الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة والسرد

سعد محمد رحيم

2016 / 8 / 29
الادب والفن


تحدّث الراحل الكبير نجيب المانع في مقالة له عن اللغة الإنكليزية التي نقتني آخر قواميسها ومعاجمها ونبحث فيها، فيما نذهب مع اللغة العربية إلى القاموس الأقدم والمعجم الأقدم.. هذه المفارقة تشير إلى أزمة في العربية. وباعتقادي؛ ليست العلّة في اللغة وإنما في طريقة تعاملنا معها ( مؤسسات وأفراداً )، وفي كيفية استثمارنا لممكناتها.
نحن لا نستخدم اللغة في التواصل والتعبير عن أفكارنا فقط، وإنما اللغة عينها تفتح لنا آفاقاً للوعي والإبداع إذا ما أحسنّا التعاطي معها بعدِّها كينونة حيّة.
اللغة حية.. متمنعة أحياناً، وطيّعة غالباً. وهي تستجيب لمن يحترمها ويفهمها.. ولا أقصد بالفهم الاقتصار على استيعاب معانيها ونحوها وصرفها، بل وأيضاً، وقبل ذلك، تمثّل روحها.. روحها التي تمرح في التاريخ، لا قبله، ولا فيما ورائه.
اللغة ابنة التاريخ، أي أنها ليست كتلة متحجرة.. إنها تتحول مع تحولات الوعي وتغتني، وحين يضمر الوعي علينا أن نبحث عن إحدى العلل في نظرتنا إلى اللغة.
نحن نخشى أن نضيف إلى اللغة، وأن ننحت مفاهيم جديدة وكلمات جديدة تتساوق مع العصر ومتغيرات الحياة.. نخشى أن نجعلها تستضيف ما يبتكره الوعي الجمعي، والوعي الفردي المبدع.
هنا أود الحديث عن اللغة والسرد، وذلك من وحي تجربتي المتواضعة في كتابة القصة والرواية.
قررت مبكراً أن عليّ ألاّ أكتفي بقراءة الروايات والقصص القصيرة فقط. وإنما التجول في حقول معرفية مختلفة والإطلاع على أبرز الأعمال في الإنسانيات والتاريخ. وشغلني النقد الأدبي، لا سيما ذلك المهتم بالسرديات.. واكتشفت منذ البدء بأن على الكاتب القصصي والروائي أن يعزز موهبته من ناحيتين؛ الأولى هي الانغماس بتيار الحياة المندفع الغامض والثري، والنظر العميق إلى كل شيء من موقع السارد مدعوماً برؤية ناضجة أي بفلسفة خاصة. لن تستطيع أن تكون روائياً من غير الشغف الحار بالحياة، والبحث عمّا هو استثنائي وجميل ومدهش فيها.. والثانية التفكير باللغة. على الكاتب أن يطوِّر لغته على الدوام، أن يغني مفرداته وأن يحكم صياغة جمله. وألا يغيب عنه حقيقة أن مادة بنائه هي اللغة لا غير.. حين تكون اللغة سيئة يكون من المجحف أن نطلق على النص بأنه ينتمي لدنيا الأدب.
أجهد بصرامة لإغناء ثقافتي وأعاني قلقاً دائماً بشأن اللغة. استهوتني البلاغة الزائدة في فترة ما وأثقلت بعض نصوصي غير أنني عملت على التخلص منها، ومن غير أن أفقد طاقة الشعر التي لا بد من أن تمنح لكل نص أدبي قيمته الجمالية. كما أدركت مذ تورطت بحرفة الأدب أن العالم في نظر الروائي موضوع تلصص.. عليك أن تراقب البشر والأشياء والطبيعة بعيون فضولية مهتمة، وتحيل إشارات ما حولك إلى الوعي بالشكل الذي يعينك في كتابة نصك السردي.. كاتب السرد صيّاد وقائع وأسرار، يتجسس على العالم لصالح المعرفة والجمال.
حين نقول السرد والحكاية فإننا في الحقيقة نتكلم عن توأمين.. عن قرابة في اللغة والمعنى والدلالة.. أو عن أقنومين متعاشقين، متلاحمين.. الحكاية في فن السرد هي الهيكل العظمي الذي لا بد من إكسائه باللحم، وجعل الدم يتدفق فيه ليكون كائنا حيا.. أقصد ليكون عملاً إبداعياً صالحاً للتلقي. هنا تصبح الحكاية مشروع إمتاع، وتربية للذوق، وثقافة.
السارد هو الحكّاء الفنان الذي يعرف كيف يلعب باللغة ويطوِّعها في بناء نصه السردي.. وعليه لهذا أن يمتلك صوته الخاص.. أسلوبه في بناء النسق السردي.. رؤيته إلى الذات والكون والحياة والتاريخ والمصير.
من جهة ثانية الرحلة من الحكاية إلى فن السرد تحاكي الرحلة من النيئ إلى المطبوخ إذا ما استعرنا مصطلحات شتراوس في حديثة عن الانتقال من البدائية إلى التحضر.. أنت تحتاج أن تضبط أشياء كثيرة ليكون المطبوخ صالحا للأكل وشهياً.. المكونات والمقادير والنسب ودرجة الحرارة والوقت والنكهة. وهنا تحضر موهبة السارد الفنان وخبرته وثقافته، ومدى شغفه بتخطي المألوف، والمغامرة في اقتحام منطقة مجهولة من الحياة والعالم. فإذا لم يحمل السارد روح وإرادة وعقل مغامر يخوض الأهوال بحثا عن قارة جديدة لن يفلح في كتابة نص سردي جيد.. لا أعتقد أن هناك وصفات جاهزة لمن يأخذ على عاتقه سردنة شذرات العالم.. إن دراما الحياة الساحرة والخفية هي ما يغوي السارد الفنان، العارف كيف يصل إلى روح تلك الدراما ويحيلها إلى نص مترع بالدلالات والمعاني، بالمعرفة والجمال.
إن ما يجعل من نص ما أدباً هو البعد الجمالي.. والجمال في الأدب هو نتاج للطريقة التي نلعب بها مع اللغة حيث تزدهر الدلالات وتتخلق الدهشة. وما يفرق نصا أدبيا عن آخر غير أدبي هو سعة المجازات وجدّتها.. فالأديب هو اللاعب في حقل المجاز.. هناك يزرع وهناك يجني.
لي رأي قد يبدو متطرفاً للوهلة الأولى، وهي أن حاجة الإنسان إلى السرد دفعته لابتكار اللغة.. صحيح أنه كان يريد أن يتواصل مع أقرانه من أجل تنظيم حياته الاجتماعية، والحصول على القوت والأمن، لكنه بالقدر ذاته كان بحاجة إلى أن يعبِّر عن تجربته في العالم.. وأكاد أتخيل ذلك الكائن القديم المشعر، شبه العاري، الذي تطوف في رأسه صور غائمة يريد أن يحيلها إلى شكل، فبدأ بالرسم على جدران الكهوف، واكتشف أن هذا لا يشبع طموحه، وهو بحاجة إلى وسيلة أخرى، فطوّع الأصوات للإشارة إلى الأشياء، واحتاج إلى مئات من آلاف السنين الأخرى ليحيل الصوت إلى مكتوب.. ومع المكتوب بزغت شمس الحضارة.
الحضارة لم تكن ممكنة من غير السرد، والسرد ما كان له أن يوجد من غير اللغة..
أما بصدد اعتماد اللغة معياراً في تقويم العمل الأدبي فأقول أن كاتب السرد الفني لابد من أن يكون متمكناً من لغته إملاءً ونحواً وصرفاً، وقادرا على صياغة الجمل الصحيحة.. ولكن الإمساك بناصية اللغة وحدها لا يكفي للحكم على النص الروائي، فهناك الأسلوب والرؤية وبناء الأنساق السردية والمتن الحكائي، وهي العناصر التي تجعل ذلك النص متماسكاً مشعاً وجذّاباً.. في مقابل أن هذه العناصر من غير اللغة السليمة، بالحدود الدنيا المقبولة، تضعف وتجف.. الرواية، مثالاً، لغة أولاً، غير أنها ليست قطعة لغوية وحسب. ولا قيمة لها إنْ أضحت إنشاءً محضاً من كلمات وجمل صحيحة بمقاييس قواعد اللغة ونحوها فيما هي فاقدة للطراوة ونبض الحياة. الرواية عالم حي في النهاية، مشيّد باللغة، ومسكون بكائنات حية، ومؤثث بأشياء أخرى. هذه شروط وجودها، ومن غيرها لن تحوز على بعدها الجمالي.. وباختصار شديد؛ الرواية جمال ومن غير اللغة المتعافية المشرقة لا جمال هناك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في