الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مداخلة فكرية في قراءة النص وتوثيقه, فوق النخل نموذجا

هيثم الحلي الحسيني

2016 / 8 / 2
الادب والفن


مداخلة فكرية في قراءة النص وتوثيقه, فوق النخل نموذجا

يعرف التراث بأنه الموروث الحضاري, في جوانب الفنون والأداب والعلوم, ولكل من هذه المفردات, مساحة في تعبير التراث, كالتراث العلمي, أو التراث الأدبي , أو التراث الفني, وبما يعبر عنه إجمالا بفردة "الثقافة", بمفهومها المعمق الواسع, الذي يشمل مخرجات النتاج الفكري والإبداعي للشعوب, وليس ما درج في التعبير عن مخزونات معارف الشخص ومدركاته, وهنالك أيضا مفهوم التراث الشعبي, وهو الموروث في العادات والتقاليد والأعراف, فضلا عن مهارات الحرف والمهن للشعوب.
وعادة يقارب النص, ضمن منهج الحفر في القراءة المعمقة للنصوص, بأن تجري ملاحقة النص بأدوات التفسير والتحليل والفهم, وليس العكس, وأن يكون المنطق والدلالة وتوخي الغاية, هي الوسائل الرصينة, التي توصل الى التنقيب الصائب, والإظهار الصحيح للنص, بما يكشف عن أصل حقيقته, من خلال رفع غبار اللبس والطمر, الذي قد تراكم في قشرة النص, بينما جوهره يبق كامنا, ويعود الى سابق عهده, حال رفع الترسبات, التي تغطيه وتطمره.
وعليه فإن القراءة الحفرية الدقيقة والرصينة, للنص الذي بين يدينا, بهدف تبيان الأصل في المقصد من عبارة "فوق النخل", ضمن لفظ حرف القاف, بلهجة أهل العراق, هو ما يقاربه الخيار الأمثل, في الرواية التأملية, التي يطلق الشاعر فيها لعنان خياله, بأن يخاطب حبيبته, بعد أن تراءى له شعاع القمر, من خلال رفيف سعف النخيل, وتمايله الرشيق الراقص, وكأن صورتها ماثلة أمامه.
وهو ديدن الشاعر العربي العاشق, على مر العصور الأدبية, فليس من مثال أن وقف شاعر يغازل حبيبته في حضورها, أو يخاطبها وجها لوجه, فذلك خارج تقاليد الحياء, في جنبة تربية الإنسان العربي, بل أن جل ما كتب في ديوان الشعر العربي الوجداني الموروث, هو من نسج خيال الشاعر, وقد يكون مرد خياله, الى نظرة خاطفة, أو سماع متصور, يرسم الشاعر من خلاله, صورة لجمال حبيبته.
وهكذا تخيل الشاعر العربي, صورة حبيبته لامعة بين السيوف المهندة, القاطرة من دمه:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وسيف الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق وجهك المتبسم
فمن هذا القياس التشبيهي, لا يستبعد أن يجول خيال الشاعر, في رؤية صورة حبيبته, لامعة بين شعاع القمر, فوق أشجار النخيل الباسقة, وبين تمايل سعفها, فخاطبها وتغزل بجمالها, وتغنى بفتنتها, ومدى حبه وعشقه لها, حتى شبّه تلك الصورة, بأنه لم يعد يميز جمال وجهها, عن وجه القمر.
وقد يكون هذا التشبيه الجميل, الذي سار على ألسن الناس, بعد شياع الأغنية في مهدها الأول, هو الذي انسحب مثالا بينهم في العراق, لوصف رفيع الشأن بأنه "فوق النخل", والتي لازالت متداولة على ألسن العراقيين, الى يومنا, مع ما تحمله شجرة النخيل, من رمزية وتقدير وإعتبار, عند الإنسان العراقي خاصة, والعربي عموما, حتى نعتها النص المقدس, بالشجرة المباركة.
وبالمناسبة فإن العاشق العربي, إعتاد على تشبيه جمال وجه حبيبته بوجه القمر, خاصة في ليلة كماله, وذلك قد يكون مختصا بأدب الغزل العربي, ومرده الطبيعة العربية, المنبسطة مع إمتداد الأفق, والليالي العربية الصافية, والتي يتجلى فيها جمال القمر ووهجه الأخاذ.
في حين أن الكثير من الشعوب الأخرى, كنموذج الشعب الروسي, تشبّه جمال الحبيب بوجه الشمس, ربما لندرة خروجها في أجوائهم, والتي لا تكون محرقة كما هي في النهارات العربية, بل تملأ الأرض عند شروقها جمالا يطول إنتظاره, وهكذا فالشعوب تقتبس من الطبيعة التي حولها, أدوات للوصف والتشبيه الأدبي والفني والجمالي.
والحال أن لا أساس منطقي, في نسبة هذه الصورة الشاعرية, ذات المدلولات الوجدانية, والتشبيه الجمالي الساحر, الى رواية العاشق المخاطب حبيبته, وهي في الطابق العلوي, وكأن له خلّ "بكسر الخاء" هناك, بدعوى إستحالة الصورة التشبيهية الأخرى, في حين أن جميع من أدّى النص, من العراقيين وأشقائهم, فضلا عن السماع الموروث له, كان بفتح الخاء, وهو النطق العراقي العربي السليم, لمفردة النخل بصيغة الجمع, وقد تسبب ذلك التصوير الخاطئ, بنسبة هذا العمل الفني التراثي الرائع, الى غير أهله, كما هو الكثير من جواهر الفن العراقي, من الموروث الضائع.
إن ما يؤسف له, هو ندرة البحث المنهجي, في التراث الفني العراقي, وقلة المشتغلين في مجالاته, خاصة بعد أن غيب الرحيل, الباحث الفني المبدع والرصين, المرحوم الأستاذ عادل الهاشمي, وكأن الساحة قد خلت من المهتمين في هذا المجال الأدبي الحيوي.
ويضاف الى هذه الجزئية, النقص الكبير في ثقافة التوثيق والحفظ, والذي بسبب إغفاله, ضيعت الكثير من النفائس الفنية, أو حكمنا على مبديعيها بالضياع والنسيان, دون أن نفِهِم حقوقهم, لما قدموه للخزين والموروث الفني العراقي, بينما لا نجد ذلك في الشقيقة مصر مثلا, فالتوثيق لديهم مسألة غاية في الأهمية, تتولاها سائر هيئات الثقافة والفنون والإبداع, وبراعية الدولة والمتخصصين فيها.
بل تكتفي الهيئات العراقية المقابلة, بعبارة "من التراث", عند إظهار الأغنية أو العمل الفني, في وسائل الإعلام المرئية, أو هي تصورها دون توثيق أسماء مبدعي العمل, وكأن هذه الأعمال قد جرى كتابتها وتلحينها من قبل أشباح, أو هي جميعها كيتيمة الدهر, مع أن الكثير منها, لا يزال مؤلفوها وكتابها, أو بالأقل أبناؤهم أو تلامذتهم المباشرون, على قيد الحياة.
دهيثم الحلي الحسيني








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا