الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العسكر وعقدة النقص في مصر

ياسين المصري

2016 / 8 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


جاء في قاموس التراث الأمريكي أن الدونية أو عقدة النقص (Inferiority Complex) هي " شعور مستمر من عدم الكفاءة أو العجز، مما يؤدى في بعض الأحيان إلى العدوانية الزائدة من خلال الافراط في التعويض "

أما قاموس أكسفورد للطب يعرِّف عقدة النقص بأنها اضطراب نفسي يعبر عن نفسه خلال "حالة الأنجاز" مما يفضي إلى نتائج معقدة من الصراع بين الرغبة في البحث عن الذات، والرغبة في تجنب مشاعر الذل من ذوي الخبرة، وغالبا ما يسبب أضطراب السلوك التعويضي مثل العدوانية والأنسحاب".

إن عقدة النقص أو الدونية هي شعور الإنسان بالنقص أو العجز العضوي أو النفسي أو الاجتماعي بطريقة تؤثر على سلوكه، مما يدفع بعض الحالات إلى التجاوز التعويضي بالنبوغ وتحقيق الذات والكينونة، أو إلى التعصب والانكفاء والضعة والجريمة في حالات أخرى. وقد صف الطبيب النمساوي ألفرد أدلر (1937 - 1870) اسلوب مواجهتها بـ " اسلوب الحياة "، و اعتبر ان كل إنسان يولد و عنده الشعور بالنقص، الذي يبدأ حالما يبدأ الطفل بفهم وجود الناس الآخرين والذين عندهم قدرة أفضل منه للعناية بأنفسهم والتكيف مع بيئتهم، مما يعطيه القوة الدافعة لتطوير قدراته. ويعرِّفها وهو أحد أبرز العلماء والمنظّرين لعلم النفس الفردي، بأنها: "شعور يحدو بالمرء إلى الإحساس بأن الناس جميعاً أفضل منه في شيء أو آخر".

وفي مجالات علم النفس والتحليل النفسي، هي شعور الشخص بأنه أقل شأنا من الآخرين بطريقة أو بأخرى. أي نتيجة لوجود مجموعة من الأفكار ذات شحنة انفعالية قوية، تدور حول ما يشعر به من قصور حقيقي، أو وهمي يدفعه إلى التعويض، وهذا التعويض إمَّا أن يمَكِّنُه من تحقيق إنجازات مبهرة على المستوى الشخصي أو الاجتماعي او أن يؤدي به إلى ضروب سلوكية متطرفة ومعادية للمجتمع ولا تحقق التوافق مع الواقع. ويفسّرها علم النفس ككل على أنها: "شعور الفرد بوجود عيب فيه يُشعره بالضيق والتوتر ونقص في شخصيته مقارنة بالآخرين وخصوصآ في حالة الأنجاز، مما يدفعه بالتعويض هذا النقص بشتى الطرق المتاحة له، أو ينكفئ على نفسه ويتسم سلوكه بالعجز والهروب من الواقع"

الشعور بالنقص في أصله شعور اجتماعي عام جداً ولا يخلو منه بشر، حيث أن الإنسان ناقص بطبيعته، وليس في "أحسن تقويم" كما يقول قرآن المتأسلمين، وأن وجود النقص في ذاته ليس عيباً، ولا يؤثّر بالسلب على مجريات حياته، إذا ظل عند مستوى معين، بل قد يهديه إلى ما يجب أن نستكمله من نقص ويحفزه على تقوية ما لديه من ضعف أو عجز. لكن التضخم المرضي لذلك الشعور هو الذي يؤدي إلى العاهات والاضطرابات والأمراض النفسية. فلو أن كل البشر بما فيهم العسكر مارسوا أعمالهم التي تعلموها وتدربوا عليها، ولم يقحموا أنفسهم في مجالات عمل أخرى لا طاقة ولا علم أو معرفة لهم بها، لما أصيبوا بتضخم الإحساس بالنقص، ومن ثم يصبح مرضًا نفسيا، مما يجعلهم يتورطون في تعويضات ملتوية وحمقاء. فمن حماقات الإنسان أن يتجاهل الواقع ويتركه نهبًا للعشوائية والفوضى، وبدلا من اقتلاع الحشائش الضارة في عمله، يتجاهلها أو يصبح جزءًا منها، فتستفحل وتخنق الزهور التي نحيا بجمالها ورحيقها.

ضمن أعراض مرض الإحساس بالنقص التي تهمنا في هذا البحث أن المصابون به يتهربون من المسؤولية، والذين يتهربون من المسؤولية هم في الحقيقة يهربون من الواقع، لأن الواقع يتضمن المسؤولية دائماً والهاربون من الواقع يجدون مهربهم في أحلام اليقظة والطموح الزائد عن قدراتهم، أو في الهجوم على الآخرين للتظاهر بالقدرة الخارقة مداواة لما يشعرون به من الضعف والوهن، وهؤلاء الناس يتخذون التحدي الكاذب سبيلاً ومنهجَ حياة في تعاملاتهم اليومية أو يلجأون إلى العدوانية أو ينسحبون إلى أقرانهم.

من الثابت أن دول منطقة العربان تعاني جميعها من التخلف السياسي والاجتماعي والثقافي لأنها محكومة منذ زمن طويل من قبل ثلة قليلة (حكم أقلية = الأوليغاركية Oligarchy) من المرضى بالإحساس بالنقص والعجز، وذلك لاعتبارات عديدة، أهمها الجهل وتغليب المصالح الشخصية على المصلحة العامة وتبني ثقافة السادة والعبيد تحت شعار إلهي كارثي هو: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ} النساء 59 . ويزداد الوضع سوءًا عندما يحكم دولها ديكتاتور يتمسح بالعسكر دائما ليأمن جانبهم أو تحكمها طغمة من العسكر أنفسهم، فالعسكري ديكتاتور بحكم تعليمه وممارساته المهنية، الأمر الذي يؤدي به إلى الإحساس بالنقص والعجز وقلة الإمكانيات والمقومات أو انعدامها تماما، عندما ينخرط في عمل آخر غير عمله الحقيقي، خاصة إذا كان هذا العمل مرتبطًا بقضايا جماهيرية.

هذا البحث لا يتناول الحياة الشخصية للعسكر الذين يحكمون مصر منذ يوليو 1952، ليس لصعوبة ذلك فحسب، ولكن لأن حياتهم الشخصية لا تهم بقليل أو كثير في البحث عن هذا المرض الناجم عن حياتهم العامة، أي أصيبوا به بعد استيلائهم على السلطة في البلد، فكانت له عواقب وخيمة، مازالت البلاد تعاني منها حتى الآن.

كان لابد أن يصابوا بعقدة النقص بشكل لا لَبْس فيه عندما واجهوا مسؤولية، كانت - ولازالت - أكبر بكثير من إمكانياتهم التعليمية وقدراتهم النفسية. فهم ضباط في الجيش والمفترض أنهم لم يتعلموا سوى استعمال الأسلحة وإطلاق نيرانها على العدو والقضاء عليه قبل أن يقضي عليهم. وربما يكون الكثيرون منهم لم يقرأ كتابًا مفيدًا واحدًا في حياته.

وعندما قام مجموعة من ضباط الصف الثاني أو الثالث في الجيش المصري بانقلابهم بزعامة البكباشي جمال عبد الناصر، لم يكن في نيتهم إزاحة الملك عن منصبه، وكانت أهم مطالبهم إجراء تعديلات في الجيش ومحاسبة الذين تسببوا في هزيمتهم في حرب 48 أمام دويلة ناشئة حديثا إسمها إسرائيل، متهمين إياهم بأنهم أمَدُّوهم بـ"أسلحة فاسدة"، والتي ثبت من التحقيقات فيما بعد أنها لم تكن فاسدة على الإطلاق، وأن الفساد كان ولازال فيهم هم، ولكن ما العمل والمثل الشائع يقول: " حجة البليد مسح السبورة".

وبين ليلة وضحاحا وجدوا أنفسهم - بلا منازع - على قمة السلطة في دولة كان تعدادها آنذاك 21 مليون نسمة وكانت تحبوا على أعتاب الديموقراطية والتعددية السياسية، وتتمتع باقتصاد قوي يمكِّنها من إقراض الفروض لدولة عظمى مثل بريطانيا، وتتمتع أيضا بموقع جغرافي متميِّز، ولديها قناة السويس، تحتاجها التجارة العالمية بشدة، وفيها شمس طوال العام وشواطىء نظيفة وآثار فرعونية أبهرت العالم، وأثار رومانية وقبطية وإسلاموية، وفيها آبار بترول ومناجم ذهب، وفيها شعب يتسم بالذكاء الفطري والنشاط العملي في كافة المجالات، مما جعله رائدا في المنطقة بأسرها. وجدوا دولة بكاملها في قبضتهم دون عناء أو إراقة دماء. لم يكونوا معروفين في الجيش أو الشعب، فلجأوا إلى رتبة كبيرة يعرفها الجيش ويكن لها الاحترام، ولديه شخصية كاريزمية هادئة وتعطي إحساسًا بالأبُـوَّة، هو اللواء محمد نجيب، ليتخذوا منه مطية توطِّد سلطتهم وتمكنهم من السيطرة الكاملة على البلاد والعباد، ثم يتخلصون منه فيما بعد.

العسكر الذين لم ينتصروا قط في أي من الحروب التي خاضوها، وجدو أنفسهم في غفلة من الزمن أمام عمل جسيم لم يتهيأوا له - نفسيا أو علميا - بشكل ما، فكان لابد أن ينتابهم الشعور بالنقص والعجز، ومن ثم يتخذون مسلكاً عكسياً، فبدلاً من تحقير أنفسهم والشعور بهوانهم، ومعرفة نقاط ضعفهم، والعودة إلى ثكناتهم، كما طالبهم محمد نجيب، سيطر عليهم رونق السلطة، وأخذتهم جذوة السيطرة، فبدأوا يختطون تحقير الناس والتهوين من شأن المجتمع وما فيه ومن فيه، وراحوا يتكلمون بلهجة التعالي أو التعالم ويظهرون بمظهر الخيلاء وانتفاخ الأوداج، ولأنه مطعون في ثقافتهم وإمكانياتهم، فقد عمدوا في خطابهم السياسي إلى إقحام ألفاظ اصطلاحية غير مفهومة من الجميع بمن فيهم هم أنفسهم مثل "الاشتراكية والعروبة " وغيرهما، وبالغوا في تأنقهم وحب الظهور، سواء ارتدوا الزِّي العسكري أو المدني، كوسيلة لتعويض الشعور بالنقص.

أصابهم مرض جنون العظمة الذي يصيب الغالبية العظمى لحكام هذه المنطقة وهو مرض ينبعث من منطقة اللاوعي بحيث يكون المريض يعي أو لا يعي اجتماعيا وهم إدعاءاته وسوء تصرفاته، فهو يستخدم هذا الأسلوب لغرض ما يندرج في سياق الافتراء أو التضخيم أو تعويض عن عقدة نقص.

ولأن السلطة لها رونق لا يقاوم خاصة في الدول المتخلفة سياسيا واجتماعيا وثقافيا، فقد كان ومازال الهم الأكبر للعسكر في مصر هو توطيد سيطرتهم على كافة مرافق الحياة في البلد، فكانوا كلما اتخذوا خطوة سياسية تزيد من إحساسهم بالنقص، وتعكس عجزهم وعدم كفاءتهم للممارسات السياسية، فوجدوا أن العمل الديماجوجي الغوغائي أسهل بكثير من عمل العقل والمنطق.

أستاذ علم النفس د، يحيى الرخاوي يعتقد بعد تحليله لشخصية زعيمهم عبد الناصر أنه كان يمتلك عدة صفات متلازمة وإن كانت متناقضة في كثير من جوانبها، حددها كالآتي:

1. الشجاعة، وخاصة قبيل الحدث وبعده لا أثناءه.
2. الانسحاب، وخاصة تحت عنوان الحرص على مصلحة الناس.
3. العطف، وخاصة من موقعه "من فوق" كرئيس.
4. القسوة.
5. الصداقة، وخاصة ردًا للجميل.
6. الثللية أو الشللية، وخاصة اتقاءً للخيانة.
7. الجهل، وخاصة في التاريخ والاقتصاد.
8. العناد، وخاصة أمام جرح الكرامة.
9. الانهيار، وخاصة عند المفاجأة.
10. الأمانة، وخاصة في مجال رفض النفع الشخصي.
11. الكرم، وخاصة من مال الدولة عبر منح "الهِبات".
12. المناورة، وخاصة إذا تصور أن ذلك لتحقيق المصالح العامة.
13. الصلف، وخاصة حين يقدر بعد الجرح.
14. البذاءة، وخاصة حين يُستثار.
15. الاستهواء أو القابلية للإيحاء من الغير، وخاصة حين يعاشر الأذكياء الخبثاء.
16. الايحاء للغير، وخاصة حين يخاطب البسطاء.
17. المثابرة، وخاصة حين يتوقف الآخرون.
18. الانفراد بالقرار، وخاصة إذا سبق صدق حدسه في خطبة قريبة.

ومن الملاحظ أن الدكتور الرخاوي فاته أن عقدة النقص هي العامل الأساسي وراء كل هذه السلوكيات وغيرها، فالإنسان الذي يعاني من الشعور المزمن بالنقص أو الدونية يتسم في وقت ما بالشجاعة والمثابرة، وفي وقت آخر بالانسحاب أو الانهيار، وأحيانا يعرف عنه الصداقة والأمانة والكرم، وفي أحيان أخرى يسيطر عليه العناد والصلف والبذاءة، وهكذا يكون سلوكه متناقضًا وخطيرًا في نفس الوقت، بحيث يبدوا وكأنه مصاب بمرض الفُصام أو السكيزوفرينيا (Schizophrenia)، أي الاضطراب العقلي الشديد والمزمن، والذي يؤثر على سلوك وتفكير المصاب وادراكه. ويشير إلى اضطراب نفسي يتسم بسلوك اجتماعي غير طبيعي وفشل في تمييز الواقع وانعدام الإرادة، بالإضافة إلى انخفاض المشاركة الاجتماعية والتعبير العاطفي. وغالبًا ما يكون لدى المصابين بالفصام مشاكل نفسية أُخرى مثل اضطراب القلق والاضطراب الاكتئابي واضطراب تعاطي المخدرات. كما تشمل أعراضه الشائعة الوهام واضطراب الفكر والهلوسة السمعية وعادة ما تظهر الأعراض تدريجيا، حيث تبدأ في مرحلة البلوغ، وتستمر لفترة طويلة.

والواقع أن عقدة النقص لم تكن خاصية مميزة للبكباشي عبد الناصر وحده ولكنها تميز أي شخص يضع نفسه أو تضعه الأحداث في مكان أكبر من إمكانياته العلمية وأوسع من طاقاته المهنية. يقول الرخاوي: " فرحنا لأن أعضاء مجلس قيادة الثورة سهروا حتى الفجر في اجتماع وذهب أحدهم ليشتري سندوتشات فول وطعمية، ثم تطور الأمر بعد ذلك وتغير مزاج وطعام وسهرات أغلب هؤلاء وأولادهم ونسائهم في حياتهم وبعد مماتهم".

وتساءل عما كان يفعله عبد الحكيم عامر في الجيش المصري، حيث كاد الأمر أن يصل إلى تسجيل الجيش المصري باسمه في الشهر العقاري حفاظًا علي تأمين جانبه، "أليس هذا سرقة للمال العام وللجيش العام ولثورة الشعب جميعها؟"، ويضيف في معرض رده على من يقول بأن عبد الناصر كان نزيها ولم يسرق مثل غيره : "إن عبد الناصر رحمه الله قد تقمص الدولة والسلطة والبلد. حتى أصبح نفسيًا على الأقل هو النظام، فهل يسرق نفسه من نفسه ليؤمن نفسه؟!".

لا شك في أن عبد الناصر أُعطيَ من الإمكانيات والمقومات ما يمكنه من القيام بأعمال عظيمة وخارقة، خاصة وأنه تمكن من تعبئة شبه كاملة للجماهير من حوله في بداية حكمه وحتى نهاية الستينات، ولكن إحساسه بالنقص والعجز بدد كل مالديه من الإمكانيات والمقومات، وتركه عاريا في صحراء السياسة المحلية والدولية حتى مات كمدًا.

إن السلطة في المنطقة الشرق أوسطية برمتها تغري كل شخص بالقفذ عليها واحتكارها له مدى الحياة، والعمل قدر استطاعته على توريثها إلى أبنائه. وذلك لأنها لا تخضع لضوابط أو آليات. صحيح يوجد دستور وقوانين أساسية في أغلب بلاد المنطقة، ولكن الحاكم فوقها جميعها، ويمكنه أن يعبث بها متى وكيفما شاء دون مراقبة أو محاسبة أو وازع من ضمير.

يقول الأستاذ عبد الغني سلامه: "بعض الزعماء العرب يعانون من اضطرابات وعقد نفسية خطيرة، جعلت من بعضهم محترفين باللصوصية والاختلاس وآخرين منهم مجرمين عتاة يقتلون خصومهم بكل قسوة ودون أن يرف لهم جفن، ولكن أكثرهم يشتركون في خصيصة الالتصاق بكرسي الحكم لدرجة تتفوق على أقوى أنواع الغراء الطبيعي والصناعي، ومقابل الاحتفاظ بهذا الكرسي تجدهم أحيانا مستعدون لفعل ما لا يخطر على بال الشيطان، وقد نصّبوا أنفسهم حكاما إلى الأبد، في أنظمة تطلق على نفسها تسمية الجمهورية، والتي أصبحت على أيديهم جمهوريات وراثية، تحكمها سلالات جديدة. بحيث يبقى الرئيس حاكما للبلاد مدى الحياة، وأولاده مرشحين طبيعيين لوراثة الحكم من بعده".
أنظر: الحوار المتمدن ، التحليل النفسي للزعماء العرب، عبد الغني سلامه،
2011 / 9 / 2

لقد أرسى عبد الناصر قواعد نمطيًة للديكتاتورية الفاشية في مصر، راحت بمرور الوقت تفرض هيمنتها الأمنية والاقتصادية على البلاد والعباد. فالعسكر بحكم تعليمهم وممارسة مهنتهم لابد وأن يكونوا ديكتاتوديين طغاة، ولابد من تنفيذ الأوامر في أي جيش دون تردد أو تفكير في الأسباب أو العواقب. والديكتاتور عادة عندما يدخل إلى مجال غير مجاله الأساسي ينتابه حتما مرض جنون العظمة (ميغالومانيا)، حيث يكون جزءاً من شخصيته "البارونوية" أو عرض من أعراضها، فيختزل كل شيء في شخصيته و يرى العالم من خلالها فقط، كما هو حال القائد في المعركة. يتصور نفسه هو المركز و كل ما يدور حوله ينطلق من وجوده ومن تعليماته وفعالياته. وقد يبدو ظاهرياً سليماً من حيث القدرة العقلية، إلَّا أنه يبني استدلالاته على أوهام وحوادث غير واقعية. فبشكل عام يعيش الطغاة في عالمهم الخرافي الخاص متقوقعين على مجدهم الذاتي منفصلين تماماً عن الواقع، فمثلاً في تصريح لنيقولاي تشاوشيسكو على سؤال لأحد الصحفيين عما إذا كانت المظاهرات التي عمت مدن رومانيا ستؤدي للتغيير وهل يخشى أن تتطور الأمور للأسوأ ، قال : لا يوجد شيء مما تقولونه، واستطرد بعنجهية مستهزئاً "لن يحدث تغيير في رومانيا إلا إذا تحولت أشجار البلوط إلى تين"، بعد أربعة أيام فقط من هذا التصريح تم القبض على الطاغية هارباً مع زوجته و تم إعدامهما رميا بالرصاص. كما أن ظاهرة العقيد الليبي معمر القذافي سوف تبقى راسخة في الأذهان أمد الدهر.

إن حكم العسكر يندرج ضمن الانظمة السياسية الفاشية التي تسعى دائما لاشعار مواطنيها بالضعف والنقص ـ سواء امام ما يتوجب على السلطات توفيره لمواطنيها او في حالة سعي المواطنين في سبيل الحصول على حقوقهم. فطبع الانظمة الفاشية هو الذهاب إلى خلق هالة ضخمة لامكاناتها المادية وآلة البطش التي تمتلكها. فتمارس بطشا جبَّارًا لاقناع المواطنين بعدم مقدرتهم أو ضعفهم لنيل مبتغاهم. فلا تجد تجمعا سياسيا الا وقد مورست بحقهم اقسى انوع القمع بقصد ايصالهم إلى القناعة بعدم الجدوى في التغيير ان لم تكن هنالك ارادة تغيير يتبناها النظام نفسه. وقد يرى المواطن نفسه بحاجة تامة لهذه السلطات لانها مصدر رزقه وأمنه، مع أن هذا الأمر يضعف ثقة المواطن بقدرته على تحقيق أمنه او طموحه او جلب رزقة او حتى الدفاع عن وطنه. وهذا يتضح في الهزائم المتكررة في كل الحروب التي خاضها عبد الناصر. وفي استسلام بعض الجيوش في بداية المعارك وقبل أن تطلق رصاصة واحدة.

وعندما تتمدد هيمنة الفاشية العسكرية، تسعى إلى اساليب أخرى إلى جانب الهيمنة الأمنية والاقتصادية لدعم ممارسات القمع، فتسيطر على ثقافة البلاد لتوجيهها باتجاه مصالحها، من خلال بث الفكر الاستسلامي وفكر الخضوع والخنوع وتأليه السلطات، وقد يكتب هذا الفكر في احيان كثيرة في اطر دستورية او قانونية، تفيد بان الملك او الامير او الرئيس فوق كل اعتبار تشريعي او قانوني. أي أن مفهوم القانون يتحدد في جهة واحدة هي تعظيم السلطات واضعاف المواطنين. وقد يدعم ذلك ايضا بمناهج دراسية تؤكد شرعية السلطات في كافة ممارساتها، على أساس طاعة الله والرسول وألي الأمر. هذا السلوك لا ينمي انتماءً للوطن، كما لا يبني مجتمعا او افرادا اقوياء يمتلكون زمام امورهم ويسيِّرون حياتهم وفق ما يعتقدون بل وفق ما يعتقد النظام السياسي الفاشي. هذا ما نراه اليوم من تدخل العسكر في كل مرافق الحياة في مصر، وبنائهم لجمهورية من الجنرالات تتمتع بميزات فوق كل الأعراف الدستورية والقانونية، مما يعمل على شُل المؤسسات الحكومية الأخرى وإعجازها عن آداء أعمالها، فتحيل مشاكلها إلى السلطة العسكرية وتريح نفسها.

إن احساس الحكام العسكر بالنقص جعلهم يحطون من قيمة المتعلمين وإقصائهم عن المناصب العامة (شوية أفنديه، كما وصفهم الرئيس السادات)، بل وجعلهم لا يعطون أهمية ما للأبحاث الجامعية ومن الملاحظ أن هناك تطورًا خطيرا في اختيار جمهورية الجنرالات للحكام العسكريين في مصر من السيء إلى الأسوَأ، فخوفها الشديد على ما حققته لنفسها منذ عهد عبد الناصر من مصالح كبيرة ومميزة على كل الأصعدة، عمدت إلى أقصاء الرئيس المدني الإخواني المتأسلم من سدة الحكم بعد عام واحد من انتخابه. ودفعت إليها بشخصية الجنرال عبد الفتاح السيسي التي قال عنها الخبير التونسي الدكتور "مبارك الأشقر" في قراءة نفسية وحركية أعدها في مقال نشره المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، إنه :
يكذب ويريد فرض أكاذيبه بالقوة
لم يحقق رغباته وأقسم بسحق كل من يقف ضده
يجد صعوبة في التواصل مع الشعب
يشعر بالمرارة والعجز واليأس
فاقد للتواصل مع الأخرين

و هذه الخصال تضاف بالمثل إلى ما كان عليه مؤسس الجمهورية العسكرية الفاشية في مصر، وجميعها تشير إلى مرض الإحساس بالنقص المزمن. فالعجيب أن السيسي قال في صحيفة الأهرام الحكومية الرسمية بتاريخ (11-4-2013) أي قبل إزاحة الرئيس مرسي: "إن الجيش المصري لا يتدخل في الشأن السياسي"، وأضاف خلال حضوره إجراءات رفع كفاءة أحد التشكيلات المدرعة بالمنطقة المركزية العسكرية: "إن مصر تتسع لكل المصريين بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم"، وشدد على أن استدعاء الجيش المصري للحياة السياسية مرة أخرى أمر في غاية الخطورة، وقد يحوّل مصر إلى أفغانستان أو الصومال". والعكس هو الذي حدث بالضبط، ويجب أن يحدث لأن تجريد جمهورية بكاملها من مصالحها وامتيازاتها فوق الدستور أو القانون تتطلب جهدًا كبيرًا وتضحيات جسيمة ممن يخلصون الحب لأوطانهم وبني جلدتهم، وينشدون الحياة الإنسانية الكريمة أجيالهم القادمة.

إن جمهورية الجنرالات لا هم لها سوى الحفاظ على ممتلكاتها من خلال الانهماك في صنع المؤامرات ضد: المعارضة، النقابات، الصحافة، الأحزاب، الدول القريبة والبعيدة، مجلس الأمن، وحتى وزرائها ومستشاريها، إذ لا يمكنها التفريق بين النقد والعداء وبين النصيحة والاتهام، لذا رئيس الدولة وقد وصل به الوسواس القهري إلى أن حارسه الشخصي يبقى إلى جانبه باستمرار لا يفارقه كظله وبكامل سلاحه واستعداده للانقضاض، وعندما يسيطر عليه الشك والريبة تصبح شخصيته عدائية وعدوانية حتى مع اقرب الناس إليه، فينشأ عن تطور حالة التوهم الضلالي شخصية "سايكوباثية"، وهي شخصية عنيفة مفترسة تستخدم كافة الأساليب في تسخير الآخرين والسيطرة عليهم، تفتقد الشفقة والرحمة وتتلذذ بعذابات الآخرين. ولا تتوقف المشكلة عند حدود الشك، إذ يوّظف الرئيس جل طاقات الشعب وموارد الاقتصاد وثروات البلاد لخدمة المعركة المتخيلة في ذهنه والمفروضة عليه شخصيا من أعدائه، الذين ما انفكوا يبحثون عن الفرص للإيقاع به.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مادة وتحليل أكثر من رائع ولكن
عدلي جندي ( 2016 / 8 / 27 - 12:49 )
حضرتك كتبت تقول
العسكر الذين لم ينتصروا قط في أي من الحروب التي خاضوها،
يا أستاذنا العسكر إنتصروا علي الشعب المصري والديل هو منذ إنقلاب البكباشي وحتي رئاسة المدني الأهطل ( مرسي الأخوانجي) العسكر هم أصحاب البلد -تقريبا كده يعني زي ما غزا البدو بحميرهم مصر وإستحمروا الشعب نفس الفكرة تمكن العسكر من غزو الضمير المصري وجعلوا الشعب يرقص لهم ويغني تسلم الأيادي وكأن العسكر ليسوا من الشعب وما قام به الجنرال كمصري يشابه ما قام به محمد علي مع الفارق في الذكاء والفطنة والتحضر
مصر دولة وشعب ومنذ زمن بعيد لا زالت ساحة للمجرمين والصعاليك يديرونها بحسب ما يريدون وليس بحسب معطيات ومتطلبات العصر
شكرًا
وافر التحية


2 - الأستاذ عدلي جندي
ياسين المصري ( 2016 / 8 / 27 - 16:54 )
أتفق تماما مع ما قلته، فالموضوع يطول شرحه، لأن مصر تعاني من حكم الرعاع منذ ما يقرب من 1500 عام .
شكرا لك مع وافر تحياتي واحترامي لشخصك العظيم


3 - المشكله فى العقليه الاسلاميه
على سالم ( 2016 / 8 / 27 - 18:57 )
استاذ ياسين , تحليل ممتاز يكشف ويفضح سرطان حكم العسكر المتخلف والفاسد والقاصر عقليا , دعنى اقول حتى وبعد ان وضعنا ايدينا على نقاط الخلل فى منظومه الدوله المريضه نجد من الناحيه الاخرى والعمليه ان الحل يكاد يكون من سابع المستحيلات وانا اعنى هنا وباء الدروشه والعقليه الاسلاميه السلفيه البدويه والتى ابتلى بها الغالبيه الكاسحه من ابناء مصر فاقدى الهويه والتى تجعل من تحول الشعب الى التوجه العلمانى من دروب المستحيل , انها المساحه الحرجه الهامه فى اى شعب من الشعوب التى تجاهد فى الخلاص من افه الحكم العسكرى بمعنى اذا لم يكن اسلام فى مصر يكون سهلا للشعب التخلص من سطوه المجرمين العسكر القاصرين القمعيين كما حدث فى دول كثيره واصبحت فى غايه التقدم , انت كما ذكرت انها حلقه متصله متشابكه مع بعضها شكلت كيان هذه الامه التعيسه المعذبه , شكرا لك


4 - على ناس ناس
هانى شاكر ( 2016 / 8 / 27 - 20:36 )

على ناس ناس
_________

تقول النكتة ، ان يوم وفاة عبد الناصر دخلت جيهان السادات على ارملة عبد الناصر لتعزيها ... فكانت الارملة تولول قائلة : يا سنة سودة

قاطعتها جيهان : على ناس ناس يا مرة!

الغرض هنا ليس على التندر على الحثالة التى حكمت و ما زالت تحكم مصر و لكن لجذب الأنظار على المناخ و التربة التى تترعرع فيها هذه الحثالة

ما قامت به من ممارسة شذوذها يصلح فقط فى مصر و سوريا و العراق و ليبيا و موريتانيا ... الخ

مستحيل هذا فى مجتمعات و دول اخرى

أمامنا كمصريين الف سنة اخرى لنرتقي الى مرتبة الحمير ... كما كنّا نتندر و نقول هذا عن اليمنيين زمان


شكرًا للسيد الكاتب و السادة المعلقين الذين تفضلوا بتوضيح ان المرض فينا اولا

....



5 - الأستاذ على سالم
ياسين المصري ( 2016 / 8 / 27 - 22:29 )
نعم عندك حق فنبي الأسلمة كان مجاهدًا في سبيل السلطة والنفوذ وكان مصابا بمرض حب العظمة ، ولذلك هو القدوة والأسوة لجميع المتسلطين، هناك إذن شيء هام يجمع حكام المنطقة جميعا مع تجار الدين وسدنته منذ ظهور هذه الديانة وحتى الآن . كلاهما يبني مجده المزيف على سلوك نبيهم
كلاهما بنى جمهورية خاصة به في مصر التعيسة تتمتع بالسلطة والنفوذ والثروة والخلاص مإحداها يتطلب بالضرورة الخلاص من الأخرى، ولكن للأسف سوف يكون الثمن باهظا والضحايا لا حصر لها.
شكرًا لك مع أطيب تحياتي لشخصك العظيم.

اخر الافلام

.. صواريخ إسرائيلية -تفتت إلى أشلاء- أفراد عائلة فلسطينية كاملة


.. دوي انفجارات في إيران: -ضبابية- في التفاصيل.. لماذا؟




.. دعوات للتهدئة بين طهران وتل أبيب وتحذيرات من اتساع رقعة الصر


.. سفارة أمريكا في إسرائيل تمنع موظفيها وأسرهم من السفر خارج تل




.. قوات الاحتلال تعتدي على فلسطيني عند حاجز قلنديا