الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلسم الرّوح

ضيا اسكندر

2016 / 8 / 7
كتابات ساخرة


لكلّ امرئٍ نقطة ضعف أو أكثر تؤثر سلباً على حياته وتفكيره وقراراته وسلوكه.. فأنا مثلاً، نقطة ضعفي الرئيسة هي الموسيقى؛ فعندما أسمع أغنية أحبها، أعيش حالة من الابتهاج والطرب أُصبح خلالها كالثمل تماماً، أستسهل كل شيء، تنتفي لديّ كل أشكال الحيطة والحذر، أندفع دون تبصّر لما سيؤول إليه اندفاعي. فقد أنهض وأرقص، وقد أجهش بالبكاء، وقد أمزّق ثيابي وأشوّح بها مردّداً مع الأغنية، وقد أضمُّ وأقبّل من هو بقربي حتى دون أن أعرفه. وقد أرمي بنفسي من علٍ طالباً الموت كأكثر رجلٍ فرحٍ في هذه الدنيا.
نعم للموسيقى سحر ما زال متواصلاً في تحيير الخبراء والعلماء حتى الآن. ولا يمكن تخيّل الحياة بلا موسيقى. فهي تتعدّى حدود معظم أشكال اللذة والمتعة. فهل يمكننا التخلّي عن خرير المياه في الأنهار، وحفيف أوراق الأشجار، وعن أصوات العصافير، وحتى عن نقيق الضفادع وزئير الأسود؟

ذات مساء كنت أسمع مقطعاً من أغنية (الآهات) لأم كلثوم التي أحبها جداً تقول فيها:

دا الأنس كان إنت والانسجام إنت
والزهر كان إنت والابتسام إنت
ما احسب شي دا كله في يوم يضيع منّي
واجري ورا ظله اللي ابتعد عني
ما تقول لي فين إنت ما تقول لي فين إنت

لدى وصول أم كلثوم إلى الكلمات الأخيرة من المقطع السابق، كنت قد وصلتُ معها إلى قمة الطرب وسَرَتْ في عروقي نشوة سعيدة، وأحسستُ بأنه عليّ تفريغ ما اكتنز في داخلي من مشاعر الحب لإنسانٍ يستحقها، فلم أجد سوى زوجتي الجالسة على الصوفة تقوم بطيّ الملابس التي سحبتها لتوّها عن حبل الغسيل. اقتربت منها فاتحاً ذراعي مردّداً مع أم كلثوم بصوتٍ شجيٍّ: (ما تقول لى فين انت.. ما تقول لى فين انت) وانكببتُ في حضنها دافناً رأسي بين ثدييها ومددتُ يدي اللهفى المرتعشة وأمسكتُ بيدها مستحضراً ذكرى أول قبلة من شفتيها قطفتها بعد طول انتظار، وقد سرحتُ بعالمٍ يغمره الصفاء والصمت النبيل وتكاسل الحرير.. حالماً بالأماسي السعيدة التي جمعتنا وقلت لها وأنا مغمض العينين:
«حبيبتي، أقسم لك بأني سأرفض مستقبلاً جميع الحوريات – طبعاً بشكل مهذّب حتى لا أجرح مشاعرهنّ – عندما أنتقل إلى الملكوت الأعلى، وسأطلب منه فقط زوجتي حبيبة عمري لا غير..»
ردّت بابتسام: «على أساس أنك ضامن الفوز بالجنة؟ ولك يا رجل كل هذا الكفر والبعد عن التعاليم الدينية، وما زلت تحلم بالجنة؟!»
رفعت رأسي محتجّاً وقلت لها باعتزاز: «صحيح أنني لا أصلّي ولا أصوم ولا أنوي زيارة مكّة لأداء فريضة الحجّ لا في هذا الموسم ولا في قادمات الأيام.. لكنني وبشهادة كل من يعرفني، وأوّلهم حضرتك. بأنني أتّبع منظومة القيم والأخلاق التي حضّت عليها أغلب الديانات.. وإذا كان ثمّة جنّة في السماء، فإنني سوف أكون من أوّل الداخلين إليها يا عزيزتي. وهناك لن أطلب من الله لا خمر ولا لبن ولا ظلال ولا غلمان ولا من يضحكون.. فقط سأطلب منه أن تكوني بقربي وأن يسمعني يومياً أجمل المقطوعات الموسيقية التي أبدعها البشر في مسيرتهم الطويلة.. والتي للأسف حرّمها في الدنيا ولا وجود لها في الآخرة. ولم أجد مبرراً واحداً لذلك!»
نهضت زوجتي عن الصوفة حاملةً معها الثياب المطوية وقبل أن تتوجّه لإكمال مهمتها علّقت قائلةً: «أنتم السياسيون شاطرون بتبرير أفعالكم مهما غلظت شناعتها. وأضافت مفنّدةً: طالما أنك تؤمن بتعاليم الدين لماذا لا تؤمن بممارسة شعائره؟»
وحيث أن نقاشنا حول هذه المواضيع أخذ في السابق حيزاً كبيراً من حياتنا المشتركة وعلى مدار سنوات طويلة، لم نصل خلالها إلى أيّ توافق أو اتفاق. وظلّ كلٌّ منا ثابتاً على موقفه، فقد آثرتُ الانسحاب لعدم الجدوى.
أحضرتُ العود وطفقتُ أغني مقطعاً من رباعيات الخيّام لأمّ كلثوم كجوابٍ نهائيٍّ لحديثنا:

يا من يحارُ الفهمُ في قدرتك ... وتطلبُ النفسُ حمى طاعتك
أسكرني الإثم ولكنني ... صحوتُ بالآمال في رحمتك
إن لم أكن أخلصت في طاعتك ... فإنني أطمع في رحمتك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا