الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ميتاسيكولوجيا العقل.......عودة لاكانية لفرويد

محمد طه حسين
أكاديمي وكاتب

(Mohammad Taha Hussein)

2016 / 8 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


بداية حديث
لم يكن فرويد سيئ الحظ بهذا القدر يمنعه اختراق الأعماق ومجاهيل الطاقات التي بقيت سراً على من سلفه ومن عاصره وحتى من خلفه، البشر يتحركون ويستجيبون ويبنون ولكن ما الذي يحركهم ويجبرهم على الردود وعلى البناء الأحترازي؟ فهذا هو السرّ المحيّر الذي بقى دهوراً وعصوراً عاصياً على مخيلتهم حلّه.
عقلُ فرويد بزغ من اثر ميله تجاه القانون الذي أُحرِم منه والطب الذي أُجبر على دراسته والنفس الذي حظي بالغور في اعماقها، عبقريةٌ كشفها والده التاجر الحازم القاسي معه تارة والحنون تارة اخرى، استثمر عليه الوالد حيث استبصر سريعاً بأن الولد ليس كأخوانه وأخواته الآخرين، الغبن الوجودي المتجسد في ستراتيجيات العداء للسامية هو الذي لاحقهم ايضاً وهو العامل الأسرع والأقوى المتربص في اللاشعور الجمعي نحو أفقٍ ينيره فيما بعد سيجموند بعقله الثاقب والحاد.
اهتم في وسط طفولته بأعمال شكسبير وتعلم اللغات الرئيسية الانجليزية والفرنسية والاسبانية واللاتينية عند نهاية مرحلة طفولته. تجمّعت عوامل عدة في عبقريته لسنا هنا بصدد البحث فيه بقدر ما نجزم على الثيمة الرئيسية التي حاصرها هو بنفسه وبحث عنها في الأعماق الى أن اكتشفها وهو(العقل). استرجع فرويد الذاكرة البشرية المسجلة في الأساطير والحكايات المُنَسَّجة في المخيلات البدائية ونَظَّم منها المنطلقات التي تراكمت بعدها كتلاً وطبقات الى أن ازدحمت باللامعقوليات المشوهة لتأريخ كائنٍ خُلِق كي يمارس ما يميز به من الأحياء الأخرى.
اسقطوا الكثيرمن منتقدي فرويد حيرتهم على فرويد نفسه حيث ركزوا بشكل اصولي لاواعي على الجنس واللاشعور وموضوع الاحلام، ولم يدركوا الهمّ الاكبر لديه وهو اكتشاف العقليات التي أدارت عبر الأزمان تلك الدوافع الكامنة كغرائز في البواطن الخفية.
فرويد لم يكن جنسياً على حدّ قول(بول روزن*) أو بالأحرى شبقيا كاللاعقلانيين الذين امتلأؤُا طبقات التاريخ بشهواتهم وفالوسياتهم، انه درس الجنس كي يبرز لنا صغر العقل البشري وهو صانع تأريخ كتبته الشهوانيين و رسمته الذهنيات الدائرية والاسطورية التي احتلت الخرافات جُلّ مفاصلها.
افتضح فرويد تأريخ البشر بغوصه الماهر في اعماق وغياهب تراكمات الجبن البشري التي قدمت لنا كائنا بقى منتمياً الى النصف الأسفل من جسمه، وعند حيرته في شيئ يخرج الى الأعالي حيث يضيع ولا يعود.
نرصد في هذا البحث غوص فرويد صوب الأعماق وهو يفحص منتجات الفكر البشري في الميثولوجيا والدين والأعراف والأساليب الحياتية للفرد، نركز على ما يسلط عليه الضوء من استجابات انعكاسية للطاقات التي سماها بالغرائز والتي تتجمع في ال Id، نقتفي اثره في ما عقد عليه عزمه في كشفه وهو Ego اي العقل المنظم لما لا يدعه يستقر كي يركز في اشياء اخرى يجعله يتسامى كي يبني ويضع على منتجاتها اختام العقل، نلحظه كيف يراقب العقل وهو يساهم في بناء الضميرSuper Ego الذي يتجسد بعدئذٍ وعبر التأريخ في المتجسدات الحضارية والثقافية.
مفاهيم رئيسية
العقلانية، الحضارة،الأسطورة، الغريزة، غريزة الحياة، غريزة الموت، الجنس، اللذة، الألم، الهو، الأنا، الأنا الأعلى، الشعور، ماقبل الشعور، التسامي.
العودة الى الميثولوجيا
لم يكن فرويد مختصاً في علم الأساطير، ولم يكن مؤرخاً يبحث عن طبقات الفكر البشري، لديه قناعة بأن المنتَج الفكري المؤطر في الميثولوجيات ماهو الاّ مستويات الوعي ونمطية التفكير الساقط على الايقونات الخارجية والتمثلات المعرفية البدائية التي تمكنت قدراته العقلية المتواضعة حينذاك رسمها في خطاطاته المعرفية.
يقول يونغ عند بدء تعمقه في الاساطير: بدا لي انني كنت اعيش في مصحّة للمجانين قمت بصنعها بنفسي، كنت اتسكّع مع كل هذه الشخصيات الخيالية "القنطورات، والحوريات والآلهة الأغريقية والآلهة والآلهات"، كما لو انها مرضى وكنت احللها، كنت اقرأ اسطورة يونانية أو زنجية كما لو أن مجنوناً يروي سوابقه المرضية أمامي. وادعى كارل غوستاف يونغ ان القدماء كانوا يفتقدون القدرة على التفكير الموجه، وهو أمر تم اكتسابه حديثاً، لقد حدث التفكير الخيالي عندما توقف التفكير الموجه، يشير يونغ في كتابه" الكتاب الأحمر" ان التفكير الخيالي يظهر فيما هو انفعالي وترابطي وصوري و في النهاية هو الاسطوري(1:ص40).
يقصد يونغ بالخيالي العدمية العقلانية أو بالأحرى العجز الفكري في ايجاد المعنى للمعطيات، فالقدرة العقلية عندما تضعف أو تفقد سلاستها، فالخيال يبرز الى السطح والفرد يسبح فيه راحةً لعقله ومخيلته، والحالة الانفعالية هي دائمة في الشخصية قبل العقلانية فالمواجهة الفيزيكية مع المعطيات هي الموقف الذي ينشغل به الذهن، أما ما بعدها اي ما يرتبط بالتقصي في ماورائيات السلوك فالأحلام والخيال وبعدها التأطير في سيناريوهات الأساطير هي المكان الأنسب له. وعندما يعتبر الرموز الاسطورية بالمرضى والفضاء الاسطوري بالمشفى فان يونغ يقرّ بالاستعاضة ان الفكر الاسطوري لا يمت بالعقل بصلة وانما هو نقيضه.
فالفكر الموجه هو فكرٌ تصادمي وناتج من المواجهة الفعلية والواقعية مع الأشياء والمواضيع، ولكن الخيال بالمعنى اليونغي هو المهرب من مشقات ومطبات العقل.
يقول فرويد: كلَّما اناخت علينا الحياة بانضباتيتها الصارمة، شعرنا بمقاومة تندفع من صدورنا احتجاجاً على قسوة العقل ورتابته، وعلى متطلبات امتحان الواقع، فنظراً الى ان العقل يحرمنا من امكانيات شتى للّذة، نراه ينقلب لنا عدواً، فيطيب لنا ان نخلع عنا نيره، ولو بصورة مؤقتة، لنستسلم لأغراءات اللامعقول(2:ص40).
مخاطر العقل لا يأتي من شراسته ومآخذه الهدامة، ان العقل لا يدع الفرد ساكناً ومستجيباً انعكاسياً شرطياً للمحيط، انه المستفز الذي يحرضك ولكنك تهرب من ثقله كي لا تتصادم مع الأطر التي اراحك عبر القرون والدهور. اعتبار العقل عدواً لدى فرويد ليس الاّ وساوسٌ شيطانية وشرّانية التي يصيب بها الفرد، لها عواقب لا يتصورها البشر، فالأعداء هم الذين يدفعوننا الى المواجهة والتصدي والمنافسة واستكشاف وسائل للدفاع، عندما يتعقل الفرد يستحوذ كلّ هذه ويتعالى على ذاته المسلوبة وعندئذٍ ينقلب السحر على السحرة.
اللامعقوليات هي الدافعة لفرويد كي يغوص فيها بغية ايجاد النوتات الخارجة عن النغمة والايقاع المنطقي، الذي يميز فرويد من العقلانيين الآخرين، هو يفكر بالمقلوب و يتقدم الى الخلف لا على النمط الشرقي اللامفكِّر، بل كي يجد اللذة من الالم والمعقول في اللامعقول والشعور في اللاشعور.
ان فرويد أحسَّ قبل الآخرين بأن الأحجية الغامضة للمارد العقلي النائم باتت في الماضي السحيق، وانه عندما يلتفت الى الوراء يجد ما فضحته الأوهام وما رسمته اللامعقول للفكر البشري على المخيلة الجمعية لجماعات وأمم كثيرة والأخص منهم الكتل البشرية في الشرق الأوسط.
الأساطير ليست فكراً كما فسرها الكثير من الأنثروبولوجيين وآركيولوجيي العلوم والأفكار، انها هذيانات ناتجة من تحولات الطبيعة وليست من التطور الجمالي للمخيال البشري.
يقول فروم في اللغة المنسية بأن الأسطورة هي نتاج العالم اللاعقلاني وان لغتها مليئة بالرموز وتحتشد فيها الافكار الدينية والفلسفية والأخلاقية(3: ص176).
حاول فرويد ان يرى في الاسطورة كما في الحلم مجرد تعبير عن النوازع اللاعقلانية واللامجتمعية التي تسكن البشر.الوعي الاسطوري هو شكل خاص من اشكال ادراك المرء للعالم المحيط به ولعلاقاته معه، يقوم على الاقرار ب(قرابة) أو (تطابق) الانسان والطبيعة، الانسان والمجتمع، الروح والمادة(4:ص39).
في التطابق مع الطبيعة تلتحم القوى العاقلة مع لا ارادية الكون، يستقوي البشر بأفرادهم وجماعاتهم ويحتمون بالاسرار التي تحرك وتدير الطبيعة، اراد فرويد ان يستنطق الفرد اللاعقلاني الطبيعي قبل العقلاني ويستدرجه الى سرّ التجائه الى ما لايعرفه وما لا يدركه وما لا يفهمه ورغم كل هذه اللاءات فانه يقدم ذاته قرباناً لأيقوناتها التي نسجتها احلامه ومخيلته.
لم يكتفي الفرد البدائي بتذويب ذاته في الذات المجهولة التي بأرادتها تحدث الأحداث، بل انه رأى طاقته غير كافية في ايجاد الأمان له، ولهذا توحد مع الجماعة وطابق ذاته معها وعندها احسّ بنوع من الراحة ضمن الكلّ المتحشد الباحث عن الاستقرار النفسي في التطابق والاندماج. يؤكد كارل غوستاف يونغ ما ذهب اليه فرويد ويقول في دراسة له بعنوان"مقاربة العقل الباطن" والذي نشرت مع مجموعة دراسات لأصدقاءه في كتاب تحت اسم (الأنسان ورموزه) ما يلي:-
ان الكثير من البدائيين يزعمون ان للأنسان "روح غابة" اضافة الى روحه وان روح الغابة هذه تتجسد على شكل حيوان برّي أو شجرة يكون للأنسان معها نوع من التماثل النفسي، وهذا هو ما دعاه عالم الأعراق البشرية لوسيان ليفي برول ب-المشاركة الروحية- وعلى الرغم من انه تراجع فيما بعد عن هذا المصطلح بضغط من النقد المضاد الّا انني اعتقد ان نقاده كانوا مخطئين، فالحقيقة السيكولوجية المعروفة تماماً هي انه يمكن ان يكون للفرد مثل هذا التماثل اللاشعوري مع شخص آخر أو شيئٍ آخر(5:ص22).
اذن وجد فرويد العائق الأساسي لتعطيل قدرة تصريف الفرد لطاقاته الحيوية بالأتجاه الذي يريحه ويفتح له منافذ الأبداع والانجاز، القدرة المعطَّلة عند فرويد ليست الّا (العقل) الذي أُفرغ من مقوماته منذ الأزل حيث تماثل وتماهى سواءً مع الأشخاص الذين وصلوا حدَّ القداسة أو الأشياء من أصنام أو ما حصلت على مسميات قداسوية.
الفكر الاسطوري لا يتوقف عن العمل وانجاز اللامعقول طالما لن يسود العقلانية المجتمعات والثقافات البشرية باسرها، فاللامعقوليات هي التي تنتج الفكر المنحرف والقناعات المنهكة.
يتسائل فرويد متأملاً ويقول: هل للعقل ان يكون يوماً صاحب الأمر والنهي في حياة البشرالنفسية! هذه في الحق أحرُّ أمانينا، فالعقل -وطبيعته بالذات تضمن لنا ذلك- لن يقصر في ان يحدد للعواطف الانسانية ولكل ما يتعين بها المكانة التي هي بها لائقة. ويوم يكره الناس على الخضوع لسلطان العقل سيرون انه الرابطة الاقوى بين سائر الروابط التي تربط بينهم، الرابطة التي يحق لنا ان نتوقع منها تحقيق المزيد من التوفيق بينهم(6:ص205).
التوظيف الرمزي للأسطورة عند فرويد هو نوع من الفنتازيات الجمالية التي يستدل منها الجذور التأريخية لنمو العقل أو بالأحرى الحاضنة الأولية لمخيلة الفرد، وهو(الفرد) بدء فيها الاستجابات للمثيرات التي تدغدغ ذهنه ولا تدعه يستقر نفسياً. عندما يوظف حكاية سوفوكليس حول ملك طيبة وابنه السيئ الحظ! أوديب، أراد فرويد ان يفهمنا شيئين أساسيين أولهما: مفهوم (الصراع) الداخلي للفرد مع دوافعه الغريزية التي تلحُّ على الأستجابات الفورية، صراع من نوع آخر وهو على ما يملكه الوالد من كلّ ما يمد الطفل يده عليه. والثاني: الحالة النفسية (تأنيب الضمير) التي تؤلم الكائن دائما عندما يقوم بفعل مؤذي للآخرين، التأنيب عند فرويد ليس أقل من فقأ العيون لدى أوديب.
الضمير هو انجاز فكري وعقلاني اجتماعي له أساس أنساني أي يعتبر من التساميات الذاتية للفرد على ملذاته كي يفسح المجال للآخرين التلذذ من الحياة ايضاً، التسامي آلية دفاعية فرويدية تجد للفرد منافذ عدة لتصريف الطاقة الحيوية المتكوِّمة في الغرائز. ركز فرويد في نظريته الجنسية واللاشعورية على آليات الحصول على العقل أكثر من النزوات الدافعة للحصول على اللذة المفرطة والدائمة. هو يميز اللذات ويعيد بها الى أصولها ومقتضياتها، فاللذة الجنسية هي النيّة البيولوجية والروحية ان صح التعبير فلا مناص من الاستجابة لها وفق الشروط والامكانيات التي توفر للفرد الحصول عليها، ولكن اللذة من النوع العقلي وذات الاساس الأبيكوري** هي تأتينا من خلال العلو بعض الشيئ على الاستجابة الانعاكسية ونتسامى عليها بغية حصولنا على لذة العقل المتجسدة في المنجز أو المنتج الذي كافح من اجل ايجادها.
في الحكاية الميثولوجية(قتل الأب) التي أدرجها فرويد في كتابه "الطوطم والحرام" يحفر فرويد الفكرة الأولى نعم(الفكرة الأولى) التي انطلقت منها الأفكار الأخرى لأجل التنظيم والقانون والقيم والضوابط الأخلاقية. الأثم الكبير وهو عدم التقرب من الاب بقصد ازاحته وقتله وكذلك تحريم نكاح المحارم والزواج منها، والقيمة المأخوة الأسمى من هذه الحكاية هي الاتفاق على ايجاد ضيغة ونظام آخر للحياة.
هذه هي توظيف وليس تخريف، التوظيف هو تلحيم الشيئ بشيئ آخر قد يزيد الحالة الجديدة بنوع من القوة المعنوية الأكثر، ولكن التخريف هو ابراز الحالة الخرافية المبنية عليها الميثولوجيات على الاستنتاجات العقلانية وهذا ما لم يقصدها فرويد.
يقول هوبيرا بونوا في كتابه" التحليل النفسي والميتافيزيقا": ان المكتسبات الحديثة للتحليل النفسي والتي أثرت علم النفس، لا تقع على هامش الميتافيزيقا التقليدية، طالما ان هذه الاخيرة تتناول من جهة نظرها كل شيئ، وسيكون من المفيد ان نلاحظ كيف تندرج الوقائع المكتشفة حديثاً في مفهوم الميتافيزيقا العام، ولماذا يمتلك التحليل النفسي هذه الفعالية التي برهنت التجارب عليها، ان مقارنة الوقائع الجديدة مع الأفكار القديمة ضرورية لتوجيه هذا الأسلوب النفساني الحاسم التي يمكن أن تكون آثاره، طبقاً لما نصنعه منه، ضارةً أو نافعة(7:ص17).
الوحدة القياسية الأساسية لنظرية فرويد – الغريزة –
المعلومة الغريزية عند فرويد لها أساس وخلفية مهنية والتي اكتسبها من دراسته في الطب، وأساس فلسفي أدعمه بنظرة ديكارت حول الفطرة والدوافع الخلقية في تحريك الفرد وتفعيله، ولها أساس ميثولوجي وجده في النصوص والحكايات الاسطورية التي حثت البشر على التمادي في اللذة بنوعيها الالباعثة عن الحياة والسعادة وكذلك عن الموت والعدوانية.
الطاقة الليبيدية التي سماها فرويد بالطاقة الحيوية المسوِّقة بغريزة الجنس، هي المنتج الأوفر والأكبر مقداراً وسعة في بواطن كل فرد، تظهر حيث القوة الدافعة والمحركة، وتأفل عندما نلبي طلباتها ونستجيب لها. هي لا تقف على وتيرة موزونة ومستقيمة، عند الثَوَران تحط من حالة التوازن البيولوجي والنفسي وتبقي الفرد في حالة توتر غير متوازن، وعند الأشباع يجد الفرد توازنه.
الحالة المتوترة والموزونة في الوجود البيولوجي للفرد تكون أساساً للتوازن السيكولوجي والأنفعالي وكذلك العقلي، فالعقل ليس الّا صماماً لهذه الطاقة الفيزيوسايكولوجية المولدة للحياة بالمعنى الفرويدي للمفهوم وكذلك الهادمة لها عندما يسيئ الفرد أو الجماعة كيفية ادارتها وتوظيفها.
يشير فرويد الى أن الغرائز كائنات اسطورية ومكتنفة بالأبهام في آنٍ معاً، ومع اننا لا نستطيع أن نستغني عنها للحظة واحدة في أثناء عملنا، فأننا لسنا على ثقة بأننا نتصورها تصوراً صحيحاً واضحاً، التصور الرائج عن الغرائز هو انها أوجدت لتلبي الحاجات طراً، غرائز الكبرياء والتقليد واللعب والغريزة الأجتماعية وكثير من الغرائز المشابهة(8:ص113)، هذا فضلاً عن الغرائز التي تتولد فيزيوكيميائياً من خلال تحولات الطاقة داخل الوجود البيولوجي للفرد.
ان الغرائز الرئيسية وفق التصنيف الفرويدي لها تنقسم الى فئتين:- اولاً- غريزة الحياة والتي تدفعها الجنس و تتكثف في الليبيدو ويسميها ايروس، وثانياً- غريزة الموت أو العدوان والذي يسميها بالثاناتوس هي الباعثة للهدم والألم، يرى فرويد بأن غريزة الحياة لا ترتكز على اللذة الجنسية بقدر ما تؤكد على اية دافع تبعث على اللذة(9:ص52).
الغرائز لا تتفاهم انها تنزع الى الكمال البيولوجي أي بمعنى تلبية الطلب بالمقدار الذي يريح المنبع الذي تتولد فيه الطاقة المحركة. اذ استجبنا لها على الطريقة الأنعكاسية فالوجود بالمعنى الاجتماعي يختل والحياة تكون كلها داخل دوامة الغرائز والفكر الذي يرتبط به كبرياء البشر على حدِّ قول فرويد لا يكون له دور في ايجاد المعنى للحياة والعيش ضمن الجماعة.
فرويد لم يكن منظراً مستجيباً على الطريقة البوهيمية لكل هذه الغرائز، انه أشرط بوجود حالة لجم عقلانية لا دينية وميثولوجية لها كي يتسنى للأفراد أن يستجيبوا لمطالب الغرائز كل على طريقته ودون المساس بمصالح الآخرين.
هنا تبرز غاية الغريزة التي تعقلنت بفعل ادارة الفرد لها وهي الحياة، وايجاد السعادة والأطمئنان، يرى فرويد بان هذه السعادة بحاجة الى فكرة قوية مبنية على العقل الذي يستحوذه الأنا الرّاعي للواقع والحياة العقلانية المنتظمة بالشكل الذي يساهم الأفراد دوماً في بناء مرتكزاتها المتجسدة في الحضارة والثقافة والضمير الأجتماعي.
أما القوى التي تنفرز نتيجة الاحباطات والفشل المتكرر للأفراد في الصعود على سلالم الحياة هي الواعدة بالموت وايجاد ألم مزمن وجو نيكروفيلي يبعث على اظهار الحالة الشرانية والتعيسة للبشر. الغرائز الداعمة للموت وحب الشر والألم هي الموجودة ايضاً في الموروث البشري ولكن ظهورها أو بالأحرى بروزها مرتبط بالحالة الجدلية والدايناميكية التي تدار بها الحياة من قبل الفرد نفسه وكذلك ضمن العلاقات البشرية برمتها.
اذن ستراتيجية فرويد في التعمق في تشريح الفرد والتنقيب على مصادر طاقاته هي لأجل ايجاد حالة من الأستقرار والتوازن داخل جدلية (الاستقرار والتوتر) اللامتوقفة نهائياً، فالهدفُ اجتماعيٌ بالقدر الذي ركَّز على الجانب البيولوجي والغريزي، بمعنى آخر أراد فرويد أن يكشف الأنا العاقل الذي هو الأبن الشرعي المؤسَّس على الأجَِّنة التي تخزن استعدادات البشر للتفكير ويجد آلياتها ومعطياتها.

دايناميكية العلاقة بين Id) وEgo و Super ego)
كل من هذه العناصر الثلاثة المساهمة في تكوين الشخصية والذات البشرية تتفاعل داخل بعضها بشكل حتمي، الحتمي ليس بالمعنى المطلق بقدر ما يعني ضرورة وجود كل عنصر للعنصرين الأُخريين، والحالة التفاعلية هذه هي بمثابة موسِّعَة تُزوِّد الفرد بالمقدرة على الأجراءات السلوكية ومن ثم اتخاذ القرار حول اتجاه الدوافع والاهداف الناوية الوصول اليها.
(Id) نتشارك فيه مع البشر قبل الأنساني، مجهولية اعماقه وتراكمات الطاقة المخزونة والمحروقة باستمرار فيه، وكذلك الوهن الفكري للفرد القبل عقلاني جعلته اذا جاز القول ان نسميه ب(الثقب الاسود) في الكيان اللامتناهيّ الحدود. في الثقب هذا تجذرت الخرافات والاوهام الميثولوجية المؤسسة على الوعي السطحي الساذج والبدائي للفرد الآيدوي.
الوعي السلبي وغير النشط الذي طالت العصور هو لم يقدر السيطرة على ما شبَّهَهُ فرويد ب " رجل على ظهر جواد يحاول ان يتغلب على قوة الجواد العظيمة"***، التشبيه هذا هو اشارة الى أن طاقة الفرد وقدرته على السيطرة على الانفعالات الموجودة داخل الهو هي أقل مما تُمَكِّنَ الفرد لجمها، ولذلك على الشخص ان يبدأ في البداية بعملية ترويض ومن ثم التهدئة الى ان تستوي الهيجانات بالاتجاه المراد.
الهو هو منبع الغرائز ولا يستجيب الّا للّذة، لا ترضخ الطاقات الموجودة فيها لأية أشارات صادرة في الفرد وكيانه، ان الحدّ من صولاته يكون فقط من خلال الآليات الدفاعية التي تدافع على الذات بأسرها والأنا العاقلة، والقمع بأي شكل من الأشكال وكذلك الكبت هما جهود سايكولوجية هدفها البقاء على توازنات الأنا والأنا الأعلى، وحالة الهو تبقى تحت السيطرة وفق الشروط الحضارية التي تنمو من خلالها ثقافة الافراد والضمير (النفس- اجتماعي) لهم.
الأنا علاوة على كونه هو بمثابة العتبة الفارقة أو صمام الأمان، فأنه هو المنتج للعقل المؤسس للثقافة من جهة والضابط لهيجانات الهو.
الأنا يعتبر ركناً للواقع والعامل الأقوى لعملية التأقلم الأستراتيجية للبشر من على سطح المعمورة. يعتبر فرويد انشطة (الأنا) ب- أنشطة مقيَّمة اجتماعياً- اي هناك حقل آخر وهو مشكلة الثقافة(10:ص132).
ولكن التسامي الذي هو آلية سايكولوجية دفاعية لبقاء الذات قوياً يعمل على ايجاد أهداف أخرى لتصريف الطاقة الحيوية الليبيدية، التسامي لا ينقذ الفرد نهائياً من تبعات وعواقب الليبيدو ولكنه يجعله يشعر بلذة الأنتاج سواءً الفكرية أو الفيزيقية.
عملية التسامي هي تحت سيطرة الأنا الأعلى، فالثقافة المتراكمة والمحددة بمعايير وانضباطية ترضخ لشروط أما مرنة او متصلبة ومتزمتة، الانتاج الثقافي المرن هو القابل للتغيير وفق المواقف والتحولات ويضع اثره على الأنا حيث يكون أنشط في ايجاد التوازنات بين الهو والأنا الاعلى.
الأنا الأعلى يعمل وفق ستراتيجية الحفاظ على الذات المجتمعية على حساب الذات الفردية ويهدف الى بناء انماط سلوكية وشخصية معينة تقبلها الثقافة والمعايير الاجتماعية ولا تكون مضطربة مع القوانين حيث تحافظ على الوجود المثالي للكلّ.
لا يبقى الضمير الاجتماعي المتمثل في الأنا الاعلى على وتيرة ثابتة بقدر ما يرضخ لجدلية العلاقة بين العناصر الاخرى المكونة للذات وكذلك لدايناميكية الحركة المستجيبة للمعطيات المادية والمعنوية الجديدة التي تفرض هيبتها على الخريطة العلائقية للمجتمع وتجبرها على الاستجابة.
ان الصراعات لا تتوقف بين العناصر الثلاثة المشارة اليها، فالهو يبقى ضمن دائرة القوى البيولوجية ويستمر في انتاج وقود الجسم، ولكن الأنا الواقعي والأنا الأعلى يبقيان منشغلان ببعضهما وكذلك بما يدور داخل الهو.
اختلاف صورة المواجهة بين العناصر تلك لدى اي فرد وجماعة هو بالأساس ينتج الاختلاف في الأفراد والجماعات المختلفة ولهذا نجد حولنا معايير وقيم اجتماعية تمثل كل واحدة منها ثقافة معينة. ان صناعة الأنا والأنا الأعلى أنسانية صرفة، من بداية الأنا الأعلى تبدأ أنسنة البشر وذلك بتصقيل طاقاته بصبغات أجتماعية ومعيارية وهذه هي التوظيف العقلاني للاستعداد العقلي، الثقافات على اختلافها لها أنواتها المختلفة مع بعضها، الأنا الانجليزي الجمعي غير الأنا الألماني، والأنا الجمعي الكردي غير الأنا التركي والعربي، وقس على ذلك. ولهذا تلزم الثقافات نفسها ببناء أنواتها(جمع أنا) الفردية وفق شروطها الحضارية والبيئية والتأريخية والجغرافية وحتى الطوبوغرافية....الخ، والموجود الثقافي الكلّاني يتحول الى كتلة من الأنا الأعلى حيث توزع على افرادها النماذج السلوكية والانماط التي عليهم الاقتداء بها. التحول والثبات لكلا الأنيين(العقلي والمثالي) مرتبط تمام الارتباط بحيوية العلاقات الجدلية بين العناصر الثلاثة وكذلك بنباهة الأنا العاقلة في التعقلن والتجدد المستمر.
من هنا نرجع الى الاستراتيجية الفكرية والنظرية لفرويد حول أِعلاء شأن العقل على الغريزة والقوى الليبيدية الدافعة نحو اظهار السلوكات والحركات، ونذكر مجدداً قدرته على انتشال العقل الأنوي من غياهب اللاعقل المترسب، بمعنى آخر أعاد علينا فرويد دروسه حول المعنى من سرقة بروميثيوس للنار وقتل أوديب لوالده(لايوس) ونكاح أحرم المحرمات، وبعد ذلك فقأ عينيه، والمعنى من قتل الأولاد لوالدهم وحصول التوافق والتحالفات بينهم، ولماذا أحب (نركسوس) صورته وافتتن نفسه حتى الموت؟. من خلال كل هذه الأستدلالات المجازية قال لنا فرويد بأن العقل هو استعداد وراثي وله آلياته واستراتيجياته علينا أن نجد كنهه وكذلك منشأه والقوى المساهمة في بناءه ونموه وسوقه بالأتجاهات التي لا يغفل عليها الفرد ويكون نبهاً لها.
الشعور وما قبله واللاشعور
استدرَجَنا فرويد معه الأعماقَ الى أن وصلنا كوخ العقل البدائي الذي لم يكن معموراً حيث تسكنه الآلهات والغول والتنين وكائنات الخيال البشري، هنا يقبع الوجود مثلما وجد وظهر، ولكن الضوء حرم عليه حيث لا يرى في النور ولهذا عاش واختفى كالخفافيش في جحور النسيان والظلمات.
صنف لنا فرويد مستويات الوعي الى ثلاث:
الشعور: عنده يعي الفرد ما يقع على حواسه وما يستذكره لأدارة ذاته وحياته العادية المشروطة بالمعايير المحيطة، بمعطيات الشعور نحيا وبها نلتزم ونجزم على ان نتفق كي نستمر ونتشارك. الكائن الذي يحكم مملكة الشعور هو الأنا الملتزم والذي هو بيننا، تقاس قدرته بمدى واقعيته والتزامه بمعايير الضمير الأجتماعي.
الشعور النبه والذكي والحاد باستطاعته الغوص في اللاوعي والتعامل المرن مع الخبرات المخزونة فيه واعادة برمجتها وذلك لكفايته الذاتية وحاجته الى الراحة النفسية الأوفر.
الشعور هو فقط سطحُ عالمِ الفرد النفسي و في متناوله الدائم، المدركات تأتي بالشعور من خلال الادراكات الحسية التي تقع عليها حواسه في البيئة الفيزيقية وبعد ذلك تثير الفرد داخلياً لأيجاد استجابة لها، ان الشعور لا يتعامل مع المخاطر والخبرات المحظورة وغير السارة، وهناك مصدر معلوماتي آخر للشعور وهو الداخل النفسي الذي يعيد برمجة الخبرات المهدِّدة ويجعلها مجازة للتعبير وكذلك الخارجة من فلترة ماقبل الشعور(11:ص38).
قبل الشعور: يقول فرويد حول مستوى ما قبل الشعور بأنه يتكون من كل هذه العناصر التي ليس الفرد شاعراً بها وانما هي في طريقها الى الظهور بسهولة أو بشيئ من الصعوبة، ان هذا المستوى له مصدرين:- الأولى: عندما يفهم الفرد بأن الشعور جاءنا عابراً ولبرهة مؤقتة أو يتحول الى فكرة أخرى، هذه الأفكار كثيرا ما تكون بديلاً بسيطاً تعبر اثناء القلق وتكون اقرب الى صور الوعي وليس اللاوعي. ثانياً: تكمن في اللاوعي، ويعتقد فرويد بأن الافكار قد تنزلق وتفلت من اللاوعي والجهاز الرقابي وتصل الى قبل الشعور فالشعور، بعض من هذه الصور تصبح واعياً لأنه اذا امكنت التعرف على مشتقاتها في الشعور قد تجد تخبر حالات عدة من القلق(12:ص25).
مستوى الماقبل هو بمثابة جهاز سيطرة لفحص كل ما يقترب من المرور الى السطح، فالجهاز هذا حساساً الى درجة القلق الذي نحتاج اليه دائماً للأنجاز. قدرة هذا الجهاز وحساسيته مرهون بفعالية الأنا وكيفية ايجاد التوافقات والحالات الملائمة لظهور الممنوعات كخبرات معادة ومصاغة ثقافياً.
اللاشعور: هو مخزن الخبرات التي ازحنا عنها وعينا ويحتل مساحة واسعة جداً من الخبرات التي تخوفنا وتهددنا وتؤلمنا، ما نخاف منها قمعناها هناك، وما يكون مصدر تهديد لنا ولوجودنا الثقافي والحيوي نكبته ولا نمارس اللعبة معه وحتى لا نذكره خوفا من عقاب الأِله والمعايير والضوابط، وما يؤلمنا ننساه ونجد له مكانا في متاهات اللاشعور حيث لا نصادفه الاّ قليلاً من خلال زلاّت وفلتات وهذيانات وهلاوس واعصبة نفسية قد نصيب بها من شدة وقعها علينا.
اللاشعور هو المصدر الاساسي للوساوس والقلاقل واللاتوازنات، ثقافة الأنا الواعي، والصناعة الذكية للأنا الأعلى هي الكفيلة بمديات حرية السباحة والغوص فيه، كُبرَ وصغر مساحة اللاشعور عند الفرد مرتبط بمرونة وصلابة الثقافة الصانعة لأنواتها وذواتها.
الافلات من أثقال اللاشعور يراد له تنمية وتربية عقلانية متوازنة والتي أكد عليها فرويد في كثير من المناسبات والمواقف، باستطاعة الضمير المرن ان يجيز للخبرات اللاشعورية المرور الى السطح دون المساس باجتماعية الفرد وحرية الحراك الطبيعي للثقافة.
التفاتة ارستيبوسية وابيكورية لمفهومي اللذة والألم
ارستيبوس هو الأكثر ميلاً للَّذة الآنية التي تفترسها غرائزنا، هو ليس مع التأخير والتلاعب معها، ولكن ابيكور أراد أن يتحرر المرء من الألم أولاً، وهذا مبدأ فلسفي ابيكوري تأسيسي لمجموعة كبيرة من المدارس الفلسفية والسيكولوجية، الملذات هي نتاج نشاطات الانسان وفعالية الذوات المكافحة للحصول على السعادة، عندما يحصل عليها تقل مساحة الألم في حياته ويتلذذ بما يحصل عليه قدراته في التحويلات العضوية والدايناميكية للطاقة والارادة.
انتفع فرويد من المبدأ الابيكوري الباعث على العقلانية أساساً، فاللذة العقلية التي يحصل عليها الانسان بالحكمة التي أبدع لها فرويد بأيجاد الEgo في مقابل المنبع المتدفق للطاقات الغريزية وهو الهو. الانسان بطبيعته يتوجه نحو اللذة ويبتعد عن الألم، اللذة وفق المنظور الفرويدي هي صناعة بشرية ولكن بمحفزات غريزية التي تُصرف تحت تصرف قائد يسوقها الى الوجهات ويعاد لها توازناتها دون ان يبقى داخل دوامة الألم والتوتر.
جدلية اللذة والألم هي الحالة الطبيعية المتجددة دوماً، تبقى القدرة على الحفاظ على التوازن الغريزي والتوازنات العقلانية مرهونة بقدرة الأنا وصناعتها من الثقافة المبنية وفق أسس ومعايير قيمية مختلفة.
صناعة اللذة داخل دوامة الألم المكتسح للوجود بفعل تراكمات الثقافات المتجذرة عن الاسطوريات، اجتازت مراحل عدة ضمن تطور الفكر، والأنسب من المنظومات العقلية والفكرية التي تمكنت الاجادة الأذكى مع مصادر الألم هي الحضارة الغربية المنبثقة في التنوير والحداثة اللتان تمكنتا بفضل النسقية بين فضاءات العلوم أن تبعثوا الروح في الجسم الثقافي لهم.
لماذا يتألم البشر وجماعاتهم الى الآن؟ ولا يجيدون الاستجابة للطاقات التي لا يد لهم في ادخالها في كيانهم البيولوجي ولا تدعهم ساكنين ولو للحظة؟.
النفور من ضغوطات العقل والتفكير مثلما يشير اليه فرويد في كثير من المواقف، هو الآلية البديلة دوماً لأُناس فضلوا الأبقاء على الرضوخ للأرواح المقدسة القابعة في الميثولوجيات، فالفكر الميثولوجي هو حيٌّ بيننا كبشر حيث لا يتهاون ويستمر في ايجاد بدائله ان لم يكن في الحكايا المشابهة لسوفوكليس وبروميثيوس فأنه يجد استمراريته في الأشخاص التي تسقط على الرموز الخارجة تمنياته ورغباته أو في الايقونات المؤسسة للأديان والأحزاب والأطر العقائدية المختلفة.
زمن الأنا الفرويدي هو زمن مستقيم له بداية ونهاية، ولكن زمن الأنا المسلوب القابع في قاع اللاشعور والهو وكذلك الخادم الكهنوتي للأنا الأعلى هو زمن دائري واسطوري يدار ضمن دوامة ويعيد احداثه ومحطاته باستمرار.
أراد فرويد أن يعقلن الألم ويعيد معرفته من جذوره الى أن يستثمر فيه عقلياً كي ينتج فيه اللذات الموجهة المدرَكة، اللذة عند المذهب التحليل النفسي الفرويدي هي الهدف الاستراتيجي الذي نناله ونحصل عليه بالادارة الذكية للأنا العاقل الواعي، عقلانية اللذة لا نجدها سوى في ايجاد التوازنات داخل الاختلالات البديهية لمصادر الطاقة سواءً أكانت غرائزية هذه الطاقات أو ثقافية واجتماعية ضاغطة نحو ضرورة التغيير والتحول الى صياغات واشكال اخرى.
الأبداع وتجلياته في الحضارة
الأبداع هو ايجاد شيئ لم يأتي به أحد قبلك، أو يُعرف بالخروج من النمط التقليدي في التفكير والعمل، أو يُقاس كما يؤكدان عليه كيلفورد وتورانس وفق النواتج الابداعية، في الابداع يتمركز الطاقة والقدرة على الشيئ المقصود، فالفرد المبدع يُكَثِّف اثناء العمل الابداعي جُلَّ طاقاته ويُسيِّرها نحو الهدف المرسوم والمخطط له.
اذاً المبدع لا يسعه الاستجابة لكل ما يثيره داخلياً وخارجياً، حيث التركيز على الشيئ أو الموضوع الابداعي يشغله الى درجة تناسي أمورٍ جداً مهمة حتى بالنسبة له كفرد عليه أن يكون له قرار ومواقف حولها.
لم يكن فرويد مستغنياً عن الفكر والعمل الابداعي، فالالتفاتة الابداعية لديه تتصل مباشرةً بواقعية الأنا والتحويلات الذكية للطاقة الحيوية التي يجريها باستمرار. الثقافة وبناء البيت الثقافي المتجسد في الحضارة ناتجة عن الادارة العقلانية للأنا الأنساني، حيث لا توجه كثافة الليبيدو نحو هدف محدد ومعين بقدر ما تغير الأهداف بعض المرات، أو بالأحرى تختار أهدافاً تخفف بواسطتها الاضطرارات السيكوفيزيكية المنبثة في باطن الجسد.
حول الأبداع الذي يوفر للفرد السعادة والمتعة يقول فرويد في القلق في الحضارة ما نصه: في وسعنا ايضاً أن ندرج حالة مثيرة للأهتمام، نعني نشدان السعادة في المقام الأول في المتع التي يوحي بها الجمال، حيثما استوقف هذا الجمال حواسنا أو فكرنا، جمال الاشكال والحركات الانسانية، جمال الأشياء والمناظر الطبيعية، جمال الابداعات الفنية وحتى العلمية. ان هذا الموقف الجمالي المنظور اليه على أنه هدف الحياة لا يوفر لنا الا حماية واهنة من الأدواء والأوجاع التي تتهددنا، لكنه يعوضنا عن الكثير من الأشياء. والمتعة الجمالية بصفتها انفعالاً يبث في النفس نشوةً خفيفة من الثمل، متعة لها طابعها المميز الخاص، فالجانب النفعي من الجمال لا يتجلى للعيان بوضوح وجلاء والناس لا تدرك ضرورته للحضارة، ومع ذلك لا يسع هذه الأخيرة عنه استغناء(13:ص32).
الجمال لا يخرج عند فرويد من النزوع نحو الابداع، فالمتعة المنجزة من الجمال والانجاز لا تقل اهمية عنده من المتعة من المواضيع الجنسية، السعادة التي يحس بها الفرد من هذه الوجهة المغايرة ضرورة فرويدية لبناء العقل المتجسد في الحضارة ومادياتها. الطاقة الموفرة للأبداع الجمالي والحضاري اقترضت من الجنس بالمعنى البيولوجي للمفهوم ولهذا تضع تأثيراتها بنسب متباينة على التوازن البيوكيميائي للجسد وتسبب في أزدياد وتيرة القلق وبعض الاضطرابات التي تعرف فيما بعد بأفرازات الحضارة أو كما شخَّصها فرويد بالقلق الحضاري، ولكن السعادة والمتعة الجارية فيها هي بمثابة اعلاء وتسامي على الهموم البيولوجية للجسد.
(التسامي هو مرورٌ من الجنسي الى غير الجنسي)**** كما يصفه لابلانش في كتابه حول التسامي، تغيير الوجهة هو القرار الصادر في العقل الكامن في أنا الفرد والذي لا يريد أن يبقى والى الأبد كائناً يقفز بين قطبي النزوة فتارة ينفعل ويتوتر ويتحرك مسلكياً نحو الأهداف المرسومة وفق الخطاطات البيولوجية وتارة يهدأ ويبقى مسترخياً لا يسعه حتى الكلام الموزون حول شيئ.
الابداع والانجاز الحضاري يأتي عندما يضحي الفرد والجماعة بكثير من القوى الكامنة فيهم لغرض البناء والتلذذ العقلي الراضخ فوق الفضاء السيكولوجي السعيد للأنسان.
يطرح فرويد مشكلة الحضارة على قاعدة ما يتسبب فيه تطورها من آلام وتعاسة، لقد سلَّم فرويد فعلاً بضرورة القمع، وبالأضافة الى ذلك لا يرفض الطموحات الانسانية في السعادة والحرية معتبراً ذلك من قبيل المطالب المشروعة. لقد قام موقف فرويد من ضرورة القمع حاسماً: يقوم كل شكل من اشكال التنظيم على قمع النزوات، فالانسان الذي يعيش في مجتمع لا يمكنه ان يكون قط سعيداً وحراً، اذاً يرسي موقف فرويد النهائي على ريبة متجذرة : ان كل حضارة تقوم على الاكراه والقمع ولهذا لن توجد قط حضارة غير قمعية(14:ص318).
هنا نستذكر ما أكد عليه فرويد حول مصادر الألم الانساني حيث صنفها فرويد الى ثلاث:
شيخوخة الجسم البشري والقوى الطبيعية وسوء تنظيم البشر لمؤسساته في الاسرة والمجتمع والدولة.
يرى فرويد بأن العقلانية تعالج أو تُحِدّ من شدة الآلام تلك حيث الجسم يروض وجوده بالاستجابة الموزونة لمطالبه من الحاجات البيولوجية وكذلك من ثقافة الحفاظ على الكيان الهيكلي الفيزيكي الذي يحوي النفس والوجود العقلي.
أما القوى الطبيعية التي اختار البشر بادئ ذي بدء المسايرة معها واثر تلك الآلية تولدت الميثولوجيات والأنماط الحياتية المقولبة والدوغماتية، فهي باقية ولكن العقلانية تأخذ موقفاً آخر من هذه القوى حيث تبدأ الصراع معها استجابة للمبدأ الفرويدي الحتمي وهو صراع كامنٌ فينا ولا يزول بل يبقى ونحن نستعد له ونتصارع لأجل ايجاد اشكال والوان اخرى من السلوك والعادات والاساليب الحياتية.
والمصدر الثالث للألم الانساني اي سوء تنظيم البشر لأدارة حياتهم في المجالات الحياتية هو عقلانية وحضارية صرفة، فرويد يقول لنا هنا اننا بحاجة الى تنظيم ونظام وادارة عقلانية في حياتنا سواء في الفرد اي تنظيم الذات أو في الاسرة بمعنى الابقاء عليها كنواة للعلاقات الانسانية والحياة المجتمعية، وكذلك في المجتمع ومؤسسات الدولة.
يؤكد فرويد على المدنية والادارة العقلانية للمجتمع وللدولة حيث ينبذ الشر ودعى الى الانتهاء منه وهذه الدعوة تجلت في رسالة جوابية له للعالم الفيزيائي أنشتاين ويتساءل فيها الآتي:-
لماذا الحرب؟ وفي نهاية الرسالة يتساءل ايضاً: كم من الوقت سيتعين علينا ان ننتظر قبل ان يصبح باقي الانسانية مسالمين ايضاً؟ يؤكد فرويد في رسالته ان الحب يمكن ان يزيح شبح الحروب اذا ما ناضلنا سوياً لأجله(15:ص43-58).


استنتاج ختامي
لا ريب فيه ان فرويد تبجح دوماً بأنه بصدد أعادة تشكيل الأنسان، الأنسان الذي لم يستطع منذ فجر التأريخ أن يجد نفسه ويصنع ذاته استجابة للقوى التي لا تدعه ساكناً ولا يد له في تأجيج ناره البروميثيوسي الذي سرقت منه ولم يقدر على استعادتها بالشكل الذي يريد و يريد منه المحيط.
هو لم ينطق بأعلان الحروب على القوى الخارجة عن الذات، ولم يرفع شعار الموت لكل الأيقونات التي حوَّلت المسير العقلاني للبشر نحو متاهاتٍ لاعقلانية تحكمها الميثولوجيات والحكايات الكبرى وللأنسان الّا الطاعة العمياء والرضوخ الاستعبادي لها.
أنه أجهد الكثير من طاقاته حتى أكتشف السرّ وحلَّ الأحجية ما قبل التأريخية، أبدع في تصريف طاقاته الحيوية في الوجهات التي تبقى آثارها معالمَ انسانية وعقلانية بنيت على شتات القوى الجنسية، أنه لم يكن مستجيباً بوهيمياً للنزوات مثلما أشرنا اليه في بداية هذه الدراسة، حيث ركز على البناء الفوقي العلمي والثقافي والحضاري على أساس الأعتناء السليم بالبناء التحتي، وشخَّص لنا طرق وأساليب التصريف العقلاني للقدرات، والامكانيات البشرية الهائلة.
أوجد السر وهذا ليس بقليل، اذا لم يكن فرويد مضحياً بنزواته كانسانٍ فرد مسوِّقٌ الى ايجاد منافذ للأشباع والاستجابات المنطقية لها، فالعالِم المبتكر لهيبة الجنس ومقدرته على التحولات بكلا نوعيها البناءة والهدامة لم يكن نعرفه الآن ولم يكن ضمن القلائل المؤثر في تغيير وجهة العلوم التطبيقية والفكر الحديث في العالم.
هو الملتزم العقلاني بالضبط الذاتي والضبط العاطفي المتجلي في علاقاته العاطفية مع خطيبته مارتا قبل الزواج، المنضبط في ادارة الاسرة وتربية الاولاد والايصال بهم الى حيث الرضا الاجتماعي. هو الملتزم الصلب في ادارة جمعيته السايكوتحليلية وكان غيوراً وواثقاً بنفسه وقدراته التي سهَّل له تقديم ابداع وراء ابداع.
العقلانية في الفكر والعمل الفرويدي تجلى في مدى اهتمامه بالبنية الثقافية والحضارية والبحث في ايجاد آليات الحصول على السعادة، والحب الذي يراه هو بأنه ظاهرة حضارية وليس استجابات ايروتيكية بحتة، الاستجابات الايروتيكية لا تدخل عنده مجال الحب بقدر ماهي ميكانيكية تلبي مطالب غريزية اثر التحولات البيوكيميكية للجسد.
تركيزه على الأنا والاهتمام الأنشط بالشعور من خلال التنقيبات المستمرة في اعماق اللاشعور والهو بغية توسيع مساحة العقل في الأنا والشعور في الواقع. يبقى ان نشير الى ان فرويد أراد في بحوثه وحالاته الاكلينيكية ودراساته النظرية أن يكتشف الاكسير الاقوى للحياة واماطة اللثام عنه كي لا يدع المشعوذين وكائنات الظلام الاستمرار في التحايل على العقل وتحريفه.
انه غاص في اللاعقل لأيجاد العقل، وغار على الغرائز كي يُعَلِّمَها الانضباطية العقلانية في التصرف والتصريف، داهَمَ اللاشعور للأبقاء على الشعور صاحياً وجعله سليم في التداول.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والهوامش
* مؤلف كتاب "الحريم الفرويدي" (2007).دار السوسن، ط2، ترجة: د.ثائر ديب،ص36، دمشق –سورية
. - يونغ، كارل غوستاف(2015). الكتاب الأحمر، دار الحوار، ص 41،40، ط1، اللاذقية – سورية.
2- فرويد ، سيغموند(2007).محاضرات جديدة في التحليل النفسي، ص40، ط3، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت. 3 - فروم،اريك(1992).اللغة المنسية، ص176، ترجمة: حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، بيروت.الكتاب صدره فرويد عام 1936 اي ثلاث سنوات قبل وفاته.
4- عباس، فيصل(2005).الفرويدية ونقد الحضارة المعاصرة، دار المنهل البناني، ط1، ص39، بيروت.
5- يونغ، كارل غوستاف(2012). الأنسان ورموزه......سيكولوجيا العقل الباطن، ترجمة: عبدالكريم ناصيف، دار التكوين، ص22، ط1، دمشق- سورية.
6- فرويد ، سيغموند(2007).محاضرات جديدة في التحليل النفسي، ص205، ط3، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت.
** ابيكور : فيلسوف يوناني عاش بين عامي 341 قبل الميلاد و 270 ق.ب صاحب مدرسة الابيقورية، غايته هو الوصول الى الحياة السعيدة والمطمئنة، هو يبغي التحرر من الألم كي يحصل على السعادة واللذة العقلية. يركز ابيكور على ان اللذة العقلية من اسمى اللذات(كتاب: فلسفة اللذة والألم، اسماعيل مظهر ، منشورات الجمل،2014،ط1.
7- بونوا، د.هوبيرا(2002).التحليل النفسي والميتافيزيقا......دراسة حول مشكل تحقيق الأنسان، افريقيا الشرق، ترجمة: عبدالله عاصم، ص17، بيرت-لبنان.
8- فرويد، سيغموند(2007). محاضرات جديدة في التحليل النفسي، ترجمة: جورج طرابيشي،ص113، ط3، دار الطليعة، بيروت.
Burger,Jerry.M(1999).Personslity,4th Edition Thomson,P52., -9
*** تشبيه فرويدي اشار اليه في كتابه(الأنا والهو)، 1982، الطبعة الرابعة، ص42، دار الشروق، بيروت.
10- لابلانش، جان(2011). اشكاليات – ج3.....التسامي، ترجمة: نهلا حرب، ط1، ص132، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت.
11- فيست، جيست و فيست كريكورى(2002). نظريه هاى شخصيت، مترجم: يحيى سيد محمدى،ص38، نشر روان، تهران.
12- FEIST.FEIST(2009).Theories of Personality,7th Edition,McGRAW,p25,-print-ed in Singapore
13- فرويد، سيغموند(1979).قلقٌ في الحضارة، ترجمة: جورج طرابيشي، ص32، ط2،دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت.
**** لابلانش،جان(2011).أشكاليات الجزء 3......التسامي، ترجمة: نهلا حرب، ص28، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت.
14- عباس،فيصل(2005).الفرويدية ونقد الحضارة المعاصرة، ص318، دار المنهل اللبناني، ط1، بيروت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح