الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شخصية المجتمع الصحراوي ( جزيرة العرب نموذجا ) …

سيد القمني

2016 / 8 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



في النظام المجتمعي الصحراوي البدوي، يعيش البشر في قبائل ترتبط بروابط القرابة، ولأنها مرتحلة وراء خيرات الطبيعة الشحيحة فإنها لا ترتبط بمكان ولا حتى على المستوى العاطفي. فقد يجف النبع ويموت الضرع فترتحل القبيلة بحثا عن موضع آخر يضمن العيش، فإن لم تجده خاضت صراعا صفريا ضد قبيلة أُخرى تستمتع بمكان يملك مقومات الحياة، والصراع الصفري هو صراع وجود إما أنا وإما أنت، صراع من أجل أن أستمر حيا. هي قسوة طبيعية طبعت البدوي بقسوتها ورؤيته للموت شيئا اعتياديا، فإذا كان ظرفه يجعله مقاتلا كي لا يموت جوعا، وأن استمرار حياته لا يكون إلا بموت غيره، فما أهون الموت في شؤون أعلى أو أدنى.

لهذه الأسباب البيئية كان تماسك القبيلة في لحمة واحدة في ظل قانون طوارئ دائم، تماسكا خراسانيا حتى لا تفنى، وتاريخنا العربي يزدحم بأسماء من فنى من قبائل الجزيرة فناء تاما، وأصبحوا مجرد أسماء وروايات يتسلى بها البدو حول النار في أمسيات فيافيهم القارصة، وليالي صيفهم اللافحة، وتعلموا من حكايات الفناء أن تماسك القبيلة يعني استمرارها موجودة، لذلك كان يمكن أن تفنى القبيلة دفاعا عن أحد أفرادها، وكان طبيعيا أن يفنى الفرد فداء للجماعة. وفي نظام أبوي صارم كهذا لا مجال لأي تمايز أو اختلاف، الكل في واحد والواحد في الكل في منظومة عسكرية دوما متحركة دوما طاردة أو مطرودة. تصدع لآمر واحد له مستشارين هو من يختارهم وتتشابه عادات أفرادها وتقاليدهم وفنونهم وملبسهم ومأكلهم، حتى أن لكل قبيلة لغة ضمن لغات تتقارب بتقارب القبائل في المكان، حتى زمن النبي العربي في الحجاز كان الاختلاف بين القبائل في اللغات وليس مجرد اللهجات.

على المستوى الثقافي ترتبط القبيلة قرابيا وتنتسب لسلف صالح واحد يرونه خير أب لخير خلف، فالقبيلة من دم واحد وعنصر واحد وسلف صالح واحد وهو ما يجمعها ويربطها ببعضها ومنه تستمد القداسة لذاتها بالتعبد له، مما يُحوَّل الجد البعيد بمرور الزمن وتباعده من مقدس مُبجل إلى إله، وعادة ما تم الربط بين تلك القداسة ورمز طوطمي على الأرض يتمثل في واحد من كائنات الطبيعة أو ظواهرها. وفي حماية هذا الأب البعيد المقدس الإلهي تتحرك القبيلة تحمل رسما أو تمثالا أو راية ترمز له ويحل فيها، لذلك لا تعرف القبيلة شيئا اسمه الوطن ولا تملك انتماء ولا عواطف لأرض ولا تتفهم معنى المواطنة، ما تعرفه شئ اسمه (الحِمى)، والحِمى للقبيلة هو المعادل التصوري المعنوي البديل للمواطنة، هو شئ غير محسوس مُبهم يمثل ويدل على توحد القبيلة والتحامها ببعضها يتحرك معها أينما يمَّمت ويمتزج بها وبأفرادها. الحمى هو الإله الذي يتجسد في رمز طوطمي وتتماهى فيه القبيلة، وإن تعرض الرب الرمز أو اسم القبيلة أو الفرد في القبيلة لأي نقد، تكون القبيلة كلها قد تعرضت للإهانة وتتحرك نوازع العنف الدفاعية البدوية دفاعا عن الحمى الديني للقبيلة، ويكون الدفاع دفاعا عن ذات الفرد التي يتمثل فيها الحمى وذات القبيلة لأن الرب في الفرد والفرد في القبيلة والقبيلة في الحمى أقانيم ثلاثة في واحد. وأحيانا ترمز صخرة أو حيوانا أو شجرة للحمى، فيتم المزج بين طوطم كائن كالخروف مثلا كواحد من أهم السوائم البدوية، وبين رمز سماوي كالقمر لأهميته في ليل الصحراء، فيكون قرني الكبش اختصارا للقمر عندما يكون في حالة الهلال، لذلك تجد الكثير من قبائل العرب تعبد القمر السماوي مرموزا له بالخروف الأرضي. فالقبيلة بحكم ظرفها البيئي هي تكوين متماسك متوحد يمنع الضياع في الصحراء تعبد ربا واحدا هو ذاتها وهو حماها وهو بالضرورة واحد، تحارب له وباسمه من أجل قبيلته التي اختارها بالنسب لنفسه، وإن كان ذلك لا ينفي وجود أرباب أخرى لقبائل أخرى لكنها لا ترقى لرب قبيلتي بل هي آلهة غير حقيقية، وكان البدوي موسى النبي اليهودي ينادي رب قبيلته الإسرائيلية في فيافي سيناء: ” من مثلك بين الآلهة يارب، الآن علمت أن الرب أعظم من جميع الآلهة / سفر الخروج / الكتاب المقدس ” ، فربي ليس مثل ربك، لأن ربي هو الصحيح والأعظم، وربك هو الباطل.

ولأن رب القبيلة واحد موحد فإن المبادئ والقيم لديه واحدة بدورها فلا يسمح بوجود أي اختلاف بين رعيته فكلهم نمط عسكري أحادي التكوين والرؤية والقرار، ومن ثم يتحول الصراع الاجتماعي على مواطن الحياة إلى صراع بين أرباب صحيحة وأرباب باطلة، وباسم الصحيح أريقت دماء البشرية أكثر من أي حروب أخرى، وتحت سمع وبصر مختلف الآلهة عانى البشر من الظلم والقهر والاضطهاد من أجل رضى الإله، فلا يجوز لطائفة من أبناء القبيلة أن تفهم الرب وأوامره بغير السائد المستقر اللا متغير، ومن يفعل ذلك مخالفا ما استقرت عليه القبيلة يتم نفيه للصحراء وحيدا حيث يموت وحيدا أو ينضم لمجتمع الصعاليك والذؤبان المطرودين من حماهم، أو يتم تكفيره منعا لتمزق القبيلة بعد فترة استتابة مناسبة ليعود للحمى المتماسك أو يتم قتله.

ولو نظرنا إلى أبرز طائفتين في دين صحراوي كالإسلام هما الشيعة والسنة، على ما بين كل طائفة من اختلافات أنشأت فرقا أخرى فرعية داخل كل مذهب، تجد أن صراعهم في النهاية لايعود إلى رب واحد ينتمي إليه الفريقان يفترض أنه يوحد أتباعه معا، بقدر ما يعود إلى مستجدات مجتمعية أدت إلى تباعد الأفهام حول الرب الواحد، وهو ما يعني أن الإله الواحد لقريش (الله) الذي صعد ليسود بقية القبائل بعملية التوحيد القسري لجزيرة العرب على يد الجيش الإسلامي، وبعد الفتوحات ودخول العرب لبيئات طبيعية مختلفة عن صحراء الحجاز، قد أصبح بمواصفاته البدوية غير كاف للمتسع الجديد وأصبح معنى ضيقا على المجتمع الجديد الفسيح، وأمسى غامضا غير مكتمل الوضوح مما ألجأ المسلمون إلى الاختلاف حوله فهما وتفسيرا عقليا، وظهرت المذاهب المختلفة في فهمها وأحكامها التي أسهم المتغير البيئي في تغير أحكامها فكان الشافعي يحكم في مصر بغير ما حكم في العراق، أصبح الحمى مع وجود الأرض الوفيرة بالخيرات ومع الاستقرار العربي في بلاد الحضارات المفتوحة بحاجة إلى تحديد أكثر، ووضوح علاقته بشعبه وقبيلته المختارة، وقد انتهى البدو اليهود إلى إنهم شعب الله المختار، وانتهى العرب إلى إنهم خير أمة أخرجت للناس، وانقسم المسلمون على السيادة سنة وشيعة فجنح كل منهم إلى نصوص تم اختراعها أحيانا كما في الحديث النبوي، ليأخذ الرب الصحيح إلى جانبه. ومع غموض معنى الحمى الأول تصارع الأتباع وانقسموا وحاربوا بعضهم بعضا، حتى كادت صفات الرب المعبود باختلافها وتباعدها تُقسم الرب الأول سلف قريش وحماها إلى آلهة تختلف في صفاتها وماتطلبه من عبادها وعلاقة كل رب بطائفته، فانقسمت السماء استجابة للمتغير الأرضي، وهو نفسه مايكرر تاريخ القبيلة القديم في بواديها عندما كان يكثر عددها ويزيد عن المناسب للمعطى البيئي ، فتنقسم تكرارا للانقسام البدائي عند الأميبا، وهو شأن معلوم سجلته لنا كتب أنساب العرب، وهو الانقسام الذي كان يستتبعه بالضرورة ظهور رب جديد يتخفى في الإله القديم يتسمى باسمه ويلبس زيه لكن ليزيحه ليستوي مكانه باسم مذهب جديد. ويبدأ صراع جديد وانقسام جديد وحروب دينية دموية لا تنتهي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أشدٌّ على يدك
أحمد السيد علي ( 2016 / 8 / 29 - 23:23 )
الأستاذ القمني

تحياتي

يجب علينا إقصاء أهل الجهل والعقلية السائدة على النقل من الماضي وليس العقل، علينا تفكيكها وتفنيدها وانت احد أعمدة الضياء في زمن الجهلاء ،
واذكر بيت شعر لاحد رواد التنوير في بداية القرن العشرين محمد عبدة

ولكنه دين أردت صلاحه مخافة ان تقضي عليه العمائم


2 - وجهه نظر
كامل حرب ( 2016 / 8 / 30 - 04:02 )
اهلا ومرحبا دكتور سيد بعد غياب , انت تعمل عمل رائع وبطولى الا وهو تفتيح العقول وادخال الاكسجين وازاله الاوساخ والعناكب واكياس الغباء من هذه العقول الزنخه المتجمده , انا لازلت مقتنع تماما بأن الحمار يعفور عليه السلام هو المؤسس والمعلم والفيلسوف لعقيده الاسلام البدوى الاجرامى , سر على الدرب


3 - من افضل ما قرأت على الاطلاق
ملحد ( 2016 / 8 / 30 - 12:35 )

تحليل علمي سوسيولوجي واقعي وموضوعي حول تلك المجتمعات البدائية التي كانت سائدة في ذلك الوقت.....
المشكلة العويصة ان هناك من يريد اسقاط ثقافة وقيم تلك المجتمعات البدائية التي كانت قائمة قبل الاف السنين على واقعنا اليوم رغم المتغيرات والتطورات العلمية والتكنولوجية الهائلة التي حصلت وتحصل ???!!!
انها هالة (القداسة) اللعينة التي اُلبِست حول ثقافة تلك الفترة التي جعلها (عصية) على التغير والتطور......

انت عظيم والعظماء قليلوا للاسف

تحياتي القلبية الصادقة لك


4 - الفرد والقبيلة و(تاريخنا العربي) 1
ماسنسن ( 2016 / 8 / 30 - 23:39 )
يقول أستاذنا الجليل (لذلك كان يمكن أن تفنى القبيلة دفاعا عن أحد أفرادها)و(ويكون الدفاع دفاعا عن ذات الفرد التي يتمثل فيها الحمى وذات القبيلة لأن الرب في الفرد والفرد في القبيلة والقبيلة في الحمى أقانيم ثلاثة في واحد):أرى أن هذا من الشعارات الجميلة الزائفة لأن الفرد لا قيمة له في القبيلة وهو المُطالب بفداء القبيلة لا العكس أما تحرك القبيلة لصالح الفرد فيكون إذا كان هذا الفرد من السادة أو لتَستَغِل ذلك لمصلحة لصالح القبيلة لا لقيمة هذا الفرد(إستغل محمد قصة المسلمة التي عراها اليهودي في قيقناع لمصلحة الإسلام (قبيلة الله) لا غيرة على المسلمة) ومع ذلك نجد في التاريخ الإسلامي شعارات وقصص مسلية كإمرأة -وامعتصماه- التي تحركت لها الجيوش الجرارة للدفاع عن شرفها وشرف الأمة ضد الروم الكفرة! الإسلام (قبيلة الله) وريث (قبيلة العرب) بكل عقائده وشرائعه التي تُلغي الفرد لصالح القبيلة يُزكي قولي هذا.

ويقول أستاذنا أيضا (تاريخنا العربي):أقول هذا تاريخ العرب لا تاريخ الشاميين والعراقيين والمصريين والأمازيغ:أجدادنا كانوا مزارعين يعشقون أرضهم لا بدو صحراء وتاريخ العرب فرضه علينا الإسلام فصار لجهلنا وغبائنا


5 - الفرد والقبيلة و(تاريخنا العربي) 2
ماسنسن ( 2016 / 8 / 30 - 23:39 )
وإغترابنا وخيانتنا لأوطاننا صار وياللعار تاريخنا!

ولمن سيظن أني أهاجم أستاذنا القمني أقول له أن القمني مصري وليس عربي وعليك أن تطلع على تاريخه وتفهم جيدا كتاباته لتفهم رسالته التحررية ضد الإستعمار العربي الإسلامي لوطنه وتاريخه المصري.


(بابا سيد) : المجد للشرفاء ، التاريخ سيمجد طه حسين والحكيم وخليل عبد الكريم وفرج والقمني لا شلتوت والغزالي والطيب وفتفوت وزعطوط !

اخر الافلام

.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب


.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل




.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن