الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمة في أزمة

السيد نصر الدين السيد

2016 / 8 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


بالأمس البعيد كان فرج فودة وبالأمس القريب كان اسلام بحيري واليوم سيد القمني مجرد امثلة لصراع بين منظومتين ذهنيتين عمره أكثر من 200 عام. وهو صراع تتعدد أشكاله بين اغتيال معنوي واغتيال مادي وتتعدد مسمياته بدءا من تهمة "ازدراء الأديان" وانتهاءا بتهمة "الكفر والالحاد". صراع كانت بدايته الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801).

"ولهم فها أمور وأحوال وتراكيب غريبة، ينتج عنها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا" بهذه الكلمات بالغة الصدق يصف لنا الجبرتي، المؤرخ المصري الذي عاصر الحملة انطباعاته عما رآه أثناء زيارته لمقر المجمع العلمي الذي أقامه الفرنسيون في بيت حسن كاشف جراكس. ويصف الجبرتي المقر بأنه مكانا لـ "صناعة الحكمة والطب الكيماوى"، ويذكر لنا ما وجده فيه من "تنانير مهندمة، وآلات تقاطيرعجيبة الوضع، وآلات تصاعيد الأرواح، وتقاطير المياه وخلاصات المفردات. والحق أقول لكم لا أجد عبارة أكثر دلالة من هذه العبارة على تخلف المنظومة الذهنية، التي كانت تحكم عقول أفراد المجتمع المصري، تخلفها عن مواكبة مستجدات الواقع. ولا أجد أصدق منها في التعبير عن الهوة الفاصلة بين منظومتين ذهنيتين لمجتمعين قدر لهما أن يلتقيا في لحظة تاريخية فاصلة. ففي ظهيرة يوم السبت الموافق الواحد والعشرين من يوليو لسنة 1798، وفى بر إنبابة، على الضفة الغربية لنيل القاهرة وبينما "خرجت الفقراء وأرباب الأشاير بالطبول والزمور والأعلام والكاسات وهم يضجون ويصيحون ويذكرون بأذكار مختلفة وصعد السيد عمر أفندي نقيب الأشراف إلى القلعة، فأنزل منها بيرقا كبيرا وأسمته العامة البيرق النبوى، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق، وأمامه وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح، ومعهم الطبول والزمور وغير ذلك"، كان ثلاثون ألف من العساكر الفرنساوية بقيادة سارى عسكرهم الشهير "بونابرطة" ينتظمون في مربعات ويتحركون بها في خطى منتظمة ليفتكوا بستين ألفا من فرسان المماليك المصرلية والعربان وبالمشاة من متطوعة القاهرة وما حولها. ولم يستغرق الأمر سوى ثلاثة أرباع الساعة تبخرت فيها كلمات المملوك المصرلى الكبير مراد بك التي رد بها على المسيو روستى قنصل النمسا عندما حذره قبل الواقعة من قدوم الفرنسيين "إنه ليكفيني إن نزلوا سواحل مصر في مائة ألف من رجالهم أن أبعث للقائهم بعض صغار المماليك ليقطعوا رؤوسهم بحد الركاب".

والمجتمع المصري، الذي عاصره الجبرتي، كانت تحكم عقول أفراده منظومة ذهنية تجمدت عند لحظة تاريخية بعينها وإنغلقت على نفسها فتوقفت عن التجدد والتطور. إنها "منظومة الخرافة" التي ارتكزت على الفكر الخرافي بشتى صوره وأشكاله في تعاملها مع ظواهر الواقع وأحداثه. منظومة توقفت عن التطور فتيبست قدرات المجتمع الذهنية وتجلت فيه مظاهر عقم الفكر وجفاف الابتكار وانعدام الإبداع. وهكذا صارت مقولة "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" هي المقولة الحاكمة لعقول أفراد هذا المجتمع عامتهم وخاصتهم على قدم المساواة، وامتد نطاق تطبيقها ليشمل شئون الدنيا ولم يعد مقتصرا فقط على شئون الدين. ولعل ملامح الذهنية المصرية السائدة في هذه الحقبة التعسة تجعلها مثالا نموذجيا لـ "الذهنية البدائية"Primitive Mentality . وطبقا لـ لوسيان ليفى- برول (1857-1939) Lucien Lévy-Bruhl، الفيلسوف وعالم الأنثروبولوجي الفرنسي، فإن "الذهنية البدائية" تتميز بالسيطرة شبه المطلقة للفكر الأسطوري والغيبي وبالغيبة شبه الكاملة للتفكير المنطقي والعقلاني.

وفى مقابل هذه المنظومة الذهنية البدائية التي تسيدت المجتمع المصري كانت المنظومة الذهنية الجديدة التي تبناها المجتمع الفرنسي مجتمع الجيش الغازي. وكانت هذه المنظومة هي المنظومة التي أنتجتها حركة التنوير الأوروبية (1700-1800) وفى القلب منها منظومة العلم الحديث. وهي المنظومة التي تبناها المجتمع الفرنسي فحررته من جمود التقليد و"خنقة" الإتباع ودفعته لاستخدام عقله في إنتاج المعرفة وتدبير الأمور. وهكذا رأينا في صحبة الجيش الفرنسي الغازي 167 من الأكاديميين من مختلف التخصصات العلمية وذلك بهدف دراسة مصر وأحوالها الطبيعية والاجتماعية. وكانت النتيجة هي ظهور العمل الموسوعي "وصف مصر أو مجموع الملاحظات والبحوث التي تمت في مصر خلال الحملة الفرنسية" الذي يتألف من عشرين مجلد (11 مجلداً من الصور واللوحات و9 مجلدات من النصوص ومجلد خاص بالأطالس والخرائط) ويحتوي على حوالي 3000 من الأشكال والرسوم التوضيحية.

ونتوقف لنتساءل عما تكون قد شهدته المنظومة الذهنية للمصريين من تحولات منذ لقاءها الأول مع منظومة؟ إن نظرة بانوراميه لأحوال هذه المنظومة في المئتى سنة الأخيرة تخبرنا بأن تطورها قد شهد مرحلتين رئيسيتين هما "مرحلة التحول المنقوص" و"مرحلة النكوص والانتكاس".

وبالطبع كان لابد أن تفعل "شرارة إمبابة" فعلها في المجتمع المصري فتدفعه دفعا لدخول مرحلة جديدة من مراحل تطوره الفكري لا أجد تسمية لها أفضل من تسمية "مرحلة التحول المنقوص". وكانت البداية عندما تولى محمد على، قائد الكتيبة الألبانية التي صاحبت الجيش العثماني عند قدومه إلى مصر عقب خروج الفرنسيين، حكم مصر في الفترة ما بين 1805–1848 م. فلقد وعى محمد على بعضا من دروس أولى المواجهات فبدأ إقامة "منظومة تعليم مدني" في موازاة "منظومة التعليم الديني" التي كانت قائمة والمتمثلة في الكتاتيب والأزهر ومؤسسات الكنيسة القبطية المماثلة. ورأيناه ينشئ المدارس العالية سنة 1816 والمدارس التجهيزية سنة 1825 والمدارس الابتدائية سنة 1832. كما اهتم محمد على بالمرحلة العالية من التعليم فأنشأ المدارس المخصوصة مثل مدرسة الطب البشرى ومدرسة المهندسخانة ومدرسة الألسن. ولم يكتفى بهذا فأرسل البعثات إلى فرنسا ليتعلم أعضاؤها بعضا من "النتائج"، نتائج المنظومة الذهنية الجديدة وفى القلب منها منظومة العلم فيدرسوا منها أدوات القوة العسكرية من علوم طبيعية وهندسية.

وهناك في باريس، وعى ابن طهطا الصعيدي الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي (1801–1873 م) وإمام بعثة محمد على لفرنسا مزيدا من الدروس فاكتشف أن دراسة "النتائج" لا تكفي وحدها ما لاستنهاض الأمة ما لم تتهيأ لها "الأسباب". فرأيناه ينشئ مدرسة الألسن سنة 1835 لإعداد المترجمين ويصدر أول مجلة ثقافية في تاريخ مصر وهي "رَوْضَةُ المَدَارِسِ". ورأيناه يؤلف الكتب التي تعرض لأحوال الأمم المقدمة (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) وتلك التي تهتم بالتربية والتعليم والتنشئة (مَبَاهِجُ الأَلْبَابِ المِصْرِيَّةِ في مَنَاهِج الآدَابِ العَصْرِيَّةِ، المُرْشِدُ الأَمِينِ للبَنَاتِ والبنَينِ). ومن بعده جاء على مبارك (1824- 1893) بمشروعه الفكري الذي ظهر سنة 1867 المسمى بلائحة رجب (1285هـ) فقام بإنشاء المكتبة الوطنية (دار الكتب) عام 1870 ولتزويد المدارس بصفوة من معلمي اللغة العربية، أنشأ مدرسة المعلمين (دار العلوم) عام 1880.

وحاول الرجلان بإخلاص كما حاول من تبعهما من الرواد الأول من أمثال البابا كيرلس الرابع الملقب يأبو الإصلاح (1806-1861)، ومحمود باشا الفلكي (1815–1885)، والشيخ الإمام محمد عبده (1849–1905)، وقاسم أمين (1865–1903)، ومن تبعهم من أمثال أحمد لطفي السيد (1872-1963) وحسين فوزي (1900-1988) ولويس عوض (1915-1990) بقدر ما أسعفتهم به الظروف السائدة، حاولوا جاهدين ومخلصين إقامة البنية الأساسية اللازمة ﻹستنهاض الأمة المصرية وﻹشاعة بعضا من مبادئ وقيم المنظومة الذهنية الجديدة في مجتمعهم القديم. ولقد أفلحت جهودهم في إنشاء كيانات جديدة تحاكى نظائرها في مواطن هذه المنظومة في الشكل وإن كانت لا تماثلها تماما في المضمون فجاءت إلى الواقع وهي مصابة بعيوب خلقية ما لبثت أن ظهرت آثارها بعد زوال مرحلة "شدة الغربال"... !؟

ولم يهتم هؤلاء الرواد، في غمرة انهماكهم ببناء الكيانات الجديدة، اﻹهتمام الكافي بتحديث الكيانات القديمة القائمة فعلا فبقيت تفعل فعلها كـ "أجهزة مناعة حضارية" تفرز مضادات التغيير وتكبح عمل آلياته. ولقد عمل الرواد الأوائل لحركة التنوير المصري على وصف مبادئ وقيم "المنظومة الذهنية الجديدة" وتقديمها، وإن كان بطريقة مجتزاه ومترددة إلى المجتمع المصري، إلا أنهم لم يعنوا بالدرجة الكافية بغرسها في صلب تكوينه وإحلالها محل "الرؤى الكلية" القديمة التي تحكم ثقافة أفراد هذا المجتمع. فرأينا خطابهم خطابا موجها أساسا للنخبة وبلغتها، معرضين، إعراضا شبه كامل، عن مخاطبة العامة بلغتهم لتشيع فيهم مبادئ المنظومة الذهنية الجديدة فتتحول إلى ذهنية عامة وثقافة شعبية، فبقيت هذه المبادئ والقيم زرعا غريبا في أرض لم تتهيأ بعد لاحتضانه.

ولم تكف "منظومة الخرافة"، التي تسيدت الذهنية المصرية، عن الدفاع المستميت عن وجودها فمارست، ولاتزال تمارس، أعنف أشكال القمع والإرهاب المادي والمعنوي تجاه أي محاولة لاستخدام بعضا من أدوات ومناهج منظومة العلم في مناقشة بعض ما ساد في هذه الذهنية من مقولات. وتتعد أمثلة هذه الممارسات القمعية بدءا مما حدث لكتاب الشيخ على عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925 وكتاب الدكتور طه حسين "في الشعر الجاهلي" عام 1926، ومرورا برسالة الدكتوراه "الفن القصصي في القرآن الكريم" التي قدمها محمد احمد خلف الله لجامعة القاهرة عام 1947 وكانت تحت إشراف الشيخ أمين الخوى.

ولا نجد تاريخا أفضل من 6 يونيو 1967 ليكون لحظة النهاية للمرحلة الأولى من مراحل التطور الذي شهدته المنظومة الذهنية للمصريين في المئتى سنة الأخيرة، "مرحلة التحول المنقوص"، ولحظة البداية لمرحلته الثانية "مرحلة النكوص والانتكاس". وهي المرحلة التي شهدت انتشارا غير مسبوق لـ "منظومة الخرافة" دعمته المنتجات التكنولوجية لمنظومة العلم الحديث من فضائيات وإنترنت ... !. وهو الانتشار الذي زاد من توحشها في التعامل مع كل من حاول التصدي لها. وليس اغتيال د. فرج فودة عام 1992 وما حدث للدكتور نصر أبو زيد عام 1995 إلا أمثلة من سلوكياتها القمعية.

ولعل أهم ما يميز المجتمع المصري في هذه المرحلة هو التسيد شبه الكامل لـ "ثقافة الغيبيات"، في أشد أشكالها تخلفا، على الذهنية المصرية وبالغيبة شبه كاملة لـ "ثقافة العقليات"، التي تقوم على العلم وأدواته، عن هذه الذهنية. انها امة في حالة انتحار تخنق بيديها أولادها ممن يحاولون إخراجها من بئر بلا قرار .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53