الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفن التشكيلي المصري وجماليات اللوحة

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2016 / 8 / 22
الادب والفن


الفن التشكيلي المصري وجماليات اللوحة
أسامة عرابي
ينطلق الفنان والناقد الكبير محمود بقشيش(1938_2001) في توجهه النقدي من مُحدِّداتٍ أساسيةٍ لديه مفادها أن الإبداع الفني لا يُولد من عدم،ولا يأتي من فراغ،بل من عمق ارتباطه بجوهر الحياة وانفعاله بها وموقفه منها وصراعه من أجل تسييد القيم الجديدة،وأن الناقد قد يسبق الجماعة الفنية أو ينشأ بين ظهرانيها؛إذ إن معظم قادة الحركات الإبداعية نقاد؛ما يعني أن وجود النقد يُفضي إلى وجود تعدُّدٍ في وجهات النظر،وتعدُّدٍ في الاختيار،وتعدُّدٍ في وضع الأسس المنهجية.لهذا شدَّدَ النبْرَ على حيوية دمقرطة الثقافة ودورها في إرساء مُناخٍ غير دوجمائي ولا متسلطٍ،بل يتوخى دومًا الارتكان إلى قواعد ذات نزعة إنسانية،تفتح الأفق أمام الدراما الدائمة والعابرة للزمن عند الفرد.من هنا؛جاءت حربه الضروس ضد"مَنْ يُروِّجون للفكر الشوفيني"،ولا يؤمنون بتلاقح الحضارات وتحاورها؛فيتمركزون حول الذات والعِرق،ويقعون أسرى الإدانة القطعية غير القابلة للتقويم النقدي وإعادة النظر،مُتسائلًا بحق:ماذا يكون عليه الحال مع الأسلوب التكعيبي،لو لم يُوجد الفن المصري والفن الإفريقي؟ وماذا سيكون عليه الحال لو لم يُستلهم فن الـ" Art nouveau"،الرسوم والمحفورات الخشبية المطبوعة اليابانية؟"، مُضيفًا:وكما نعرف،فإن هذا الأسلوب قد أولدَ فن رسوم كتب الأطفال و"الأفيش"وأدوات الاستعمال والديكور...إلخ.لذلك حَرَصَ محمود بقشيش في كتاباته النقدية على توضيح الفارق الجليِّ بين مفهوميْن يُسبِّبان التباسًا لدى "أدعياء التنظير"هما:"المغايرة" و"الانقطاع"،فإذا كانت"المغايرة"عن السلف ضرورة للتجدُّدِ وإثبات الذات،فإن"الانقطاع"عنه يعني انقطاعًا عن الذاكرة التي تُسهم في تشكيل الحاضر والمستقبل.لذا اعتمد الناقد المصري دائمًا على"مخزونه الخاص من الخبرة والتذوق وتأثير العمل الفني المباشر على حواسه ووجدانه؛ذلك التأثير المتغير دائمًا بتغيُّرِ الأشخاص وثقافاتهم"،على حدِّ تعبيره،لكن إذا وقعت عين"أحد النقاد بالمصادفة أو بالقصد،على ضوء زئبقي في إحدى لوحاتي،فأي جذرٍ من الجذور سيرده إليه؟"،يُجيب:"بالطبع سيفترض افتراضات نظرية قد تُصيب هامشًا من الهوامش دون أن تُصيب الحقيقة ذاتها"وفق ما ذهب إليه.وهنا مكمن الخطورة وإشكالية الناقد بين تمثُّلِ النظرية واستلهامها مرشدًا للفهم وللتواصل،وبين القدرة على استيعاب التجارب الفنية التي تُحلِّق بعيدًا عن الأطر والقواعد العامة،ولا يمكن بحالٍ قسرها داخلها.لهذا جاء كتابه النقدي الثامن الموسوم باسم"تمرد على الثوابت بحثًا عن جمالية مغايرة"،الصادر عن"المجلس الأعلى للثقافة"هذا العام(2016)،بعد:البحث عن ملامح قومية،النحت المصري المعاصر،كاندنيسكي،أطلال النور ومدائنه،نقد وإبداع،تجليات في النقد التشكيلي،التشكيل المصري بين الثابت والمتغير،جاء لحظة كشف واكتشاف للخطابات الجمالية وللتجارب والأساليب الفنية على صعيد العلاقات الجديدة التي يُنشئها الفنانون مع الطبيعة والعالم والمجتمع؛ما يسمح لصاحبها بالتفلُّتِ من ربقة التقليد والقواعد الثابتة،والمُضي مع تحدياته التاريخية والفلسفية العديدة،مُبلورًا مغزى مغامرة الحداثة ذاتها،وقطعِها مع كل نزوعٍ كلاسيكي،على نحو ما تبدت له في تجارب فنانين كُثر،توزعت بين"التصوير"،كما وجدها في أعمال حسن سليمان ومصطفى أحمد وأبو خليل لطفي ومحمد شاكر وزهران سلامة وحامد صقر وكامل زهيري وجورج البهجوري وسيد سعد الدين وحلمي التوني ومنير الشعراني وصلاح بيصار وإبراهيم الدسوقي ودمرجيان وجان ليون جيروم،و"النحت"كما رآها عند عبد الهادي الوشاحي ومحمد رزق وحليم يعقوب وزوسر مرزوق وجميل شفيق،و"الخزف"كما لمسها لدى محمد شعراوي وحسن عثمان وفاطمة عباس؛الأمر الذي يُعيدنا إلى مقولة"مارك جيمينيز"أستاذ علم الجمال في جامعة السوربون الجديدة- باريس الأولى،التي ترى أن"أعمال الفن،وكل أعمال الخلق عمومًا،سواء أكانت فنية أم ثقافية،تنطوي على إمكان نقدي يجعلها عصية على اندماجها التام والبسيط في النظام الحالي"؛ما يجلو ماهيتها ووثبتها الدينامية وقدرتها على تقويم الممارسة الفنية ذاتها في إطار تناغمها مع روحِ الإبداعِ والتجدُّدِ.غير أن كتاب"تمرد على الثوابت بحثًا عن جماليةٍ مغايرة"-على نحوِ ما نبهتنا في تقدمتها له عقيلته القاصَّة هدى يونس التي جمعت مادته واصطفتها للنشر_ يُعَدُّ الجزءَ الثاني لكتابه"تجليات في النقد التشكيلي"الصادر عام 2010،وتمحورت موضوعاته حول أعمال الفنانين التي أُنجزت خلال الفترة الممتدة من 1983:1995،فأتى جديده هذا ليُكمل رحلة البحث والدراسة حتى عام2000.بَيْدَ أن جُلَّ هذه المقالات كان قد سبق له نشرها في مجلة"الهلال"الشهرية،ماعدا مقالًا واحدًا نُشرَ في مجلة"إبداع"بعنوان"مدخل إلى عالم الفنان أبو خليل لطفي"،ضمن متابعاته الدءوب التي كان يُواكب بها الحركة الفنية المصرية،ويرصد من خلالها تطوراتها واتجاهاتها المختلفة،مُشيرًا- في الآن عينه- إلى آفاق الفن الحديث،وما رافقها من تصوراتٍ عن الحساسية والحدس والمخيال واللذة والمتعة الجماليتيْن.وهنا يتبنى محمود بقشيش منهجًا قوامه ربط الجمالية بهموم الزمن الراهن،والنظر إلى الفن بوصفه نشاطًا إنسانيًّا متحررًا من مقتضيات السوق والترويج الإعلامي والاستهلاك،ومرتبطًا بسيرورته في أن يصير شيئًا.وبذلك يعمد محمود بقشيش في كتابه هذا إلى إثارة قضاياعدة؛فلسفية وفنية وجمالية،تتبدى له في شُكُولٍ وألوان،في إطار السجال الراهن حول الفن المعاصر ورهانات الإبداع الفني؛فيتوقف عند مرحلة القوارير والأواني والفواكه التي لا يرسمها الفنان الكبير حسن سليمان"إلَّا بعد أن تكون قد تيبست"؛لأنه يرى"أن البهاء الذي يُغري التأثيريين بالرسم وقتيٌّ وزائل"،أما ما يتركه الزمن من الآثار في المادة فإنه باقٍ بها؛"لأن في الآثار زمانيْن:زمنًا في الماضي انتهى أمره،وزمنًا في الحاضر يُعلن عن نفسه عبر تحولات الشكل".لذلك ظلت العجائن اللونية عنده زمنًا وفق تعبير محمود بقشيش"قد يطول لسنوات قبل أن تستقبل طبقة جديدة،ومع الزمن يمنح تيبسها الإحساس بآثار الزمن وإيحاءاته الشعرية،بأن تلك الطبقات المتراكمة أو المتراكبة تتسق مع الدعوة التي تُلحُّ عليها لوحات حسن سليمان؛وهي الدعوة إلى إعلاء قيمة الزمن".بينما ألفى في لوحات"أبو خليل لطفي"(المُتْخَمة بزحام العناصر وتراكم العجائن اللونية وديمومة الحركة داخل حدود تضيق بها،وصراع الأشكال العضوية والأشكال الهندسية،واشتباك طرائق الحذف والإضافة ومحاورات التلقائي والمُخطَّط"؛بما يُفصح ويُبين عن"روح قلقة صاخبة مشغولة بهموم الإنسان المعاصر،وبإنجازات فن القرن العشرين،حريصة على أن تجدَ لها مكانًا في خارطته".في حين وجد الفنان"جورج البهجوري""فنانًا تعبيريًّا،اختار التشخيص إطارًا لتعبيريته"،لكنه لم يحدث"في تاريخ اللوحة الشخصية"أن اقتطع فنانٌ عينةً من أعضاء النموذج الإنساني،وظلَّ يُعيدُ رسمها في هوسٍ لا ينفد مثلما فعل البهجوري"،يقصد أن ولعه برسم الوجه،قاده إلى إهمال بقية العناصر المهمة مثل الأطراف،وإنْ فاته أنّه مهما تناول الوجه"بالوصف أو بالتأليف"فهو- في التحليل الأخير-" أمر محدود العطاء"،وربما كان هذا مأزقه الذي أسلمه إلى"محطة النهاية،ولم يكتشف للأسف أنها مغلقة".غير أن محمود بقشيش عندما التقاه في باريس عام 1986،وزار مرسمه في مدينة الفنون،"أدرك أنه يُعاني مما يُحيط به من أحداث فنية،يجد صعوبة في ملاحقتها"،وبدا له"أنه لم يسألْ نفسه إن كانت تلك الأحداث أو البدع تستحق الملاحقة من عدمها".لهذا استدعى بقشيش إلى ذهنه تجربة المثَّال"محمود مختار"الذي بذر في تربة الإبداع المصري فكرة حيوية مؤداها:"مَنْ يُرد الحداثة لفنه،يجبْ ألَّا يُفكِّرَ في اقتلاع بدعة من البدع الأوربية،ويفرضها فرضًا في سياق ثقافي مغاير،بل عليه أن يستنبتها من ميراثه الثقافي".لهذا احتفى محمود بقشيش بتمثال عميد الأدب العربي الذي أبدعه النحَّات الكبير"عبد الهادي الوشاحي"؛لما حفِل به من"إنجازات الجمالية المصرية القديمة،وإنجازات الفن المعاصر الأوربي"؛ولأنه"موصول بإنجازات الفنون السابقة من حيث الجمع بين حدة الانفعال وجمال البناء"،على نحو ما تبدى له في قدرته على "تنسيق العلاقات بين الكتل الرئيسة والكتل المساعدة،والتجويفات الفراغية وما تعكسه من درجات ظلية وضوئية ذات إيحاءات رمزية،وضبط الإيقاع بين موحيات الحركة وموحيات السكون،وبين موحيات التأمل العميق في وجه طه حسين".لذلك دعاه اعتزاز الفنان السوري"منير الشعراني" بفنه؛بصفته خطاطًا ينتمي إلى فنٍّ عربيٍّ خالصٍ؛هو فن"الخطِّ العربي"،إلى التنبيه إلى"ضرورة الاهتمام باكتشاف جماليةٍ تُميِّزنا عن غيرنا،ونستطيع أن نُقدِّم بها إسهامًا فاعلًا في إبداعات الثقافات المختلفة في عصرنا"؛ذلك أنه"إذا كانت حاجتنا إلى البحث عن خصوصية جمالية ضرورةً في كل وقت،فهي في هذه المرحلة الراهنة أشد إلحاحًا،ونحن نُشاهد ونقرأ كل يومٍ ما يُؤكِّد أننا مُستهدفون ولا يُرادُ لنا إلَّا أن نكون تابعين في كل شيء".وهنا يلفت محمود بقشيش النظر إلى دور العولمة الأمريكية في الهيمنة على الهويات الوطنية والثقافية لشعوب العالم الثالث؛لمحو كل خصوصية وذاكرة وأصالة،وتنميط البشر وتحويلهم إلى نسخ مُكرَّرة واستهلاكية تستجيب لإرادة الرأسمالية العالمية المتوحشة،داعيًا إلى تعزيز التعدديات الثقافية والقومية في مواجهتها؛تأكيدًا لمبدأ المشاركة الإنسانية والتطور الحر للشعوب.وبذلك يدرس محمود بقشيش"الجمالية"في إطار العلاقات التي يُقيمها الفنان مع العالم،ومع التاريخ،ومدى اشتباكه مع قضايا عصره الذي ينتمي إليه،وسيره على غير مثال سابق،مؤمنًا بتآزر الفنون المختلفة،على نحو ما نستخلصه،مثلًا،من احتفائه بمعرض الفنان الكبير"جميل شفيق"الذي أقامه في نوفمبر 1999 بمركز الجزيرة للفنون المرئية،وقدَّم فيه"تجربة ليس لها مسمى سابق في المصطلحات النقدية العربية"على حدِّ تعبيره.لهذا نحت له مصطلحًا جديدًا رآه قادرًا على الوفاء باستحقاقاته،والوقوف على جوهر مغامرته؛وهو"نحوير"،المُشتق من كلمتي"نحت"و"تصوير"؛لأن التجرِبة"لا تنتمي انتماء كليًّا إلى فن النحت المداري_الفراغي الذي يُرى من كل جانب،ولا ينتمي أيضًا إلى فن التصوير والرسم انتماء كليًّا،بل يأخذ من كليْهما بعض صفاته؛من النحت"منظوره"الحقيقي؛ومن الرسم حيوية خطوطه واستبعاده للمنظور".وبذلك استطاع جميل شفيق توظيف مفردات لغته التشكيلية وصياغتها على النحو الذي يكفل له حيوية الشكل والألوان،أو بتعبير محمود بقشيش:"إن مبدع هذا المعرض رسام أغراه التجسيم الفراغي وملامس الخشب ولونه الطبيعي ومقاومة الخراب الذي أحدثه السوس في بنية الخامة؛حتى يعيش عمله الفني معافى وغير ضارٍّ بصحة المشاهدين".ثمَّ عرَّج على تجربة الخزَّاف الكبير"حسن عثمان"في أعماله الستة التي قدَّمها في مؤتمر دول حوض البحر الأبيض الذي عُقد في مالطة،في الفترة من 25 أكتوبر إلى 5 نوفمبر 1997،واختار لها أسلوب"العمل التجميعي"،وهو ترجمة لكلمة"assemblage"،بمعنى التعشيق والتجميع،"وهو نهج يتيح للفنان أن يجمع في إطار واحد بين خامات عدة،ومجالات مختلفة؛ فن النحت وفن التصوير وفن العمارة..إلخ،وصولًا إلى مشهد رمزي مُعبِّر في فضاء أشبه بفضاء المسرح،منزوع عنه حاجزه الرابع؛ليُتيح للمشاهدين أنْ يكونوا فاعلين"،كاشفًا في الوقت ذاته"عن توجهٍ إنساني يتجاوز حدود الآني والمتعيِّن،إلى آفاق مستفبل مصر".
أجل..إن كتاب"تمرد على الثوابت..بحثًا عن جمالية مغايرة"للفنان والناقد الكبير"محمود بقشيش"يُقدِّم حوارًا ثريًّا مع التجارب الفنية المتعددة التي حفِل بها كتابه هذا،وأغنى بها منظورنا صوب الفن،عبر لغة علمية دقيقة،بعيدة عن الأحكام الجاهزة والمسبقة،تاركًا إدراكه البصري يُضيء أمداء رؤيته الفنية الثاقبة،ويستكشف بعيني طفل واسعتيْن صريحتيْن،ما يكمن وراء الأشكال الخارجية،والإشعاعات اللامرئية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز


.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن




.. هنا تم دفن الفنان الراحل صلاح السعدني


.. اللحظات الاولي لوصول جثمان الفنان صلاح السعدني




.. خروج جثمان الفنان صلاح السعدني من مسجد الشرطة بالشيخ زايد