الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر و صندوق النقد... اللعبة و البدائل...

اكرم هواس

2016 / 8 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


تدور هذه الأيام مناقشات كثيرة في الأوساط الثقافية و السياسية المصرية حول قرض جديد لمصر من صندوق النقد الدولي ... و مصدر القلق العام هو التجربة القاسية لمصر و لدول كثير في العالم الثالث مع قضايا القروض و الشروط التي تزيد من حالة العجز في المجتمع اكثر بكثير مما تخلق من دوافع بآليات التنمية و التغيير..

بعض هذه المناقشات اتسم بالخطاب السياسي التقليدي المحلي الذي لا أعطي لنفسي الحق في التدخل بشأنها... ما يهمني هو النقاش العلمي و لعلها احد مظاهره هو مقال للدكتور جودة عبد الخالق وزير التموين السابق الذي احتوى على نقاط عديدة مهمة ... لكني اود التركيز على النقطة السادسة المتعلقة بالفساد و مكافحته .... لأَنِّي اعتقد ان قضية الفساد قد خرجت من كونها قضية محلية/وطنية و اصبحت آلية عولمية في إدارة الهيمنة على المستوى العالمي...

و حتى نخلق تصوراً أوضح للميكانيزمات المتداخلة في هذه العملية المعقدة فلعلنا نبدأ ببعض البديهيات الأولية ... و أولها ... هي ان مجرد التفكير بطلب قرض معناه العجز عن مجاراة و الاستجابة لمتطلبات التنمية على المستوى المحلي/الوطني... لكن هذا العجز قد يكون بنيوياً يتعلق بالأساسيات و قد يكون عجزاً "كماليا" يتعلق بطموحات التوسع .... و الاشكالية في هذه القضية هي محاولة الهروب من العجز البنيوي عن طريق خلق تصور او واقع افتراضي عن عجز كمالي و الكلام عن مشاريع ضخمة ... و الفارق هو دخول مؤسسات التمويل الدولية في ترسيخ هذه الصورة و خلق آمال غير قابلة للتحقيق مما يؤدي الى التضخم في حجم العجز البنيوي و بالتالي المزيد من التأزم و الاحباط في المجتمع..

ثانياً... ان المجتمع المصري.... حاله حاله اغلب مجتمعات العالم الثالث... يعاني من عجز بنيوي متراكم في فترة ما بعد الاستعمار المباشر... و بعيدا عن بعض سنوات حكم الرئيس عبد الناصر التي تم تحقيق نوع من التوازن و الحراك الاجتماعي الاقتصادي... الا ان الحروب المتعددة و الانفجار السكاني الهائل اضافت مؤثرات كثيرة الى التراكم التاريخي بفعل قرون من الاستعمار و نهب الثروات و استنزاف القوى الفاعلة ... و لعل تجارب الانفتاح و الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية في عهد الرئيسين السادات و مبارك قد فاقمت كثيرا من العجز البنيوي و أدى الى اتساعه و تمدده ليشمل قطاعات واسعة في النخب المختلفة و في بيروقراطية الدولة.....و لعل اخطر اضافة في الحالة كانت النمو المضطرد في آليات الفساد و انتشار ثقافته... بحيث ان الفساد اصبح الحد الفاصل بين القدرة على الفعل و الاستسلام للعجز... و لعل من اخر مظاهر الفساد هد التداخل بين السياسي و الاقتصادي بحيث تحولت النخبة السياسية الى تجار ... و تحولت الطموحات الوطنية الى منافع و أرباح شخصية... و تحولت الرؤى المجتمعية الى متطلبات أفراد العائلة و مقتنياتها المادية...

ثالثا...التطور في الفكر الرأسمالي و التجدد في تفعيل آليات التبعية و التدخل .... يبدو ان آلية إدارة الفساد (عادة يطلق عليها محاربة او مكافحة الفساد في الادبيات العربية)... و الادارة تعني هنا كيفية التعامل و بهذه الصفة فان الادارة قد تعني المحاربة و لكن قد تعني التوظيف... و في الفترة الاخيرة ظهرت بوادر في أوساط الهيمنة العولمية تؤشر الى توظيف مشكلة الفساد للتدخل في شؤون المجتمعات في العالم الثالث بشكل ارق و اكثر سلاسة بحيث يبدو و كأنه مجرد مساعدة إنسانية ..!!..

هذه الآلية الجديدة لا تختلف كثيراً عن الآليات السابقة التي ظهرت في فترة ما بعد الاستعمار المباشر و منها مشاريع التنمية و نشر الديمقراطية و التدخل الإنساني و ادارة الأزمات الداخلية و الصراعات الإقليمية و غيرها... آلية إدارة الفساد تحتوي على مجموعة عوامل متداخلة منها دعم بعض النخب لخلق بؤر الفساد و من ثم ترسيخها عن طريق ربطها بشبكات عالمية للعولمة الاقتصادية و الثقافية... ثم وضعها تحت الضوء لخلق تناقض بين سلطتها و التراكم المالي لديها قياساً مع الواقع المزري للطبقات الاجتماعية الفقيرة و اخيراً طرح أفكار و برامج اقتصادية لتأهيلها و تحولها الى قوة اقتصادية للرأسمالية المحلية/الوطنية المنتجة.... و لعل القروض تعتبر واحدة من تلك البرامج التي تحتوي على وصاية سياسية و ادارية داخل البنية السياسية و الاقتصادية المحلية/ الوطنية....

و لعل طلب العراق في الأسابيع القليلة الماضية مساعدة الامم المتحدة في مكافحة الفساد الداخلي مثال واضح في مأسسة آلية إدارة الفساد... كما ان ما جرى في البرازيل و الذي قد يجري في فنزويلا و بلدان اخرى لاحقا تعتبر ايضا مؤشرات مهمة في هذا الاتجاه... و في هذا الاطار ايضا يمكننا قراءة ملف مجلة الإيكونومست الأخير و الذي اعتبره العديد من المثقفين و السياسيين المصرين دليلاً على مؤامرة على مصر ... بينما في الواقع يمكننا ايضا ان نفهمه نوعا من الانذار المجاني للقوى الفاعلة على الساحة المصرية للتحرك في اتجاه إيجاد بديل وطني لإدارة الفساد بدلاً من تسليمه الى مؤسسات العولمة المالية و منها صندوق النقد الدولي...

رابعا... ان الأحداث التي صاحبت و تلت ثورة يناير 2011 قد خلطت كثيرا من الأوراق و خلقت آمال بالتخلص من تركة الفساد الاداري الذي نما و تطور في عهد الرئيسين السادات و مبارك منا ذكرنا أعلاه .... و عندما حدث التغيير السياسي (تحالف المؤسسة العسكرية و الشعب) في نهاية يوليو 2013 ... انتشر تفاؤل كبير في الأوساط الشعبية و لدى النخب الثقافية و العديد من قوى الراسمالية المحلية/ الوطنية ... و كان الطموح هو طرح مشروع وطني لإعادة بناء أسس إدارة البلد سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا ...

للأسف هذا المشروع لم يظهر رغم محاولات الرئيس السيسي للدفع بهذا الاتجاه... بسبب التراكم التاريخي للفساد و الصراع الدموي مع مجموعات العنف السياسي ... لم تستطع الدولة إيجاد بيرقراطية بديلة للنخب القديمة التي استمرت في استنزاف الموارد و الطاقات... و مع الحديث عن مشاريع طموحة فقد برزت الحاجة الى تمويل خارجي... و رغم محاولات الرئيس السيسي الحثية للحصول على تمويل خليجي و من بعض الجهات الدولية.... الا ان مستوى ما تم الحصول عليه لم يكن يكفي قياسا مع تطور الحاجات الاجتماعية و كذلك المستوى المتزايد من النزيف بفعل عودة الحياة و السلطة الى أيدي العديد من النخب الاقتصادية و البيروقراطية في عهد الرئيس مبارك...

و لعل تدارك هذه الحقيقة المرة وضعت الحكومة المصرية امام الخيار الصعب و هو الذهاب الى مؤسسات التمويل العولمية ... التي يبدو انها لا تريد ان تتحدث عن الشروط القاسية التقليدية التي جربتها مصر و غيرها من الدول سابقا... بينما في الحقيقة أخفت استراتيجيتها الجديدة لتوظيف إدارة الفساد كآلية للتدخل و خلق الوصاية بشكل اقل حدية و اكثر نعومة و قابلة للتمرير شعبيا و رسميا...

خامسا... نصل هنا الى التساؤل الأهم ... و هو هل تملك الحكومة بديلا اخر... كما طرحه مقال الدكتور جودة عبد الخالق و التي من المؤكد يشاطره العديد من الباحثين و السياسيين ...؟؟؟.. و حتى نعطي الحق في توسيع دائرة هذا التساؤل يمكننا العودة الى نموذجي البرازيل و فنزويلا.... الاولى حققت بالفعل قفزة اقتصادية كبيرة في العقدين الآخرين حتى دخلت نادي الاقتصادات الناشئة .... او ما يسمى بدول البريكس BRIKs مع الهند و جنوب افريقيا و روسيا و الصين ... و التي تطالب ببناء نظام دولي جديد مبني على أساس تعددي Multi-Polar بديلاً للنظام الاحادي Unipolar الذي تهيمن عليه أمريكا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي...

البرازيل ... التي كان ينتظر منها التحول الى قوة اقتصادية كبيرة في العالم سقطت فجأة في أيدي المافيات و انتشرت صور ملايين الفقراء الذي لا يجدون بداً من السرقة في وضح النهار من السائحين و بدون أدنى خشية من اي نوع من الملاحقة القضائية.... فنزويلا ... من ناحيتها... كانت من اهم الدول المصدرة للنفط... لكنها فجأة اكتشفت انها لا تملك شيئا مما حدا بمئات الآلاف من فقرائها الى عبور الحدود مع الدول المجاورة بحثاً عن الاكل و المشرب..

هذين النموذجين يؤشران بموضوع الى اشكالية العجز البنيوي ... لكن احد الأسباب الرئيسية لهذا الانهيار السريع ايضاً هو الافتقار الى مشروع اجتماعي-اقتصادي Socio-economic بحيث ينقل تأثير التراكم الاقتصادي و منجزاتها الى واقع حياة الطبقات الشعبية خاصة في المدن الكبيرة... هذا الفراغ في الرؤية و في إيجاد برنامج وطني يعيد توزيع الخيرات على الجميع على نوع من التوازن الاقتصادي الشعبي .... أدى الى تعزيز و ترسيخ هيمنة البيروقراطية المتخمة في الفساد و المدعومة من شبكات عالمية ...

سادسا...الان... هل تملك مصر إمكانيات ... أشخاص و اجهزة و رؤى و ثقافة و آليات عمل لتحييد و اعادة بناء البنية الاقتصادية السياسية بعيدا عن تأثير قوى الهيمنة العالمية ..؟؟.. لا شك ان في هذا فالبلد غني بمئات الآلاف من العلماء و المفكرين و اصحاب الرؤى و المثقفين و ذوي الخبرة و الإمكانيات العالية بالاضافة الى طاقة بشرية هائلة و أموال منتشرة هنا و هناك... وووو... اشياء كثيرة اخرى...

ما تحتاجه مصر هو مشروع اعادة بلورة هذه لإمكانيات المتناثرة و وضعها في إطار متجانس و خلق آليات عمل واقعية تتعامل مع كل صغيرة و كبيرة على ذات المستوى ... تنمويا يمكن اتخاذ استراتيجية المشاريع الصغيرة لأسباب عديدة منها (1)..لا تحتاج الى بيرقراطية معقدة... (2).. تضمن مشاركة أوسع من قطاعات مختلفة خاصة الفقراء..(3).. لا تحتاج الى تمويل كبير... (4).. إمكانية مشاركة الراسمالية الوطنية فيها اكبر لان مستوى المخاطرة فيها اقل بكثير من المشاريع الكبيرة... (5).. اعتمادها على موارد محلية (تمويل و مواد أولئك و طاقات بشرية..الخ)...(6).. يمكن ان تساهم بخلق و تفعيل سوق داخلية نشطة (مراعاة القدرة الشرائية للأكثرية من قطاعات الشعب و الاستفادة من شبكة الطرق و المواصلات بالاضافة الى تنشيط روح التنافس و دعم ثقافة العمل)...

لكن اعتماد المشاريع الصغرى لابد ان يتناسق مع المشاريع الكبرى التي بدأت بالفعل و قطعت شوطاً و منها قناة السويس الثانية... هذا المشروع يحتاج الى تفعيل الدور الخارجي لمصر و اعادة بلورة سياسة خارجية تعيد أهمية الشرق الأوسط الجيو-تجارية بحيث تستعيد المنطقة أهميتها كمحور للتبادل بين الكتلتين الآسيوية و الأوروبية ... و هذا يحتاج الى تعاون أوثق مع دول المنطقة بغض النظر عن الاختلافات السياسية... و خاصة استثمار الاهتمام العالمي بافريقيا و محاولة ربط القارة الأم (ربما مصطلح جديد يطلق على افريقيا..؟؟..) بتلك الكتلتين الرئيسيتين .. (هذه الفقرة تحتاج الى معالجة أطول و لذلك سنتابعها في مقالة لاحقة)..

خلاصة القول ان مصر بحاجة الى اعادة التوازن بين أولوياتها الداخلية و الخارجية و كذلك بين رؤاها التنموية الآنية و الاستراتيجية ... و لعل التعامل الجدي مع مقترحات صندوق النقد الدولي يمكن ان يكون نقطة انطلاق في عملية كبيرة و عميقة لإعادة التوازن و طرح مشروع وطني قد يبدأ بضرورات منها العودة الى روح التسامح و الإيمان بالذات و النظر الى الداخل بدلا من التماهي مع الصور البراقة لعالم يتداعى خلف الحدود.... حبي للجميع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل