الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوّاه.. يا حماتي!

ضيا اسكندر

2016 / 8 / 12
كتابات ساخرة


بالرغم من أننا نسكن في مدينة واحدة، إلاّ أني لم أسمع بوفاة والدة صديقي إلا بعد رحيلها بشهر كامل. ويبدو أن الحرب الضروس التي تشهدها سورية جعلتنا نتابع في المقام الأول الأحداث السياسية والعسكرية وتلقّي أنباء المجازر والشهداء والمعتقلين والمخطوفين.. ولا تعنينا باقي أنواع الوفيّات.
المهم توجّهت إلى بيت صديقي بعد اتصالي الهاتفي الاعتذاري على تقصيري، واعداً بالاستفاضة بتوضيح الأسباب والظروف التي أدّت إلى تأخّري في تقديم التعازي.
لدى استقباله لي لاحظتُ أن مشاعر الحزن قد تبخّرت لديه تماماً. فقد كان هاشّاً باشّاً مرحّباً بزيارتي بعد طول غياب. وقد حضّر لي نفس أركيلة احتفاءً بي. وكنت قد هيّأتُ نفسي لديباجة اعتذارية طويلة عريضة، إلاّ أنه وفّر عليّ ذلك بالقول: «إنها عجوز وصلت إلى أرذل مراحل العمر ورحيلها كان رحمة لها». وبدأ يمطرني بأسئلته عن أحوالي بالتفصيل. وبينما كنا في غمرة حديثنا دخلت زوجته علينا مسربلةً بالسواد. فقد لوت عنقها عل كتفها ووضعت يداً فوق يد على بطنها بانكسارٍ مهيب. وألقت تحيتها وقد تلبّستها مظاهر الحزن الشديد وكأن مأساة كونيّة قدّ وقعت على أمّة محمد. هببتُ واقفاً وتصنّعتُ التجهّم احتراماً لحالة الحداد وقدّمتُ لها أحرّ عبارات التعزية لفقدان حماتها. فما كان منها إلاّ وأجهشت بالبكاء وبدأت تمخّط مستخدمةً عدة أوراق من علبة محارم متوضّعة على الطاولة إلى جانبنا. وفرشت بعبارات متلاحقة جردة حساب عن مآسيها بسبب رحيل حماتها. وختمت تأبينها بالقول وهي تهأهئ باكيةً: «كما تعلم فقد كانت المرحومة تسكن معها وقد تعوّدنا على وجودها بيننا، تصوّر! ها قد مضى على غيابها أكثر من شهر، ومع ذلك ما زلتُ كل يوم أُعِدُّ ثلاث كاسات متّة كعادتي كل صباح؛ أحسب حسابها وحسابي وحساب زوجي.. يا إلهي، لا أستطيع التخيّل بأنّي لن أراها بعد الآن!»
وهنا تدخّل زوجها مخفّفاً عنها: «يا ستّي كلنا على هذه الطريق.» وألقى نظرة نحوي غامزاً بمكر: «بعدين خلّنا نكون صريحين يا مدام، المرحومة كانت تسبّب لك بعض الإزعاجات و..»
قاطعته زوجته على الفور مدافعةً: «الله يرحمها، صحيح أنها لم تكن سهلة؛ فهي تتدخّل بالشاردة والواردة، بالذي يعنيها وما لا يعنيها. وكانت نقّاقة الله يسهّل لها.. بس والله فراقها صعب يا جماعة!»
ردّ عليها زوجها بعد أن سحب نفساً من أركيلته: «ما اختلفنا، بس أيضاً كانت مصدر كدر لك من جرّاء نزقها وقلّة سمعها وطلباتها الكثيرة..»
انسجمت زوجته معه مؤيّدةً بالقول: «أي والله كانت الله يرحمها طلباتها كثيرة – متجهةً بنظرها صوبي – الله وكيلك يا أستاذ طالما هي يقظة لا تغلق فمها؛ تارةً تحكي لوحدها، وتارةً معنا، وتارةً مع الأولاد.. عندما تنام، يكون عندنا عيد حقيقي. نغتبط، تنشرح صدورنا. ولكن سرعان ما تستيقظ، فالختيار لا ينام ساعات طويلة. وغالباً ما تفيق عند الفجر وتذهب إلى المطبخ، بعدين ما شاء الله ضرسها طيب وأكول. وكثيراً ما نهرع من نومنا على صوت انكسار صحن أو فنجان أو كأس.. يعني تستطيع القول بأن دزّينة الصحون بالكاد تكفينا شهراً. والغلاء فاحش كما تعلم. يا ويلاه! المهمّ الله ييسّر لها، راحت.»
وهنا اضطررت إلى التدخّل مازحاً طالما أن الجوّ يفتقر إلى الحدّ الأدنى من Zأ‎bD9اهر الحزن، فسألتها وبركان من الضحك يدمدم في صدري: «عزيزتي، لاحظتُ من خلال gçفH1دك بأنها كانت مزعجة للغاية الله يرحمها! لم تذكري خصلة حميدة واحدة في سيرتها!»
أجابت بلهجة مؤنّبة بعد أن قطّبت حاجبيها: «لكنه الموت يا أستاذ! وهل هناك أصعب منه في هذه الدنيا؟! صحيح هي حماتي، لكنها بمثابة أمّي الله يرحمها. اسأله – وأشارت بيدها إلى زوجها – بالرغم من كل ما ذكرت، ألم أقترح عليه بيع البرّاد عندما مرضت أمه ولم يكن معنا أجرة معالجتها؟! وأنت تعلم أهمّية البرّاد في البيت وخاصةً إذا كانت ربّته موظفة. لا أعتقد أن ثمة امرأة تقبل بذلك. اسأله، ألم أطلب منه بيع موبايلي من أجل الإنفاق عليها الله يسمح لها؟! حتى أنني طلبتُ منه أن يسحب قرضاً من بنك التسليف الشعبي لمعالجة أمه الهإ يرحمها ويسكنها فسيح جناته.. هاي عيني من عينه، اسأله!»
وهنا تدخّل الزوج ولم يعد قادراً على مسايرتها وسيماء إدراكه لنفاقها بادية تماماً على محيّاه من خلال نظراته المتنقّلة وتصعير خدّه وتحريك أحد حاجبيه وزرّ عينيه حيث قال: «صرعتينا يا تيريزا خانم بإنسانيتك – ونظر صوبي – يا عمّي البرّاد الذي تتحدّث عنه الخانم قديم لا يثلّج، وهي تريد استبداله ببرّاد يبرّد على الهواء. وكذلك الأمر «موبايلها» فهو موديل أكل الزمان عليه وشرب، وتريد استبداله بموبايل حديث (تاتش) يعني يعمل على اللمس.. والقرض الذي تتحدّث عنه، الله وكيلك من أجل شراء كل ما ذكرت.. بقى فهمت سرّ لهفة حرمنا المصون على حماتها؟!»








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في


.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة




.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد