الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطائفية والعلوية السياسية وأشياء أخرى … حول طبيعة النظام السوري (1)

سلامة كيلة

2016 / 8 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


في الآونة الأخيرة دار نقاش متعدد وكثيف حول طبيعة النظام السوري، لكنه تمحور حول طائفية النظام، لتأتي فكرة د. صادق جلال العظم حول “العلوية السياسية” كمكمل لذلك. ولا شك في أن هذا الميل للتركيز على “الطابع الطائفي” للنظام، والتكرار المكثف لأفكار بدت مكرورة، يرتبط بتضخم دور القوى الأصولية في الثورة السورية، وفي الانتقال إلى الصراع الغريزي الذي يحتاج إلى ما هو “ماهوي”، حيث بدا خطاب وصم النظام بالطائفية مرافقاً لخطاب علني أو ضمني يبرر “المظلومية السنية”، أو يتحدث من موقع السنة.

ورغم أن توصيف النظام بأنه نظام علوي قديم لدى “النخب”، لكن هذا التوصيف كان يتوارى خلف التوصيف الذي تكرر طيلة العقود الأربعة السابقة، وهو المؤكد على دكتاتورية وشمولية النظام، أي التوصيف الذي كان ينطلق من التحديد السياسي، أي التحديد الديمقراطي. لهذا كان الاستبداد محور خطاب المعارضة، وكان مطلب الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية هو الحاكم لعقلها. بالتالي يمكن القول بأن هذه “النخب” قد انتقلت الآن من “الخطاب السياسي” إلى “الخطاب الثقافي”، فأصبح الأمر يتعلق ليس بسلطة مستبدة بل بـ “طائفة حاكمة”، رغم أن الأحقية هي لـ”الأغلبية” وليس لـ”الأقلية”، أي أن الأحقية هي للسنة وليس للعلويين. بالتالي يصبح الصراع هو صراع من أجل “حق الأغلبية” التي هي السنة، في الحكم، الحق “الطبيعي” لها كونها أغلبية.

طبعاً هنا عودة للمنظور الأصولي الذي ينطلق من الدين والطائفة في تحديد الصراعات، المنظور الذي ينطلق من فهم الواقع والوقائع انطلاقاً من “الدين” أو “الطائفة”، حيث البشر منقسمون على أساس ذلك. هذا يطرح السؤال حول أي منظور يجب أن ننطلق منه؟ ومن ثم كيف نفهم وضع الدين والطائفة كهوية وكأيديولوجية؟ بالتالي من أي منظور يمكن أن نحاكم الواقع، أن نبحث في الواقع؟ فرغم الأحكام التي تصدر يمكن لمس أن هناك تداخلاً بين المنظور المنهجي والموقف الأيديولوجي، حيث يطغى الأيديولوجي متخذاً لذاته بُعداً منهجياً. لهذا نلمس بأن كل موقف وكل تحليل هو بحاجة إلى تفكيك لكي يظهر الأيديولوجي المتخفي خلف المنظور المنهجي. أقصد هنا أن تحديد الطائفي يمكن أن يكون نابعاً من منظور طائفي مقابل، وبالتالي تفرض طائفية الذات اتهام الآخر بالطائفية رغم أنه يمكن ألا يكون كذلك. فوفق القول الفلسفي فإن تحديد الآخر هو تحديد للذات كذلك. ولهذا يتحوّل النظر الطائفي الى منهجية تحليل، يصبح النظر الى الواقع خاضعاً لمنهجية تقوم على فهمه انطلاقاً من “أدوات” تعتبر الدين والطائفة هي أساس فهم المجتمعات. بالضبط كما أن هناك من يعتبر القبيلة هي أساس فهم المجتمعات.

إذن، حين نتناول النظام السوري ما هو الأساس المنهجي الذي يحكمنا؟ وبالتالي كيف نحدد الطائفية؟

هذان السؤالان يغيبان عن الحوار، وعن كل الضجة حول طائفية النظام، وعن قبول “المظلومية السنية”، والدفاع عن القوى الأصولية (حتى أحياناً وفي العمق عن داعش). ولا شك في أن “المظلومية السنية” توصل إلى ذلك، لأن المنطلق فيها هو منطلق طائفي، أي أنه ينطلق من طائفة “الأغلبية” وطوائف “الأقليات”. وبالتالي يتحصّن بأحقية “الأغلبية”، حيث تتمظهر “الأغلبية” هذه بالأصولية، الأصولية التي هي التعبير عن “السنة”. من هذا الأساس تأخذ الأصولية المتمثلة في قوى طائفية تدعي أنها سنية، شرعيتها، وتوسع وجودها.

بالتالي هل يجب أن ننطلق في نظرنا للواقع من “الانقسام الهوياتي” الذي شكّل طابع العصور القديمة، حيث كان الدين، الذي هو أيديولوجية السلطة، هو أساس تحديد التمايز بين البشر، وهو القانون الذي يميّز تعامل الدولة مع “مواطنيها”؟ هل التمايز الديني والطائفي هو الأساس الذي يحكم تصرفات البشر، ويحدِّد طبيعة العلاقة فيما بينهم؟ المنظور الأصولي الذي يعتمد الفقه أساساً لفهمه ينطلق من هذا التمييز بين البشر، ويعيد إنتاج شكل الصراع القديم سواء بين الأديان، أو بين الطوائف، خصوصاً بين الطوائف، رغم أن الصراع القديم لم يكن دينياً أو طائفياً، لأن الطوائف تشكلت بعيد انهيار الإمبراطورية العربية الإسلامية، حيث تحوّل الانقسام الاجتماعي وأشكال الصراع الذي كان يتخذه إلى تشكّل “طوائف”، والانقسام إلى “أغلبية سنية” وأقليات “طائفية”. لكنه انقسام قام على “التعايش”، بالضبط لأن أساس الصراع بينها قد تلاشى مع انهيار السلطة الطبقية التي كانت تحكم باسم الدين، وتحوّل إلى تنوّع متعايش برغم الاختلافات.

التطور الفكري الحديث كشف أساس ذاك الصراع وأساس الانقسام الذي نشأ، وتجاوز المنظور الفقهي لمصلحة تصورات أخرى، سياسية أو طبقية. فالنقلة التي تحققت مع الحداثة تحدَّدت هنا، بعد أن حلت العقلانية محل الميتافيزيقا، وتعممت مفاهيم الشعب والمواطنة، وبالتالي نشوء المنظور الاجتماعي. بالتالي أصبح تحليل الظواهر الدينية والطائفية خاضعا لمنظورات جديدة، لا تفسرها بذاتها بل تعيدها إلى عناصر أخرى. رغم أن الاستشراق بمنظوره المثالي ظل ينطلق مما هو “ثقافي”، و”فوقي”، أي مثالي، فأنتج الفهم الثقافوي للتاريخ، هذا الفهم الذي ظل ينطلق من الانقسام الديني والطائفي والقبلي، ويرى الواقع انطلاقاً منه. وانطلاقاً منه أعاد خطاب العولمة تعميمه، بالتأكيد على مفهوم المكونات.

انطلاقاً من ذلك كيف نفهم الظاهرة الطائفية؟

هنا يمكن أن نحدد ما هو معنى الطائفية، ونتناول الوعي الطائفي. الطائفية هي التعصّب في كل طائفة (وهنا أقصد كل الأديان أيضاً) انطلاقاً من التشكُّل الماضوي، والصراعات التي نشأت على أساسه كما تبلورت في أيديولوجية كل طائفة. وبالتالي تحويل هذه الأيديولوجية إلى مشروع “عملي” (أي سياسي). هذا يظهر بشكل جلي في الإسلام الذي توزّع منذ القرن الحادي عشر إلى طوائف، وحيث أنتجت كل طائفة منظورها الانكفائي أو العدائي. وإذا أخذنا التاريخ التالي سنجد بأن الميل العدائي تبلور لدى فئات في السنة والشيعة، حيث قام التبلور السني التالي لانهيار الإمبراطورية على تكفير كل التيارات “المنشقة”، أي تلك التي خرجت من رحم الإسلام (وتجاوزته في بعض الحالات). بينما كان ميل الإسماعيلية والدروز والعلوية انكفائياً، بهدف الحفاظ على الذات، بعد أن كانت تشكّل تيارات فكرية ومعارضة سياسية “طبقية”.

هنا تصبح الأيديولوجية الخاصة بالذات في موقفها من الآخر هي المحرِّك لكل نشاط، لهذا تتعدى على الآخر، بعد أن تكون قد فرضت على الذات نظامها الصارم الذي عمل التاريخ على هلهلته. هذا ما جعل مجموعات من “السنة” تقاتل الشيعة، وأخرى من “الشيعة” تقاتل السنة. وأنتج “تعصباً مسيحياً” في لبنان. حيث سنلمس بأن ذلك كان يتبلور في أحزاب، أحزاب طوائفية. الطائفية تتمظهر هنا أولاً، لكن يمكن انقياد فئات من كل طائفة إلى صراع طائفي في لحظات معينة نتيجة أسباب وضعية، أو نتيجة شحن من تلك الأحزاب. بالتالي هنا يمكن جرف فئات مهمشة إلى مسار تعصبي في مواجهة الآخر.

في مستوى آخر نلمس تشكُّل “دول طوائفية”، أي دول تقوم سلطتها على التقاسم (والتحاصص) بين أديان وطوائف، كما لبنان ثم العراق. وهنا تكون الدولة طوائفية للتعبير عن هذه المحاصصة. حيث تُحدَّد الوظائف والمناصب وتوزع على أساس التقاسم بين “ممثلين” عن الطوائف، رغم أن المسافة بين هؤلاء وطوائفهم كبيرة، لكنها تُملأ عبر الشحن الطائفي من قبل هؤلاء (الذين هم في الغالب غير طائفيين، وحتى ليسوا متدينين). وكما يظهر في العراق تحديداَ يمكن أن يختلط المستويان، حيث ان “حصة الشيعة” في السلطة (وهي الحصة المهيمنة) تتشكل من قوى طائفية (حزب الدعوة وفيلق بدر وعصائب أهل الحق، والمجلس الأعلى وغيرها). وفي لبنان كذلك بعد أن بات حزب الله هو “القوة المهيمنة”، رغم أنه ليس القوة الأكبر في السلطة.

في هذين الوضعين يمكن أن نتحدث عن الطائفية، هل النظام في سورية مشابه لأيٍّ منهما؟

في سورية ظهر الإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة نهاية سبعينيات القرن العشرين كقوى طائفية، وخاضتا صراعاً ضد العلويين والسلطة “العلوية”. كما ظهرت جمعية المرتضى كقوة طائفية علوية. وقد سحق النظام الإخوان بوحشية، وجمعية كما جرى حل المرتضى (كما جرى حل سرايا الدفاع التي اتخذت شكلاً طائفياً). بالتالي في سورية لم يكن هناك (غير هذين الشكلين) قوى طائفية، ولم يقم النظام على المحاصصة الطائفية (وإن كان حافظ الأسد يأخذ بعين الاعتبار التمثيل الطائفي والديني في حكوماته، لكن أصلاً لم تكن الحكومات هي المقرِّرة).

ما يشار إليه في سورية هو مسك “العلويين” لكل مفاصل الدولة، حيث عمل حافظ الأسد على وضع ضباط علويين في كل المفاصل الأمنية والعسكرية، خصوصاً هنا بعد سنة 1982، أي بعد الصراع مع الإخوان المسلمين، رغم أنه ظل في المفاصل ضباط وقيادات “سنية”، مثل عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس وحكمت الشهابي وآخرين. هل هذا كافٍ لتوصيف النظام بأنه علوي؟

بالتأكيد ليست هناك “أيديولوجية علوية” (وربما هي أضعف طائفة تمتلك ديناً وأيديولوجية)، وليس هناك تنظيم علوي رغم ما يشاع عن “مجلس الطائفة”، وبالتالي سورية لا تُحكم من قبل قوة طائفية. لكن هل النظام هو نظام طوائفي؟ لا، لأن المحاصصة الطائفية ليست في بنيته. لكن هل يكفي سيطرة كبار الضباط العلويين على مفاصل الدولة لوصم النظام بأنه طائفي؟ لا بالتأكيد، بالضبط لأن لذلك منظورات تحليل مختلفة. فقط مَنْ ينطلق من منظور طائفي يمكنه أن يعتبر سيطرة فئة من العلويين على السلطة تكفي للقول بأن النظام طائفي. فلهذه الحالة تفسيرات أخرى إذا ما انطلقنا من البحث السسيولوجي (ولا أقول الماركسي خشية توتر البعض ممن بات يرتعد من كلمة ماركسية).

هذا يفرض علينا العودة إلى تحديد الفئة التي حكمت، حيث كانت في الغالب ريفية بكل ما يعنيه هذا الأمر من انتماء طبقي ووعي فلاحي يتمثل البنى التقليدية المتوارثة. وهذا يعني أن “الثقة” تُعطى للبيئة بغض النظر عن الطائفة أو أي شيء آخر. لكن بالأساس يصبح المسيطر حاكماً مطلقاً، حيث يعمم البنية البطريركية التي لا زالت منزرعة في الريف على مجمل الدولة.

هنا نعود إلى نظام حافظ الأسد، ما هي طبيعته؟

هل مثّل طبقة أم طائفة؟ أم عبّر عن حالة “استقلالية” عن الطبقات والطوائف؟

الخلفية التي أتى عبرها حافظ الأسد إلى السلطة كانت حزب البعث، الذي عبّر في الغالب عن طموح الفلاحين، هؤلاء الذين كان الجيش وسيلتهم، لهذا وصل حزب البعث إلى السلطة عبر الجيش وليس بقواه الحزبية (ولقد كان منحلاً حين وصول البعث عبر الجيش إلى السلطة). وإذا كانت المرحلة الأولى من الحكم (8 آذار سنة 1963 إلى 23 شباط سنة 1966) قد مثلت بشكل ما حكم الحزب نتيجة تعدد مراكز القوى في الجيش، فقد بات ضباط الجيش هم السلطة رغم وجود الحزب في المرحلة الثانية (23 شباط سنة 1966 إلى 16 تشرين الثاني سنة 1970). حافظ الأسد حسم الأمر بأن همّش الحزب وأنهى مراكز القوى، فمحور السلطة بيده، وأخضع كل المجتمع. هذا الإخضاع تمثّل في استمرار “اقتصاد البعث”، لكن مع فتح نافذة لتجار دمشق الذين دعموه، وباستمرار الحزب لكن كشكل بعيد أن جعل السلطة التنفيذية بيد الأجهزة الأمنية. ووضع دستوراً جعله المشرِّع والمنفذ والقاضي وكل شيء. لقد لخّص السلطة في ذاته. لكنه، من منظوره الريفي البطريركي، جعل الدولة والمجتمع ملكية خاصة له، ولورثته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل