشخاص فتكون لهم قوة سحرية على الجماهير. وقد ميز فيبر بين كاريزما الفرد التي تنشأ من صفات طبيعية عنده، وكاريزما المنصب المستمدة من الطبيعة المقدسة للمركز... 1". وقد ترجم هذا المصطلح الموسوعي التراثي هادي العلوي ب ( الصمدانية).
ومن الجدير بالذكر غالباً ما يشعر قائد اي مجموعة من الناس وبالاخص ذوي الكاريزمية، بتضخم الذات مع الاختلاف بالنسب، فالقيادة بحد ذاتها .. هي قمة عالية يكون تنفس الهواء عندها مختلف ورؤيا المهام الجمعية المستقبلية، ستكون ليس كما يراها يتصورها أو يراها القابعون في وادي الطاعة والتنفيذ. كما أن (الأنا) العالية التي تميز هؤلاء القادة ستكبر أيضاً مع كبر المهام والمسؤولية التي أخذوا على عاتقها تطبيقها بالتلائم مع الضرورة الاجتماعية.
يقول بليخانوف عن القادة "... القادرون على التأثير في مصير المجتمع بفضل السمات المحددة في طبيعتهم. كما ان تأثيرهم بالغ في بعض الاحيان. لكن امكانية ممارسته ومداه يتحددان بفعل التنظيم الاجتماعي وحالة القوى. فليس خلق الفرد (مثلا) عاملاً في التطور الاجتماعي إلا حين تسمح به العلاقات الاجتماعية وحيث تسمح به وبقدر ما تسمح به... وبالتالي فالتنظيم الاجتماعي للبلد هو الذي يقرر في أية مرحلة معينة دور الأفراد الموهوبين أو العاجزين وبالتالي ما يتصفون به من أهمية تاريخية ... 2 ". وعليه فالقادة يمارسون تأثيراً كبيراً في مصير المجتمع رغم بقائه مرهونا بالنية الاجتماعية وبعلاقاتها الداخلية والخارجية. و صحيح جداً أن الجماهير الشعبية هي صانعة التاريخ، لكن هذا لا يقلل من مكانة القائد في صيرورة الصنع هذه. طالما أن فكرة الضرورة التاريخية لا تقلل البتة من دور الفرد بالتاريخ. إذن هناك علاقة جدلية بين الطرفين.. وبخاصة إذا كان القادة ملمين بالظرف السائد ومتفهمين لماهيات توجهها
"... والملاحظ إن الإلهام خضع لعدة تفسيرات هي:
الأول - بعض السيسيولوجين رأى أنه اصطلاح ديني قاصر على ذوي الالهام السماوي ولا ينسحب على الزعماء السياسيين بأي حال من الأحوال فلا يمكن معاملة مارتن لوثر كأدولوف هتلر.
الثاني- يؤكد على أن مصدر الزعامة الملهمة هي المزايا الشخصية الخارقة للعادة لدى بعض الأفراد المتفوقين الذين يقومن باعمال عظيمة تقرب في بعض الأحيان من مرتبة المعجزاتولذلك فإن الجماهير تخضع لهم وتسير وفقا لمشيئتهم.
الثالث- الإلهام في الزعامة لا يتعلق بماهية الزعيم ذاته، وإنما برؤية الأفراد الذين يخضعون لزعامته، اي اتباعه ومريديه. إن هذا التفسير كان قد وضع الزعامة الملهمة في إطارها الاجتماعي والسياسي، وقد تبناه (ماكس فيبر). فالزعامة الملهمة في نظره لا يمكن فصلها عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمع في زمن ومكان معينين... 3 ".
كانت الزعامة الاجتماعية، كما أعتقد، ذات البعد الكاريزمي ولا تزال إلى حدٍ بعيد، تستند في أغلب جوانبها في المجتمعات الشرقية النامية ومنها العراق، على العلاقات الأبوية (البطريكية) ذات المضمون الاخلاقي والمتضمنة لمنظومة قيمية ومعيارية تمت بصلة للعصور السالفة والمتوائمة مع درجة التطور في قوى الانتاج الاجتماعي وماهية النظام الاجتماعي وتتلائم مع الموروث الثقافي/السيسيولوجي والماهية السيكولوجية/الاجتماعية الملائمة وطبيعة وقوة المؤسسات السياسية التي تتناسب عكسيا مع الزعامة الملهمة فضعف الأولى يقوى الثانية والعكس صحيح.. كذلك عمق حضور مؤسسات المجتمع المدني ودرجة استقلاليتها عن الدولة، وجغرافية المكان واهميتها الاستراتيجية. ولهذا يربطون بين الزعامة والابوية أي بين السياسة والاخلاق، فمرة يسحبون الاخلاق إلى السياسية، اي يبجلون القائد باعتباره أب الجميع، وثانيةً يسحبون السياسة إلى الاخلاق من خلال إلزامية الطاعة إلى القائد/ الأب.. وهذا ما نراه في مختلف مراحل النظام السياسي العراقي، الملكي منها أو الجمهوري.
وتستمد الزعامة ابعادها ومقوماتها من جملة مصادر أهمها:
- الشخصية ومقوماتها ومواهبها ؛
- الملكية والثروة ؛
- التنظيم الرسمي والارسمي.
وتظهر هذه المصادر بصورة متداخلة بعضها بالبعض الآخر وفي الغالب متحدة بشكل دائم بخاصة في المجتمعات المتبلورة طبقياً. فالشخصية ومقومات الزعامة تتعزز أكثر فأكثر بالثروة والملكية والمقدرة المالية الداعمة والعكس بالعكس، إذ كانتا تاريخياً، متلازمتين معا منذ ظهور الملكية الخاصة وبالتالي الانقسام الطبقي. وإن "... وجدناهما مختلفتين من حيث طبيعة الأولى عن الثانية، فالثروة وتملكها مرتبطة بالجانب الاقتصادي، بينما السلطة هي الوجه السياسي للعملة، وهي لا تنفك تخدمها وتوظف كل وسائل الدهاء والحيلة والخبث والقمع والعنف من أجل ابقاء أصحاب الثروة ونفوذهم الخفي والمعلن. وكما يقال دوماً إن من يملك الثروة يمتلك السلطة... 4".
والشيء ذاته ينطبق على السلطة المستمدة مقوماتها من التنظيم الاجتماعي (أحزاب سياسية، مؤسسة رسمية ولارسمية، منظمات مجتمع مدني) وفعاليته، بغض النظر عن شكل تواجده وتطوره وسعة انتشاره وشكله الاجتماعي ودرجة حداثته وديمومته. "... ففي المجموعات الجيدة التنظيم يستخدم القائد صيغاً من التعامل مع مرؤوسيه كالمشورة والرجاءوفي بعض الآحيان ستخدم الارشاد والوعظ، وفي احيان نادرة جداً يستخدم الايعاز والأمر، ولا يكاد يلجأ مطلقاً إلى الاقناع. وتقوم هيبة مثل هؤلاء القادة على الصفات الشخصية والعملية، وعلى سعة المعرفة والتجربة، وفي احيان نادرة جداً على اسناد ودعم من الادارة... 5"... علماً ان الصفات الشخصية للقادة تُقرر الصفات الفردية للأحداث التاريخية، ولكن لابد من تحقيق شرطين كي يكسب الرجل الموهوب نفوذا كبيرا على مجرى الاحداث وهما:
" أولا : يجب أن تجعله هذه الموهبة أفضل ملاءمة من أي امرئ آخر للحاجات الاجتماعية لعصر معين، فلو كان نابليون يملك موهبة بتهوفن الموسيقية بدلاً من عبقريته العسكرية الخاصة ، لما اصبح بالطبع أمبراطورا.
ثانياً : يجب ألا يسد النظام الاجتماعي القائم، الطريق أمام شخص يملك الموهبة الضرورية والنافعة في ذلك الزمن المعين... 6".
ومن زاوية علم النفس الاجتماعي، يقترح عالم النفس الاجتماعي الروسي بوريس باريغين "... تصنيف الزعامة حسب ثلاثة معالم هي: مضمون ؛ وأسلوب ؛ وطابع نشاط الزعيم:
- فمن حيث مضمون النشاط يمكننا الحديث عن زعماء ملهمين وزعماء منفذين وزعماء يلهمون ويبرمجون وينظمون تجسيد أفكارهم في واقع الحياة.
- ومن حيث أسلوب القيادة نجد: ديمقراطيين ودكتاتوريين - اوتوقراطيين ومن يجمع في ذاته الأسلوبين.
- أما من حيث طابع النشاط فقد يكون هناك زعماء متعددو الأغراض وآخرون (موقفيون). الأولون يبرزون على الدوام كزعماء، بينما يحتاج الآخرون لأجل ذلك إلى موقف خاص... 7 ".
ومن ناحية ثانية علينا التأكيد على الناحية المعرفية للكرازمية ببعدها الفلسفي مرتبطة بنظرتنا إلى الإنسان، حيث أنه"... لا يصبح ذاتاً إلا في التاريخ والمجتمع.. ولهذا السبب فهو ليس فرداً مجرداً، إنما هو موجود اجتماعي، كل قدراته وإمكانياته تشكل الممارسة ... الواعية والعضوية الفعالة... ومع ذلك فإن الإنسان بإعتباره القوة الايجابية في التفاعل بين الذات والموضوع، يعتمد على الموضوع في نشاطه. لأن الموضوع يضع حدود معينة لحرية الذات في الحركة... ونشاط الذات مشروط موضوعياً- ايضا- بحاجاته وبمستوى الإنتاج. والإنسان في إعتماده على هذا، وأيضاً على مستوى المعرفة بالقوانين الموضوعية - يحدد لنفسه أهدافاً واعية، يطرأ نتيجة لبلوغه إياه تغير على الموضوع والذات على السواء. ومع تطور المجتمع تلعب العوامل الذاتية دوراً يزداد كبراً بإطراد... 8 ".
وعليه فالفرد ليس ( أنا) معزولة .. لكنها مشروطة بشروط مادية واجتماعية.. ومن هنا فالقادة المحوريون "... قادرون على التأثير في مصير المجتمع بفضل بعض السمات المحددة في طبيعتهم. كما أن تأثيرهم بالغ في بعض الآحيان . لكن امكانية ممارسته ومداه يتحددان بفعل التنظيم الاجتماعي وحالة القوى. فليس خلق الفرد (مثلاً) عاملاً في التطور الاجتماعي ، إلا حين تسمح به العلاقات الاجتماعية وحيث تسمح به وبقدر ما تسمح به... غير أن الفرد لا يستطيع أن يبرهن على مواهبه إلا حين يشغل مركزاً مناسباً في المجتمع . وبالتالي فالتنظيم الاجتماعي للبلد هو الذي يقرر في أية مرحلة معينة دور الأفراد الموهوبين أو العاجزين وبالتالي ما يتصفون به من أهمية تاريخية... 9".
وفي الوقت نفسه علينا أن لا ننتقص من دور الجماهير الشعبية في التاريخ ونفصلها عن أهمية دورها في صنع التاريخ.. بمعنى أن عظماء التاريخ يستندون في حراكهم على الجماهير الشعبية فمن يكون يوليس قيصر لولا الفيلقيون المحاربون معه؟ ومن يكون جنكيز خان لولا جمهرة عساكره ونابليون وجنوده.. اي لا يجوز اعتبار الشخصية المحورية، مهما بلغت مرتبتها التأثيرية، بديلا للمجتمع. لأن الجماهير لعبت "... في التاريخ دائماً دورا مهما، ولكنها لم تلعب هذا الدور بنفس حجم الأهمية الذي تلعبه اليوم. فالعمل اللا واعي للجماهير يمثل ( بعد أن يحل محل الفعالية الواعية للأفراد) أحد خصائص العصر الحالي... إن دخول الطبقات الشعبية في الحياة السياسية وتحولها التدريجي إلى طبقات قائدة، يمثل أحد الخصائص الأكثر بروزاً لعصرنا، عصر التحول ... 10" السريع في كل المجالات.
بمعنى آخر ان هنالك علاقة جدلية بين القائد / الجماهير.. فالقائد هو نتاج التفاعل بين عوامل الوراثة والبيئة، لأن الفرد ينشأ في مجتمع معين ويكتسب منه مقومات شخصيته.. كما أن الجماهير قد لعبت "... في التاريخ دوراً مهماً، ولكنها لم تلعب هذا الدور بنفس حجم الأهمية الذي تلعبه اليوم. فالعمل اللا واعي للجماهير يمثل ( بعد أن يحل محل الفعالية الواعية للافراد) أحد الخصائص العصر الحالي...إن دخول الطبقات الشعبية في الحياة السياسية وتحولها التدريجي إلى طبقات قائدة، يمثل أحد الخصائص الأكثر بروزاً لعصرنا، عصر التحول... 11 ".
إن الاعتراف بأهمية دور الفرد في التارؤخ توجب التحذير من الوقوع في المبالغلة وبالتالي تقديس الفرد بصورة عمياء والوقوع في فخ عبادة الفرد، حيث ينسب لها قدرات خارقة تتيح لها الانفراد في صنع التاريخ وتحديد مساراته حسب مشيئتها، وبالتالي التقليل من دور الجماهير الشعبية المنتجة كصانعة للتاريخ.كما يجب عدم الخلط بين هذه الموضوعة وبين نفوذ القادة، لأن أية عملية تاريخية تحتاج منفِّذين عمليين لذات العملية التي أناطت بهم الضرورة الاجتماعية القيام بها. طالما أن "... التأريخ ليس ظاهرة جمالية ، بل واقع ثقيل ومؤذ، لأنه لا يقف دون التمادي على الغايات المنتظرة منه أو الرغبات المسقطة عليه التي تحاول إنهاء القصة قبل الآوان... 12".
كما دللت الوقائع التاريخية المستقاة من تجارب مختلف الشعوب وعلى امتداد تاريخها، أن هناك نوعين من الزعماء :
- منهم من يمثلون القوى الاجتماعية ويعبرون عن مطامحها ؛
- ومنهم من يساعدون في خلق هذه القوى الاجتماعية ويهيئون مستلزمات تطورها.
و يستنبط من هذين النموذجين أن القائد (العظيم) هو من كان نتاجاً للعملية التاريخية ومساعداً في بلورة تحقيقها الادي في الوقت ذاته. وهو الذي يستطيع أن يعبر عن { إرادة عصره في كلمات ويدل على عصره على إرادته وينيرها ، أن ما يفعله هو قلب وروح عصره، أنه يحقق عصره} . ولهذا لا يظهر الزعماء في التأريخ عفوياً، بل على طبق الضرورة التاريخية ذاتها عندما تنضج الظروف الموضوعية والذاتية في مراحل الانعطاف والحقبات المهمة

الهوامش
- د. عبد الفتاح إمام، الطاغية .ط.3، هامش ص.103،مكتبة مدبولي،القاهرة 1994.
2- جورجي بليخانوف.المؤلفات الفلسفية، ترجمة فؤاد ايوب،ج.2،ص.308،دار دمشق،دمشق 1982..
3 - د. صادق أسود، الزعامة الملهمة في العالم الثالث مجلة مركز الدراسات الفلسطينية ، العدد3، المجلد الثاني، حزيران 1973. مستل من ليث الزبيدي، ثورة 14 تموز، ص. 333، مصدر سابق.
4 - بدر عبد الملك ، بروتوس ما زال حياً، ص. 24، كتاب المدى رقم 2، دار المدى ، دمشق 2001.
5- ياكوف كولومينسكي، الفرد والآخرون، ت. موفق الدليمي،77،دار التقدم ، موسكو 1990.
6- جورج بليخانوف، ج. 2، ص. 313، مصدر سابق.
7- مستل من ياكوف كولومينسكي، الفرد، ص. 76، مصدر سابق.
8- الموسوعة الفلسفية ، بإشراف روزنتال وبودين، ص. 216، مصدر سابق
9- جورج بليخانوف، دور الفرد في التاريخ، ت. فؤاد أيوب، المؤلفات، ج.2، ص. 319، دار دمشق، دمشق 1982
10- غوستاف لوبون، سيكولوجيا الجماهير، ت. هاشم صالح، ص. 41، ط. 3،الساقي، بيروت - لندن، 2011
11 - المصدر السابق، ص. 41.
12 - كامل شياع، عن التأريخ والتأويل، ص.31، مصدر سابق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد كيف تحولت رحلة فلسطينيين لشمال غزة إلى كابوس


.. قتلوها وهي نائمة.. غضب في العراق بعد مقتل التيكتوكر -فيروز أ




.. دخول أول دفعة من المساعدات الإنسانية إلى خانيونس جنوبي قطاع


.. على وقع التصعيد مع إسرائيل .. طهران تراجع عقيدتها النووية |#




.. هل تتخلى حركة حماس عن سلاحها والتبعية لطهران وتلتحق بمعسكر ا