الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حضور الغياب في القصة القصيرة - الطائرة الورقية-. للأديب العراقي/ رعد الفندي

محسن الطوخي

2016 / 9 / 3
الادب والفن



بدأت القصة القصيرة العراقية في الربع الأول من القرن السابق . على يد رائد القصة القصيرة العراقية
محمود احمد السيد, بمجموعته القصصية "النكبات" عام 1922
تبعه قبل الحرب العالمية الثانية مجموعة من القصاصين ارتقوا بفن القصة , وإن ظلت شبيهة بالرواية المكثفة . صورت الواقع حرفياً, وسجلت تقاليد وعادات البيئة العراقية . منهم :
أنور شاؤول
وذنون أيوب
وجعفر الخليلي
ثم نضجت القصة القصيرةعلى يد جيل الستينيات وأبرز ممثليه:
- محمود البياتي : ولد عام 1949وأصدر مجموعته القصصية "اختراق حاجز الصوت" عن دار المستقبل العربي في القاهرة عام 1984
- محمد خضير : قاصّ وروائي عراقي ولد في البصرة عام 1942. اشتهر على صعيد العالم العربي بعد نشره قصتي (الأرجوحة) و(تقاسيم على وتر ربابة) في مجلة الآداب البيروتية.
وقد تميز الأديب رعد الفندي من بين طائفة من الكتاب العراقيين المحدثين , تعرفنا على الكثير منهم من خلال التواصل على الجروبات الأدبية المهتمة بالقصة . منهم الأدباء:
علي الحديثي , عامر العيثاوي , جهاد جوهر , عبد الكريم الساعدي, عادل المعموري , شيماء عبد الله, عبد السادة جبار, فلاح العيساوي. وآخرين لا يتسع المقام لذكرهم جميعاً .
نشر رعد الفندي أول نصوصه بالواحة في ابريل 2013 بعنوان " الرهان " , وعلى مدار ثلاث سنوات نشر سبع وأربعون نصاً , يمكنها أن تؤلف فيما لو تم جمعها مجموعتين قصصيتين متميزتين .
أما القصة القصيرة بعنوان " الطائرة الورقية", فقد نشرت في الواحة بتاريخ فبراير 2014.
ونحن نرى رعد يبني حبكته في القصة على صراع يؤدي إلى فعل يتنامى , ويتكشف شيئاً فشيئاً , باستخدام المفردة التي تسهم في تحطيم طوق الرتابة وإضاءة أبعاد السرد الاجتماعية والنفسية من خلال وصف الشخوص والأمكنة .
أبرع مافي النص يتجلى فى الإضمار التى يعكس القدرة الفائقة للكاتب على احتواء الفكرة ,
والمعايشة الكاملة للتجربة ..
الشخصيات الحية التى تشى سلوكياتها وأقوالها بسماتها دون جهد أو افتعال .
يحلق شبح الموت على النص , دون أن يأتى على ذكره , وذلك يجعل للموت حضورا راسخا , ومهيمنا ,
والمتلقى شأنه شأن الجدة التى تعلم بحاستها منذ أن رأت الطيار أن ابنها فى عداد الموتى .
ومحنة الطيار ليست فى نقل الخبر الى الأم , بقدر ماهى فى التعامل مع الصبى الذكى ,
الطائرة الورقية والساعة هما الأيقونتان اللتان ساهمتا فى نقل التجربة الى الصبى , والحيلة التى لجأ اليها الطيار باستخدام الأيقونتين فى محاكاة المعركة الجوية التى فقد فيها الأب حياته أكثر من بارعة , وتدل على خيال خصب , هو فى رأيى نموذج لبراعة القاص فى استحداث مستويات متعددة للحكى أكثر من كونه مجرد سرد لوقائع .
كثير من الأحداث البطولية التى ترد فى قصص الأصدقاء فى نصوصهم التى تتعلق بالحرب , يفقدها السرد المباشر بريقها . ويحصرها فى الصيغة الخبرية . لكن النص الذى معنا يجعلنا مشاركين فى التجربة نلتحم ونناور . ونحاول التخلص من الطائرات المطاردة . ونعلم أن آخر ما راود ذهن المقاتل قبل أن يخسر طائرته , وحياته هو ولده الصبى , ونعلم أن خبر الفقد انتقل الى الصبى مقرونا بمشاعر الفخر والبطولة . والزهو بامتلاك أثر من الفقيد .. تجربة مترعة بالصدق , ومتعة بالغة يحصل عليها المتلقى من تضافر فنيات القص فى تصوير المكان والشخصيات والحدث , عمل متماسك . جيد الحبكة , إضافة الى براعة السرد , والأسلوب الجميل الرشيق , والحوار الممتع بين الصبى الذكى , والطيار الذى لا يقل عنه ذكاء وانسانية , كل عناصر النص تخدم النهاية . تفوقت صورة البطل المتجه بطائرته نحو الشمس على صورة الأب الميت , وتنتحب الجدة , وهى تطلق العصافير من أقفاصها لتتبع الابن المفقود نحو الشمس . يعلى النص من قيمة البطولة , ويقرنه بالسمو الانسانى الرفيع فى التعامل مع الحدث .
" توقف متحيراً ، متسمراً ، وسبابته اليمنى غير المنتصبة ترتجف فوق زر الجرس"
في انحنائة السبابة , وفي ارتجافتها نذير , وإيحاء بخطب يوشي موقف الحيرة . ويمكننا اعتبار الجملة نموذجاً للاستهلال الجيد للقصة القصيرة , إذ تبدو الشخصية في موقف يدعوا إلى التوتر , فالشخص يشعر بتهديد ما . كأنما سيواجه خطراً خلف الباب المغلق . وهي بداية موفقة لأن ذلك الإحساس لن ينفك يصاحب القارىء على مدار السرد .
- لم يقم أحمد يوماً ما بإرسال مبعوث إلّا لأمر مهم
- بان الإرباك على صوته :
" طأطأت العجوز برأسها ، وكأنها تخفي وجهها عن الطيار ، تعبث بحاشية حجاب رأسها الفضفاض"
- سُر كثيراً عند مقاطعة سامر حديثه مع جدته
- كأنما كان في حلق الطيار حجراً وهو يتكلم بغصة:
- مالي أراك تتصبب عرقاً و الطقس بارد؟
- الذاهبون للشمس لا يسمعون أهل الأرض!
" حلقت الطيور عالياً، بعيداً، بعيداً ، تلاحق الطائرة المتجهة نحو الشمس"
هي إشارات يوزعها الكاتب على مدار السرد ,بإيقاع مدروس تتخللها مقاطع سردية تراوح بين وصف المكان , وتهيئة القارىء لاستقبال الخبر من خلال وعي الأم والإبن .
فهو يشكل الأحداث مشحونة بطاقة تعبيرية تعتمد الصورة , واللفتة , والحوار معتمداً على الأيقونة الذهنية التى احتلت مكانها في العنوان لتحقيق غايات موضوعية , وجمالية , ونفسية . " الطائرة الورقية " , بشقيها اللفظيين الذين يمثلان القوة , والهشاشة .
فالطائرة الورقية كوسيلة تمنح الصبي القدرة على الارتقاء , والمناورة . والحبل الواصل بين يديه . وبين نقطة الارتكاز والتوازن فيها , دلالة على الارتباط القدري والإرادي بين جيل يمثله الصبي بأحلام البطولة التي رسخت في ذهنه كامتداد لمهنة الأب, وبين جيل يمثل النضال الآني.
" أحب الطيران حباً جماً ، كما أنني أمتلك طائرة سريعة جداً ، دائما ما كان أبي يعلمني الطيران عليها... "
واستخدام الصور الدلالية لترسيخ المعني يبدو جلياً في مشهد التلاحم في التجربة بين الطيار والصبي:
جلس الطيار القرفصاء وراء سامر، واضعاً خده الأيسر قرب خد الصبي الأيمن ، وكلاهما ينظران نحو الطائرة الورقية المحلقة ، ماسكين بالخيط
تتضافرالإشارات, والصور التي تمثل فيما بينها نسقاً تعبيرياً دلالياً لتشير إلى القيمة الأهم في النص, والتي يمكن اعتبارها قيمة محملة على تفاصيل التجربة الإنسانية التي تمثل العمود الفقري له , وهي قيم البطولة , وتلاحم الأجيال المبني على التلقين بقيم البطولة والمجد .
- طلب أبوك مني أن أعطيك هذه الساعة ، إنها ساعة طيران حقيقية.
- هل هي ساعة أبي حقاً ؟ حبيبي ، حبيبي أبي
- دعني أساعدك على لبسها رغم إنّها ستكون كبيرة جداً على معصمك
.......
- لكن أين ساعته ، لم أرها بمعصمه ، أنه لا يستغني عنها أبداً
- يا سامر الساعة في يدك ، أصبحت مالكها ، دع ذلك بيننا ، لا تفرط بها أبداً ، هيا لنستمر بالطيران.
فإن كانت الطائرة الورقية تعد رمزاً للقدرة على التحليق والمناورة , وووسيلة للوصول إلى الشمس/ المجد . فهي لم تتجاوز العام إلى الشخصي .
وتأتي الساعة لترتق ذلك الفاصل المعنوي, ولتمثل الارتباط والحميمية . ولأن الساعة هي ساعة الطيران الخاصة بالأب الطيار, فهي تمثل بعدين في النص .
- الانتقال المادي لملكية الساعة من الأب إلى الإبن, كدلالة تعبيرية عن الاستمرار والتواصل .
- وانتقال الشغف بالطيران , كعنوان للبطولة والسعي إلى المجد.
وتتمثل براعة السرد في نجاح الكاتب في معالجة شكل من أشكال الإسقاط النفسي في تصوير الصراع الداخلي بلغة المجاز المكثفة , الأمر الذي منح النص عمق الدلالة. فهو يشير ولا يصرح, ويعتمد اللحظة المشحونة بهمها الإشاري المتجاوز لحدود الزمان والمكان, باعتماد التكثيف الذي أضفى على النص شعرية , اللحظة التي تحمل رؤى تشتبك مع متلقيها ذهنياً ووجدانياً , لأنها تعتمد الإحالة والتأويل, وتتكىء على مقومات السرد : الحدث , الشخصية . البنية الزمكانية .
______
نص القصة :
الطائرة الورقية
توقف متحيراً ، متسمراً ، وسبابته اليمنى غير المنتصبة ترتجف فوق زر الجرس كما أن وِجهة رأسه باتت معكوسة عن باب البيت ، كسر صبي سكونه حينما دنا منه ، يحمل بيده اليمنى كيساً من الخبز:
صباح الخير عمو ، من المؤكد أنّك زميل أبي !
صباح النور ، وكيف عرفت ؟
ليس الأمر بغاية الصعوبة أو الذكاء ، خصوصاً وأنت ترتدي بزة الطيران!
فعلاً ... فاتني ذلك الأمر، إذاً أنت سامر!
الأمر لا يستحق ذلك العناء أيضاً ، قد عرّفت عن نفسي بقولي :أنت صديق أبي ، وليس لي أخ آخر من الذكور!
قهقها ، حضنه الطيار بلهفة حتى لاحت بين مقلتيه دمعة محبوسة:
صدق أحمد عندما وصفك بالذكي و ...........!
قاطعه سامر:
والمتحذلق !
نعم صدقت ، هو يقولها هكذا دوما ، لست أنا!
ضحكا هذه المرة كثيراً ، تسلق سامر باب البيت برشاقة ، فاتحاً متراسه ، منادياً بصوت عال :
جدتي، قد جئتك بالخبز الحار من الفرن ومعي زميل أبي، سأجعل مجلسه في الحديقة، لا عليك، سأهتم بأمر ضيافته .....
دخل الطيار مدخل البيت المزين بحديقة كبيرة ، جميلة التصميم ، كثيفة الزرع يتوسطها ثيل أخضر داكن ، محاطة بساقية مقوسة الأكتاف ، مرصوصة بحجر ملون ، تكاثفت على أطرافها أشجار متنوعة بشكل متناسق وجميل ، تجاوزت بعض الأغصان السياج الخارجي ، تناثر الكثير من ثمارها خارج البيت و كمية أقل على الثيل ، وطافت بعض الحبات على مياه الساقية ، تستظل بالأشجار أزهار الجوري بأغصانها المتدلية ، ومنها مَن وُضِع داخل أواني فخارية معلقة بشكل متقن على مساند أرجوحة كبيرة تعلوها مظلة برتقالية اللون ، كأنها حشرت تحت فيء شجرة التين الكبيرة ، بجانبها كراسي بلاستيكية مبعثرة ، ملونة بلون عشب الحديقة ....
لم يهتم الطيار بأمرها كثيرا ً، كأنه رآها مسبقاً ، دائماً ما كان أحمد يتحدث له عن مواصفاتها كثيرا ً، هو يعشقها ، و يقضي معظم أيام إجازته للاعتناء بها ، لكنه فوجئ بأقفاص الطيور الموزعة بين أرجاء الحديقة هنا وهناك ، حينها لم يستطع حبس صوته:
لماذا يا أحمد ، حبست هذه الطيور ، خصوصاً وأنت طيار بارع ، تعشق الطيران، يا ترى ما هو شعور تلك الطيور ، لا ، لن أصدق ما أرى ؟
قطع سامر حديثه ، حاملاً بيديه وعاء فيه طبق من التمر ( الخستاوي ) وقدحين من اللبن:
عمو ، أبي لم يحبسها إطلاقاً ، إنما يخشى عليها دوماً من المتطفلين ، تطلقها أمي في صبيحة كل يوم ، لن تصدقني بما سأقوله لك: حالما تشعر تلك الطيور بمغادرة أمي كل صباح وهي تمسك بيد أختي التلميذة في المدرسة التي تعمل فيها أمي كمعلمة، تحط جميعها على الأرض، تدخل أقفاصها بكل سلاسة وهدوء وأمان، وما على أمي، سوى غلق تلك الأقفاص...
أين هي جدتك ؟
بالقرب منا ، تسمع حديثنا ، إنها مقعدة على كرسي متحرك ، أصيبت بمرض ما، منذ أن تقاعدت عن العمل .
نعم ، سمعت ذلك من أبيك ، عافاها الله ، كانت أستاذة قديرة ....
جلس الطيار على إحدى الكراسي الخضراء، يشرب اللبن بروية ، بينما يحاول سامر غسل يده اللزجة بمياه الساقية بعد تناوله بعض حبات من التمر ، ثم بدأ يتكلم وهو مازال يمضغ :
هل أنت في إجازة ؟
نعم ، جئت للتو...
وماذا عن أبي ؟
ستراه قريباً إن شاء الله ، وهل اشتقت له ؟
عمو : قبل أن أجيب على سؤالك ، مالي أراك تتصبب عرقاً و الطقس بارد؟
لا ، لا شيء ، أشعر بالتعب ، لم أنم طيلة الأيام الماضية ، دعك من هذا الأمر ، لم تجب على سؤالي ؟
وكيف لا ، إنه حبيبي ، أفضل من أمي !
لا ، لِمَ تقول ذلك ؟
إنها تكره أن أكون طياراً مثل أبي !
لأنها تخشى عليك كثيراً !
ولِمَ لا تخشى جدتي على أبي ؟
لأنها شجاعة ، حكيمة ، تكبر أمك بعدة سنين ، كما أن أبيك أصر على ذلك ...
قال أبي ، إن الحرب ، تحتاج إلى رجال أقوياء ، وأنا قوي جداً ، أنظر إلى عضلاتي المفتولة !
سحب سامر كُم قميص يده اليمنى فوق المرفق، واضعاً ذراعه بزاوية قائمة ، مقلصاً عضله ، كرر تلك الحركة عدة مرات ، أما الطيار كان منشغلاً بمسح العَرَق عن وجهه بكم بزته... ومازال سامر يتكلم:
كم هو جميل أن أقاتل مع أبي في سرب واحد ، أحب الطيران حباً جماً ، كما أنني أمتلك طائرة سريعة جداً ، دائما ما كان أبي يعلمني الطيران عليها...
حقا ! وأين تلك الطائرة ، شوقتني كثيراً ؟
إنّها في المخزن ، سأجلبها حالاً...
أخذ سامر الوعاء ، متجهاً نحو باب المطبخ ، الذي خرجت منه امرأة عجوز ، تدفع بيديها دولابي كرسيها المتحرك نحو الممر المرصوف بالمرمر المؤدي إلى الكراج والملاصق لسياج الحديقة الخشبي ، اِنتبه الطيار لصوت صرير إطاري العربة ، أسرع بالنهوض من مقعده ، سبق العجوز بالتحية:
أهلا أمي ، عافاك الله ، كيف حالك ؟
أهلا ولدي ، أنا بخير ، وماذا يحصل لعجوز مثلي ، أنا قلقة عليكم كثيراً ، انطلاق الصواريخ ، صفارات الإنذار وسيارات الإسعاف ، أمست الأصوات الأكثر شيوعاً في هذا البلد، ولا نعلم ماذا يجري في تلك الحرب الملعونة ، لاسيما بعد انقطاع مصادر الكهرباء و الاتصالات ، والتشويش على محطات الراديو ، البلد يحترق عن بكرة أبيه ...
صمتت قليلاً ، كأنها استدركت شيئاً مهماً :
كيف حال أخيك ، هل هو بخير ؟ سمعت أنكم في درجة قصوى من الإنذار ، لم يقم أحمد يوماً ما بإرسال مبعوث إلّا لأمر مهم ، هل هناك خطب ما ؟
أخذت أوداج الطيار تصعد وتنزل من منحره و بان الإرباك على صوته :
إنّه بخير ، يبعث السلام إليك ولعائلته ، سترينه قريباً بإذن الله..
طأطأت العجوز برأسها ، وكأنها تخفي وجهها عن الطيار ، تعبث بحاشية حجاب رأسها الفضفاض .
قطع سامر حديثهما ، آخذاً بيد الطيار نحو الحديقة:
ها هي طائرتي الورقية ، أترى كم هي جميلة ! أصبحت طياراً ماهراً ، سترى صدق كلامي ؟
ظلت العجوز تراقب الطيار ، التي باتت حركاته مرتبكة ، يمسح جبينه بين حين وآخر ، سُر كثيراً عند مقاطعة سامر حديثه مع جدته ...و بعد أن استأذن منها أسرع نحوه ، مشاركاً إياه بنصب طائرته الورقية ، فتحا خيطها الطويل وسط الحديقة ، رفع سامر طائرته بمساعدة الطيار إلى الأعلى ، أخذت ترتفع تدريجياً على علو شاهق و كأنها طائرة حقيقية ، همس الطيار بأذن سامر المشغول بأمر الطائرة :
طلب أبوك مني أن أعطيك هذه الساعة ، إنها ساعة طيران حقيقية ..
لم يسمع سامر ما قاله الطيار في الوهلة الأولى ، كرر الطيار ذلك ، لكن هذه المرة بصوت عال ، لم يٌصدِّق الطفل ما سمعه ،بانت البهجة على محُياه:
هل هي ساعة أبي حقاً ؟ حبيبي ، حبيبي أبي ، كررها عدة مرات ، كم اشتقت إليه ، أيها الطيار ، أرجوك أذهب بدلاً عنه ، حتى يأتينا بأجازة ، الله عليك ، الله عليك ..أخذ يراوح برجليه إلى الأعلى والأسفل ، ضارباً بإحدى قدميه الأرض بقوة كل مرة، مكرراً توسله ، كأنما كان في حلق الطيار حجراً وهو يتكلم بغصة:
إن شاء الله ، دعني أساعدك على لبسها رغم إنّها ستكون كبيرة جداً على معصمك ..
بعدها جلس الطيار القرفصاء وراء سامر، واضعاً خده الأيسر قرب خد الصبي الأيمن ، وكلاهما ينظران نحو الطائرة الورقية المحلقة ، ماسكين بالخيط ، همس بأذنه ثانية:
إذا كنت تريد من أبيك أن يكون معك الآن ، لا عليك سوى أن تغمض عينيك ، واِنتِبِه جيداً لما أقوله لك!
أغمضَ الصبي عينيه وهو يبتسم :
وماذا بعد ؟
تخيل بأنً أبيك داخل الطائرة ، هل تراه الآن ؟
صمت سامر قليلاً ، كأنه يبحث عنه ، صاح عالياً:
نعم ، نعم ؛ قد وجدته أنه يقود الطائرة متعمم بغطاء حديدي ، ولكنه لم ينتبه لي حتى الآن.
ربما منشغل بأمر الشمس لأنها أمست أمام المقصورة ، حاول بخيطك التملص من مقابلة الشمس ...
لا أستطيع ، هناك غربان ، قريبة من طائرتي ، تحاول نكزها ، لابد أن أناور بها ، سأنحدر قليلاً ، ثم أتسلق...
جيد أيها البطل ، تجاوز الغربان ، ولا تجعلها خلفك أبداً ، هل رآك الآن ؟
سكت برهة ، ثم بادر متحدثاً بهدوء هذه المرة وبنبرة حزينة:
إنه لا يسمعني ! لِمَ لا يسمعني ؟
رفع من نبرة صوته عالياً :
أبي ،أبي ، أبي أرجوك التفِت نحوي ، هل من المعقول أنك لم ترني أو تسمعني؟
التفت نحو الطيار ومازال مغمض العينين:
عمو الطيار ، لكن أين ساعته ، لم أرها بمعصمه ، أنه لا يستغني عنها أبداً ؟
ذرف الطيار دمعه خلسة لكنها بانت على حشرجة أنفاسه :
يا سامر الساعة في يدك ، أصبحت مالكها ، دع ذلك بيننا ، لا تفرط بها أبداً ، هيا لنستمر بالطيران ، واترك أمر أبيك ، الذاهبون للشمس لا يسمعون أهل الأرض!
إنه يتجه نحو الشمس فعلاً ، مازالت الغربان تلاحقه بسرعة ..
لا عليك من الغربان، ستنكش حرارة الشمس ريشها..
و ما لبثا على تلك الحال حتى سمع الطيار هديل الطيور و كأنها مفزوعة، عندما قامت العجوز بفتح متاريس الأقفاص، ناحبة بصوت عالِ، كأنه يخرج من القلب، حلقت الطيور عالياً، بعيداً، بعيداً ، تلاحق الطائرة المتجهة نحو الشمس ....
رعد الفندي
العراق - بغداد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا