الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاحتفاء بالرواية وازدهارها في كتاب (تطوّر الرواية الحديثة)

سعد محمد رحيم

2016 / 8 / 30
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


هناك دوماً ما يمكن أن يُقال عن فن الرواية وتطوّرها. فتاريخ الرواية منشبك، مثل تواريخ الفنون كلها، بتاريخ ارتقاء المدنية والحضارة. وولادتها تتصل بالعصور الحديثة التي بدأت مع ما سُمّي بالأنوار الأوروبي في القرن السابع عشر. ولعل الرواية هي التي أرهصت للتنوير والحداثة، بدلاً من أن تكون نتاجاً عرضياً محضاً لهما، حتى أن كاتباً مثل كولن ولسن أعلن أن الرواية ليست ابنة الثورة الصناعية وإنما العكس هو الصحيح!.
نحو رواية حديثة:
ترسّخت قوانين الأنواع الفنية والأدبية وتقاليدها عبر أزمان طويلة. والتحوّلات التي طرأت عليها كانت بطيئة غالباً. وبعضٌ من تلك القوانين والتقاليد بقي قاراً لا يستجيب لعوامل التغيّر كما هو الحال مع البنية الفنية للشعر الكلاسيكي. لكن الرواية تكاد أن تتملص من ضغط هذه الحقيقة أكثر من أي نوع أدبي آخر. ومنذ (دون كيخوتة) لسرفانتس المنشورة بجزئيها بين الأعوام (1605 ـ 1615) شهدت الرواية في بنيتها وأسلوب كتابتها ورؤى الروائيين الذين تصدوا لإبداعها انقلابات عميقة ومذهلة. فمن سرفانتس إلى ستيفنسن إلى بلزاك إلى تولستوي وديستويفسكي، إلى أندريه جيد وبروست، إلى جيمس جويس وفرجينيا وولف وفوكنر، إلى ألان روب غرييه، إلى نجيب محفوظ وماركيز ويوسا والفريدة يلينك، ومئات الأسماء الأخرى، تطوّر الفن الروائي بالسرعة التي تطوّرت بها التقنيات الماديّة والعلوم.
منذ الصفحة الأولى من كتاب جيسي ماتز (تطوّر الرواية الحديثة) الصادر عن دار المدى للثقافة والنشر والتوزيع 2016 بترجمة بارعة للروائية لطفية الدليمي، يؤكد المؤلف أن الرواية ظلّت "حديثة على الدوام: فقد كان الشغل الشاغل للرواية دوماً وعلى نحوِ رئيسي هو الحياة المعاصرة والأشياء الجديدة المستحدثة في هذه الحياة كما توحي بذلك مفردة (الحديثة)"ص31. وشروط هذا التطوّر، وعلله، واتجاهاته وسماته وانعكاساته ومآلاته هي ما يبحث فيها ماتز في كتابه ذاك، محتفياً بالرواية فناً ذا مكانة عظيمة في إطار الثقافة الإنسانية، وقد غدا هذا الفن كتاب الحياة المشرق. الكتاب الناطق ضد الموت.
في مقدمتها اللافتة تُعلِمنا المترجمة أن الرواية "تمثِّل.. نوعاً من الذاكرة الجمعية المميزة لكل جغرافية بشرية.. الرواية في عالم اليوم تؤدي الوظيفة التي نهضت بها الأسطورة من قبل.. الرواية عمل تخييلي يبدأ بالمخيّلة ويتطوّر داخل فضائها.. الرواية لعبة ذهنية في المقام الأول.. الرواية يمكن أن تكون علاجاً في حالات خاصة.. الرواية معلم حضاري وثقافي تنهض به العقول الراقية في مختلف الاشتغالات المعرفية.. الرواية جهد خلاق يرمي إلى فتح آفاق جديدة أمام الوعي البشري والخيال الإنساني.. الرواية أداة ناعمة من أدوات العولمة الثقافية"ص8 ـ 13.
أما ماتز فيفصح في مقدمة كتابه عن السؤال المركزي الذي ينطلق منه.. السؤال الذي تتفرع إجاباته وتتشعب في ثمانية فصول وملحق استنتاجات:
"إن موضوع هذا الكتاب يتأسس على مناقشة موضوعتي (لماذا) و(كيف) لبست الرواية لبوس الحداثة، ويمكن عدّ هذا الكتاب بمثابة مقدِّمة إلى أشكال الرواية الحديثة والوظائف التي تنهض بها إلى جانب مساءلة الواقع، والتقنيات، والمعضلات، والتطوّر المرتبط بالرواية الحديثة"ص32.
كان أول بزوغ منتجٍ للعقل في مرماه لتخطّي الجزء الغريزي الحيواني في الكائن البشري هو استرداد تجربة ذلك الكائن، وتكييفها لحاجاته العليا، غير البيولوجية، بوساطة السرد. وكانت تلك، من جهة أخرى، وسيلة دفاعية حاذقة، ما تزال فعّالة حتى الآن، وستبقى، ضد حتمية الموت. وكما يقول إدواردو غاليانو: "من خشية الموت تنبع رغبة القص/ السرد". وكانت ملكة السرد، التي تكاد أن تكون فطرية، تستعين بالمخيّلة المطلق سراحها، وتُعين في إنشاء اللغة وتطوّرها، وفي ازدهار العقل وتنميته.. حيث بتعبير ريتشارد رورتي: "لا يمكن للعقل إلا أن يتبع المسارات التي شقتها المخيّلة أولاً". وكان على السرد وهو يتقلّب في أنواعه وأشكاله وأساليبه أن يلمس الواقع دوماً لأن فيه مادته الأولية، ويلعب معه، وبه، بطاقة المخيّلة. وكان يجب أن تمر آلاف السنوات بعد حلول فجر الحضارة في واديي الرافدين والنيل قبل أن يبتكر الإنسان فن الرواية الذي هو النوع السردي الأرقى، في راهننا، وربما إلى الأبد.. من هنا يمكن معاينة تطوّر هذا الفن من زاوية علاقته بالواقع الإنساني المعيش.
الرواية والواقع:
يتساءل ماتز عن الواقع، وهو يتحرى عن حداثة الرواية. ما هو؟، ومن الذي يمتلك حق النطق باسمه؟ وبمثال فرجينيا وولف، فإن الواقع ذاته بات موضع تساؤل، ذلك أن "التشخيص الروائي استحال مسألة حدس فحسب بدلاً من كونه مسألة محسومة بصورة مسبقة، كما بات التشخيص موضوعاً للتجريب الديناميكي عوضاً عن كونه طريقة معيارية محددة"ص40. فليس للرواية الادعاء بأنها تحتوي الحقيقة التاريخية الصلبة والثابتة وتعكسها بدقة مرآوية. وهكذا كان على الرواية مغادرة فخ الواقعية الفجة. فأحلام الروائيين الأوائل بتسجيل كامل التجربة الإنسانية بشكل مباشر اصطدمت بتعقيد الواقع وتقلّباته واستحالة الإمساك به في صورة جامدة صافية. فكان على الروائي الحديث أن "يتعامل مع الواقع لا باعتباره حقيقة مفروغاً منها بل باعتباره إشكالية دائمة"ص107. سيقود هذا إلى خلق نزعات أساسية ثلاث هي: "النزعة التشكيكية Skepticim، النزعة النسبية Relativism، نزعة التهكم والسخرية والمفارقة Irony"ص107. وفي النهاية سنصل إلى الاستنتاج الصادم الذي مؤداه بأن "الحياة ليست ذلك الشيء الذي تبدو عليه"ص108. وفي هذا الخضم كانت القناعات تتعرض لهزّات معها ستتحوّل الرؤية إلى الذات والعالم. وستعلن الحداثة عن نفسها في الرواية مشروعاً لا يمكن الانتهاء منه.
"لم يعد الواقع الآن شيئاً بل بات عملية صيرورة Process لم يعد الواقع شيئاً مؤكداً يقبع خارجاً عنّا وينبغي للروائي وصفه بل بات عملية اشتباك (مع الوعي)،،، مجموعة أفعال شخصية،،، أداء سايكولوجي،،، شيء في حالة جريان مستمر (من الصيرورة المتغيرة)"ص112.
ولأن الواقع ليس متّسقاً. ولأن عالمنا فقد كثيراً من توازناته. ولأن الحياة لا تسير على وفق إيقاع منتظم. ولأن المصادفات، وأغلبها عشوائية، باتت تتحكم بمساراته نكاية بأحلام الناس، وبالضد مما اعتقدناه لوقت طويل قوانين التاريخ وضروراته. ولأن الفوضى سمة فارقة طبعت عالم القرنين العشرين والحادي والعشرين، فقد كان على الرواية الحديثة أن تتشظى وتنكر النمو الخطّي للأحداث عبر الزمن. وتعلن أن الحبكات التقليدية لا تلائمها. وتخذل أفق توقعات قرائها. وأن تبحث عن إيقاع بديل أشد تعقيداً وكثافة.
وحتى تكون أقرب إلى الواقع كان على الرواية أن تعكس صورة غير متماسكة وغير متجانسة وغير واضحة تماماً للواقع في متنها وشكلها الحكائيين. وبذا "هشّم اللاتجانس الرواية الحديثة وحوّلها إلى شظايا: ففي الوقت الذي كان فيه الروائيون السابقون للحقبة الحداثية يحاولون إدغام عناصر الرواية في نمط التجانس الشكلي، راح الروائيون الحداثيون يعملون ـ وبطريقة متعمدة ـ على تشظية الرواية" ص119.
هنا يتبدل نمط العلاقة بين الرواية والواقع، وتبعاً له تتغير رؤيتنا إلى كليهما.. وعلينا ألا نصدر حكماً متسرعاً على الروايات التي تبدو، للوهلة الأولى، مفكّكة، تشاكس افتراضاتنا التقليدية عنها، وظنوننا حول ما ستسلك من طرقات، وبلا حبكة ترضينا.. "الرواية العديمة الحبكة، والمتشظية، والرجراجة قد تبدو خرقاء وغير كاشفة للحقائق ومفتقدة للصنعة الفنية لكنّها في واقع الحال يمكن أن تحتوي على شكل أكثر تشذيباً من الوقائع العارية، والمُساءلة الصبورة، والاستكشاف الحر (غير المقيّد)، ويمكنها ملامسة سطح الحياة التي ما عادت تتشكّل تبعاً للتوقعات التقليدية، كما تجعل الحياة ذاتها هي ما تستثير أي شكل روائي قد يكون ضرورياً للتعامل مع حقيقة الحياة"ص124.
ومن الآن فصاعداً سيجري التركيز على وجهة النظر الفردية المستكشفة للحقائق الجزئية، بدلاً من وجهة النظر الخاضعة للمواضعات الاجتماعية المتوارثة، والرؤية البانورامية الشمولية.. "باختصار ووضوح أن النظرة المتموضعة بؤرياً Focalization حلّت محل النظرة الموضوعية الكاملة السابقة"ص146.
الرواية وقضايا العالم:
تحديات الحداثة وإشكالياتها وأسئلتها اخترقت الرواية في الصميم. وبدا أن على الرواية لا أن تجاري فقط ما يحدث، وإنما أن تفهمه وتستشرفه وتؤثر فيه. ولكن؛ هل أدى اهتمام الرواية بشكلها إلى إهمال اهتمامها بالقضايا الاجتماعية والسياسية؟ أكان الإفراط في اللعبة الجمالية سبباً في التفريط بالمضامين الفكرية والفلسفية التي كان ينبغي أن تتصدى لها الرواية بجدّية أعلى؟ ألم يُتهم الفن عموما، وهو ينكفئ ويكتفي بترف جمالياته بالتخاذل، والانهزامية؟
الواقع أشد تعقيداً من أن تكتفي الرواية بعكسه عبر محاكاة مباشرة، ويرى ماتز "أن الرواية الحديثة، وفي خضم اندفاعتها الارتقائية، ينبغي لها أن تجمع المحاكاة الأفضل بـ (الإشكاليات الخاصة باللغة) أي الطرق التي تقف بها اللغة في وجه اعتماد الرواية على المحاكاة المباشرة، ومثلما انغمست الرواية الحديثة في (مساءلة الواقع) فينبغي لها أيضاً مساءلة اللغة ذاتها"ص230.
نعرف أن الرواية الحديثة تعشقت بتفاصيل الحياة في المدينة الحديثة. وكانت مفعمة دوماً بالنكهة المدينية.. المدينة التي هي عرضة لتغيرات اجتماعية عميقة وجوهرية، لاسيما بعد الثورة الصناعية. ولمعضلات ناجمة عن التناقضات الطبقية في المجتمع الرأسمالي، وما تمخضت عن الإمبريالية من عقابيل. وهذا كله أصبح محفِّزات لحس الروائي ووعيه.. كذلك فعلت مسائل مثل الثقافة الاستهلاكية، المصالح النسوية، التمييز العنصري، وما أفرزت من مشكلات وأمراض نفسية واجتماعية.. يقول جيسي ماتز:
"كثّف الشعور الجديد بـ (الإحساس المديني) الإبداع الروائي، كما غيّر أسلوب المعيشة الحضرية Urban بصورة كاملة من وظيفة الكاتب بعد أن جعلت حياته موضوعاً للحشود المكتظة. والانعزال المستحوذ، والعلاقات الأخطبوطية بعالم التجارة والثقافة المترامي الأطراف، وحتى لو بدت الرواية الحديثة أحياناً مبتغاة لذاتها ومكتفية بفضائها الخاص ومهتمة بتوجيه بؤرتها نحو أساليبها وهياكلها الخاصة وحسب فإنها في نهاية المطاف صناعة تشكِّلها المعضلات والمسؤوليات الجمعية العامة"ص189.
الرواية ما بعد الحداثية:
خلّفت الحربان العالميتان الأولى والثانية آثاراً نفسية مدمّرة عند الأجيال الجديدة، هشّمت القناعات السائدة، وخلقت مزاجاً مشبعاً بالغضب والاستياء والعدمية. فبرزت الوجودية متشحة بالسوداوية واليأس. وطغت على الرواية نزعة جنسانية وفنتازيات إيروتيكية، كما في روايات دي إج لورنس وهنري ميللر حيث "حل عدم التجانس النصي الداخلي محل الارتقاء الروائي الهادئ والمعقلن، وكسرت المشاعر المتفجرة حيادية وهدوء السرد الموضوعي، ومضت هذه التغيرات الروائية في لعب أدوارها التأثيرية بعد أن ترسخت سطوة النزعة الإيروتيكية كوسيلة في تحدّي الأعراف الاجتماعية التقليدية، ولجعل الرواية الحديثة أكثر انفتاحاً على الواقع"ص265. وعملت الوجودية والنزعة الإيروتيكية على تجذير التجريب الروائي، بحسب ماتز، في أساسيات الحياة الحقيقية. وهذه التجديدات ستقودنا لمرحلة لاحقة أطلقوا عليها تسمية (ما بعد الحداثة) تجد أصداءها في الرواية التي ستؤصل "نوعاً جديداً متطرِّفاً من التجريب المقترن برؤية تشكيكية أكثر قسوة بكثير من تلك التي جاء بها المحدّثون الروائيون، كما جاءت النزعة ما بعد الحداثية بتحدٍّ خطير لفكرة امتلاك الرواية (أو أي عمل فني) لأي تأثيرات أو نتائج ذات طبيعة خلاصية... وبعد أن هددّت هذه الحقبة بوضع نهاية للإيمان في المقدرة الروائية على تمثّل الواقع انتهت في خاتمة الأمر لتكون ترياقاً لعلاج الكثير من المعضلات التي تُركت بلا حلول ناجعة منذ الأطوار المبكرِّة من نشأة الرواية الحديثة"ص284. وكانت الإطاحة بالسرديات الكبرى المتضمنة للقيم العليا التي اعتمدها الناس تحصيل حاصل للسرد الروائي الما بعد الحداثي بأشكاله الجديدة ووعوده. وإذا كانت الرواية الحديثة قد حاولت، في ضوء ما ادّعت، ملامسة الحقيقة فإن "النزعة التشكيكية ما بعد الحداثية دفعت الأمر أبعد من ذلك كثيراً بتأكيدها على عدم إمكانية ملامسة الحقيقة بأي حال من الأحوال"ص287.
أسقطت تخريجات ما بعد الحداثة فكرة قدرة الرواية على تمثيل العالم، ومعها نكّلت بمعايير الأصالة والفن والنزوع إلى الخير والانسجام. وما عاد بمستطاع الرواية، من هذا المنظور، أن تكون مؤثرة في الواقع لصالح قيم العدالة والحرية والحقيقة والجمال. وبقي لها أن تمضي بالتجريب الحر إلى حدوده القصوى بالتعويل على المخيّلة الخلاقة والفانتازيا. فلم يعد بالإمكان إعادة خلق الواقع الموضوعي وإنما، كما لاحظ فاولز تقديم استعارات عنه.. "حتى ذهب الأمر بعيداً بوضع الرواية في موضع يتقدّم على التاريخ: بهذه الطريقة من التفكير بات التاريخ منتجاً روائياً هو الآخر"ص299. وباتت الشخصيات التاريخية "منتجات للتخييل الثقافي"ص300.
تنازلت الرواية عن جديّتها لتكون لا أبالية ساخرة متهكمة ومسلّية.. وأفقدت شخصياتها التخييلية الصفة الإنسانية. وتغيّت بدل المعنى اللعب فصارت الرواية الأحجية "التي تقود القارئ من خلال ما يشبه مدينة معارض تعج بالأوهام والخدع والأضاليل والمرايا المشوّهة وفخاخ الأبواب المغلقة التي تنفتح على حين غرّة تحت أقدام القارئ"ص303. لتدور الرواية عندئذٍ حول وهمها الذاتي، أو زيفها الخاص.. والغريب أن الحبكة عادت إلى الرواية ثانية، بعد هذه الهزّات كلها، بعدما أبعدها الروائيون الحداثيون. "ولكن كعنصر يعمل على تهشيم المواضعات (الراسخة) في نهاية المطاف"ص312.
الرواية ما بعد الكولونيالية:
كانت تجربة الاستعمار قاسية وثرية تاريخياً. انعكست على المخيال والثقافة الغربيين بشكل عميق وحاسم، مثلما انعكست على حياة السكان الأصلانيين وثقافتهم في المستعمرات. ورأى إدوارد سعيد في كتابه (الثقافة والإمبريالية) أن الرواية غدت ممكنة مع عبور الأوروبي لحدوده الوطنية، وتماسه مع الآخر. وما حصل في الفضاء الكولونيالي كان موضوعاً أثيراً للروائيين من جين أوستن إلى كونراد وكيبلنغ وألبير كامي وغيرهم. وفي نماذج من الرواية الغربية أدخل أفراد من المستعمرات. "وظهر هؤلاء الأفراد غالباً مثلما ظهرت المرأة المعتوهة في رواية جين آير (لشارلوت برونتي): بعيدون غامضون، ذوو شخصيات كاريكاتيرية غير قابلة للفهم، أشخاص بلا ماهية أو جوهر وبلا هويات أو ثقافات ما خلا تلك التي تساهم في إثراء أو افتتان مستعمريهم"ص324.
أفضى الظرف الكولونيالي، وما تمخض عنه من استغلال وقهر وإذلال طال شعوباً وقبائل في دنيا المستعمَرين، وحطّم أغلب أنماط معيشتها التقليدية من غير أن تقدِّم لها بدائل كريمة مقبولة، إلى اهتزازات في قناعاتها ورؤيتها إلى ذاتها وهويتها.. هنا استعار المثقف المستعمَر أشكال تعبير المستعمِر وسيلةً للمقاومة وتأكيد الذات وتمثيلها، ومنها فن الرواية.
أراد المثقفون والكتّاب الروائيون المستعمَرون أن يقولوا أنهم ليسوا عاجزين عن تمثيل أنفسهم ومجتمعاتهم مثلما روّج الخطاب الكولونيالي الاستشراقي السائد. ولابد من أن يبدعوا فنياً من موقع الهامش الذي وضعوا فيه، "لذا مضى هؤلاء الكتّاب في إعادة تشكيل الرواية بما يجعلها قادرة على النهوض الأفضل بمهمة التعبير عن القناعات والمشاعر والعادات والأولويات غير الغربية"ص326. وكانت على الرواية ما بعد الكولونيالية أن تثبت خطل الافتراضات والرؤى الكولونيالية المسبقة عن طبيعة الشعوب المستعمَرة وثقافاتها. وأن تشرع في تغيير ما كُتب "في السياق الجمالي الكولونيالي... عبر رواية الجانب الآخر من الحكاية"ص329.
أدرك روائيو المستعمرات أن العودة إلى ما قبل المرحلة الكولونيالية باتت مستحيلة. وأن ثمة علامات مستجدة راحت تطبع ثقافة طرفي الفالق الإمبريالي معاً خلال عهد الاستعمار وبعده. وتم اجتراح مفاهيم ومصطلحات في إطار النظريات ما بعد الكولونيالية، كالهجنة، والفضاء البيني، والتثاقف، والتعددية، الخ.. وفي ضوء هذه الحقائق يشير جيسي ماتز إلى أن "الرواية الحديثة ساهمت في تفكيك الهيمنة الكولونيالية الثقافية من خلال الأساليب التي توظِّف فيها أنماطاً لم يعتدها القرّاء، وتعددية الأصوات، والاهتمامات الوقتية المزاحة، ومساءلة العلاقة بين الفرد ومجتمعه، وكشف النقاب عن المفترضات المسبقة بشأن العلاقة مع السلطة عبر الكلام المنطوق، ومن خلال هذه العملية الإبداعية انبعثت أشكال جديدة من الحياة في الحقبة ما بعد الكولونيالية"ص330.
وفي النهاية يتساءل ماتز عن مستقبل الرواية، وإن كان بمقدورها أن تبقى معبِّرة عن روح الحداثة بوصفها مشروعاً مستمراً، وأن تستجيب للتحديات الما بعد الحداثية والمابعد الكولونيالية، وأن تجد لها مكانة لائقة في فضاء العولمة، وأن تمضي "في الارتقاء بأشكال جديدة تمتلك مصداقية معقولة من الإحساس والفكر والإدراك الاجتماعي، وتكون قادرة، في الوقت ذاته، على إبداء استجابة معقولة تجاه الحداثة"ص371 ـ 372. ويستمر ماتز في توسيع أفق أسئلته: "هل يمكن للرواية الحديثة أن توسع تخومها ثانية بحيث يمكنها التواصل مع عوامل التغيير الجديدة؟"ص375. و "كيف يمكن للرواية الحديثة أن تساعد في خلق أنواع جديدة من العقول والشخصيات القادرة على التفتح والازدهار في السياقات العولمية الجديدة"ص376.
الإجابات متروكة للمستقبل، وهي تحدّيات على الروائيين جعلها نصب أعينهم، وهُم يكتبون وهاجسهم التحديث.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح