الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثنائية الموت والرعب - قراءة في المجموعة القصصة -معرض الجثث- للكاتب العراقي حسن بلاسم

كلكامش نبيل

2016 / 9 / 3
الادب والفن


إنها المرة الأولى التي أقرأ فيها للكاتب العراقي البارز حسن بلاسم، ولن تكون الأخيرة بالتأكيد. في "معرض الجثث" تجسيد سريالي لثنائية الموت والرعب، عرضٌ للموت بطريقة فنية لربما تهدف للسخرية منه، بعد أن عجزنا عن وقف زياراته اللامتناهية لوطننا منذ عقود، فقرر الكاتب أن يسخر منه ويهينه، ويصوره بطريقة يمتزج فيها جمال اللغة ببشاعة الواقع المصوّر. إنها قصصٌ حية وخالدة عن الموت، قصص لاذعة تحاول قتل لامبالاتنا، قصص عبثية تحاول أن تنبهنا إلى العبث الذي نعيش فيه. تضم هذه المجموعة القصصية مادة سردية ضخمة إختزلتها عبقرية الكاتب بدهاء لتخلق قصصاً قصيرة تجذب القارئ ليكملها ويكتشف أسرارها العجائبية المشابهة للحقيقة، والتي دفعتني في كثيرٍ من الأحيان للإستعانة بمحرك البحث غوغل بحثاً عن أخبار تورد تلك القصص، لأكتشف بأنها قصص منسية وكادت أن تُنسى لو لم يقم كاتبنا بتوثيقها بهذه الجمالية. إنها قصص عن واقعٍ مرعب، ووجودٍ مخيف يعايشه العراق والعالم منذ عقود، أو لربما هكذا هي الحياة منذ بدايتها المجهولة.

من هذه القصص ينبعث الخوف، وتقطر الدماء، وتصمّ أذناك أصوات الإنفجارات والرصاص وصراخ الرعب والإحتضار والإستغاثة. وغالباً ما تتسم الصور بالضبابية خلف ستار عتمة الليل أو دخان الماريهوانا، لتختلط كل الذكريات والكوابيس وصور الحياة معاً بطريقة أخاذة ومخيفة في الوقت ذاته. في هذه القصص نقرأ عن الغابة، والذئاب الحقيقية والبشرية، وكيف أن من الصعب في كثيرٍ من الأحيان التمييز بينهما. تأخذنا هذه القصص في رحلة موجزة عبر تاريخ العراق، لنقرأ عن ضحايا الحروب العبثية في الثمانينات والتسعينات، والموت الذي خلفه الحصار بعد ذلك، قبل أن يختتم المشهد ببداية مرعبة أخرى بعد 2003، ليجد الشعب نفسه أمام دوامة من القتل اليومي، والتهجير، والجماعات الإرهابية التي تنشر الرعب والموت في كل مكان. يكتب بلاسم عن كل ذلك بلسان من عايش ويعايش كل آلام شعبه. يهتم الكاتب بكل ذلك، وإن حاول تصوير لامبالاته في كثيرٍ من الأحيان. إنها قصصٌ ساخطة على كل الواقع الزري الذي يُفرض على كل من يولد في هذه البقعة من الأرض، واقع يرفض أن يغادر حتى من يختار الهجرة.

هذه المجموعة القصصية تعبير عن حياةٍ بكاملها، عن الوجود البشع، فهو يعبر عن الحياة بكافة أوجهها، وإن طغى وجهها المرعب في الغالب. ربما لأن الحياة كذلك حقاً، وهو الذي وصفها بأن كل كلمة في العالم ممكن أن تصفها وتلحق بها، لأنها ببساطة لا تمتلك تعريفاً واضحاً، فهي كما يقول "زبالة وزهرة" في الآن ذاته.

وفي وسط دوامة الخراب والرعب والموت، لا ينسى الكاتب تذكيرنا بمعرفته الفذة بعالم النباتات والغابة وروحها وصمتها، ليأخذنا في رحلات تمتمد من أهوار العراق وقراه، وحتى غابات إيطاليا وثلوج فنلندا مروراً بشوارع إسطنبول وشاحنات التهريب في غابات البلقان. ستأفجأ كثيراً بالقراءة عن أمورٍ كثيرة تجهلها، ويصعُب نقاشها ههنا لأنه سيفسد عليكم متعة القراءة.

في "الأرشيف والواقع"، القصة القصيرة المؤثرة والمخيفة في أجوائها، تلميحات لمن يدير كل لعبة القتل والخراب في العراق، وعن تعاون وإشتراك كل الأطراف معاً في إستكمال رعب المشهد، على الرغم من العداوة المعلنة. إنها قصة سريالية يختلط فيها الواقع بالخيال، تماماً كما يختلطان في قصص طلبات اللجوء الواقعية والأرشيفية.

في القصتين "شاحنة برلين" و"العذراء والجندي"، نقرأ عن تحول الإنسان إلى وحش من أجل البقاء، ذلك البقاء الذي دفع الخمسة وثلاثين شاباً للهرب من العراق في شاحنة، والبقاء الذي يدفع الجندي لعشق فاتن في معمل خياط البدلات العسكرية، هذا البقاء نفسه يدفع ذات الأطراف للقتل وأكل الجثث من أجل حياة بهيمية فقدت معاني الإنسانية. ذكرتني القصتان بقارب الميدوز وتلك اللوحة التي داعبت مخيلتي منذ الطفولة. ونجد في قصة "لا تقتلني، أرجوك هذه شجرتي!" سخرية القدر الذي ساق رجلاً يبحث عن وهب الحياة لإبنته المريضة بسرطان الدم ليموت بسبب تواجده في المكان والزمان الخطأ، الخطأ الذي يسميه الناس القدر، فتكون رغبته الخرافية في وهبها الحياة سبباً في موته، لكن روحه تواصل مطاردة القاتل حتى بعد هجرته من العراق.

في قصة "جريدة عسكرية"، يختلط الواقع بالخيال، وهناك جثة تتحدث إلينا مرة أخرى، وهناك صراع من أجل الإرتقاء في المناصب وإن كان بالسطو على عمل رجلٍ يفترض أنه ميّت، وربما في ذلك إشارة للمسؤولين الذين يعتاشون على دماء الآخرين وإحراقهم في حروب تدمر حياتهم وتنهي قصصهم قبل الأوان. في هذه القصة معانِ عميقة تقارن بين أولئك الطغاة والقوة الحاكمة للكون فكلاهما يمتلكان بشر ومحرقة وحكايات. كما يشير توالي الحكايات إلى قصص كل أولئك الضحايا الذين سقطوا في الحرب، وحرقها هو حريق حياتهم وأحلامهم البعيدة عن الموت، الأحلام المتعلقة بالحب والبقاء. إنها قصة مؤثرة للغاية.

في قصة "حقيبة علي" نقرأ عن معاناة الأم العراقية، ومعاناة اللاجئين ومشاكلهم، وكيف تغني تجربة اللجوء الكاتب لدرجة أن القاص الألماني الشاب يشعر بأنه لا يمتلك ما يكتب عنه، ليثبت بأن المعاناة معين الإبداع الدائم. فعلى الرغم من تشابه القصص في إطارها العام، إلا إن لكلٍ منها ميزة فريدة تجعل منها جريدة بأن تحكى وتدون. في هذه القصة نفاجأ بمحتويات حقيبة علي، وتبرز الجثة مرة أخرى، ونتعرف على عمق المحبة الإنسانية وجنونها. لقد أبكتني هذه السطور من دون أن أدري.

في قصة "مجنون ساحة الحرية"، تلميحات لشابين أشقرين يجلبان الخير لحي الظلمة ليؤمن السكان بأنهما مصدر فأل حسن، ودفاع السكان عن تمثال الشابين بعد قرار الحكومة بإزالته، وكيف أن الشعب نفسه نسي أمر الشابين بعد تحطم التمثال على الرغم من تمسكهم بخرافات جلبهما للخير حتى في أثناء المعركة والهزيمة الأولية للقوات الحكومية. الغريب أن القصة التي كان يبجلها السكان تنتقل – بعد أن فقدوا إيمانهم بها – لجيلٍ آخر لم يكن ليصدقها من قبل.

في قصة "كوابيس كارلوس فوينتس" نقرأ عن صراع الهوية، محاولة محو الذات متمثلة بمحو الذكريات، لخلق كيان جديد، عندما يصبح سليم عبد الحسين العراقي "كارلوس فوينتس" الهولندي. في هذه القصة نقرأ عن واقع يعايشه المهاجرون الهاربون من كل شيء، ولكن الأحلام تتحول إلى كوابيس وتصر على تذكيره بالجذور، فيتوقف عن أكل البطاطا وكل جذور النباتات تجنباً لتلك الكوابيس. في النهاية يقرر أن يجهز على نفسه في حلمه – تماماً كما في إجهاز دوريان جراي على صورته في رواية أوسكار وايلد. لكن المأساة هنا، أن هولندا تصفه بما حاول الهروب منه خلال حياته، ويقوم أقاربه بدفنه في العراق والنجف بعد كل محاولاته للهرب من هناك.

في قصة "معرض الجثث" سوداوية كبيرة، وإغراق في وصف البشاعة على أنها فن، وكأنه الفن الوحيد الذي يجيده عصرنا الحالي، في الشرق الأوسط على الأقل. في هذا العصر يكافأ المجرم على جريمته المبتكرة، ويمنع التزييف، ويقتل من يرتجف بسبب مشاعر إنسانية لا تزال تعتمر قلبه.

في قصة "سوق القصص" نرى كيف تتحول تفاصيل صغيرة عابرة إلى قصصٍ مؤلمة تتكرر يومياً ليتم نسيانها في بلدٍ يلفه الموت من كل جانب. وفي قصة "الملحن" نقرأ عن قصة ملحنٍ تم قتله عام 1991 بسبب تأليفه لألحان الأناشيد العسكرية الخاصة بالنظام السابق فضلاً عن تأليفه لقصائد ضد الإله وقيامه بتلحينها. وفي قصة "تلك الإبتسامة المشؤومة" نقرأ عن مفارقات سريالية تتعلق بمعاقبة الإنسان على عدم قدرته عن التعبير عن مشاعره الدقيقة، وكيف يدين الناس ذلك أكثر من الجريمة نفسها من دون معرفة الأسباب، وربما تكون تلك الإبتسامة تعبيراً عن لامبالاة العالم تجاه ما يجري من دون أن ينتبه أحدٌ لتلك اللامبالاة. في "أغنية الماعز" وكما في قصصٍ أخرى، نجد كوابيس جرائم سابقة تطارد البطل حتى النهاية وتصر على تدمير حياته حتى لو كانت جرائم غير مقصودة إرتكبها طفلٌ عابث وشقي. في قصة "الحفرة" نجد تعبيراً عن ضحايا الحروب عبر الأزمنة وتبدل هوياتهم وقصصهم لكنهم يبقون جنوداً يسوقهم حظهم العاثرة لحفرٍ أبدية لا تشبع تحفرها الحروب في كل مكان.

في قصة "المسيح العراقي"، نقرأ عن البطل دانيال وقدراته الخاصة في التكهن والتي أنقذته من أتون الحروب المتوالية في بلاده، وإصراره على البقاء في العراق ليرعى والدته المقعدة والتي أفقدها الزمن كل حواسها، قبل أن يفشل حدسه في إنقاذه من إنتحاري جبان جاء ليدمر لحظة فرحٍ قصيرة في مطعم يقدم المشويات وهو يسخر من عبث الموت في شوارع العاصمة من خلال تسميات مبتكرة للأطباق بنكهة الموت. لكن حب دانيال لوالدته يجبره على التضحية بحياته من أجل أن تبقى، حب أفقده كل عقلانية، فكان سبباً في موت غيره وإنهاء قصصهم، من أجل أن تبقى والدته العاجزة عن البقاء على قيد الحياة من دونه. ربما كان دانيال أنانياً يسعى للتخلص من مرارة الفقد فحسب، فهرب من حياته معتقداً بأنه قد أنقذ والدته. في قصة "شمس وجنة" نقرأ عن المحاولات اليائسة وغير الواقعية في حفاظ القرويات على شرفهن حتى لو كان المقابل موتهن، ونقرأ عن بؤس المرأة في الشرق وطاعتها العمياء لزوجها، وإنتظارها وحيدة في قرية هجرها الجميع، لتبقى الأم والإبنة وكلاب القرية، في إنتظار المجهول. يعبر الكاتب ببراعة عن الموت والخراب في القرية، وتحارب الأطراف في سوريا، واللعبة الدولية التي تسير كل ذلك وتستفيد منه. ويصور ببراعة شخصية الراوي الذي يبقى مجهولاً حتى نكتشف بأنه أحمق عالق على الحدود، لا وجود له، بعد أن قتل وهو يحارب مع الجماعات الإسلامية منتظراً الوصول إلى الجنة من دون أن يكترث لتبول الجنود على جثته. لكنه يتساءل بعد موت الكلاب والبنت وهروب الأم الذاهلة بعد قتلها لإبنتها، إن كانت "الجنة" هي تلك القرية المهجورة فقط.

في قصة "ألف سكين وسكين"، يأخذنا بلاسم مرة أخرى في رحلة كثيفة من الأحداث ويقص لنا حكاية أشخاصٍ كثر وأحلامهم التي كتبت الحروب عليها الفناء. رأيتُ في هذه القصة المؤثرة تعبيراً عن الرغبة في إخفاء أدوات الموت، ولكن دائماً ما تكون هناك طريقة لتعود من جديد. فبعد أن فقد جعفر ساقيه في حرب الخليج الثانية، التي بذل كل ما في وسعه للهرب منها قبل أن تقوده الشرطة الإنضباطية إلى الجبهة، ليواصل حلمه في كرة القدم على كرسيه المتحرك من خلال تدريب أطفال الحي الفقير وتشجيعهم. لكن الحياة القاسية تصرّ على مطاردته، لتختطفه جماعة إسلامية إرهابية بتهمة بيع مجلات "فاجرة" وتقرر قطع يديه، بعد أن إعتبروا بتر ساقيه عقوبة إلهية لم تردعه، لكنه يمارس معهم لعبة إخفاء السكاكين التي يجيدها. إختفت كل السكاكين فإعتقد الإرهابيون بأنه شيطان، وقرروا صلبه وبتر يديه بالرصاص. تعذب جعفر في بلاد "ألف سكين وسكين" قبل أن يحرق المجرمون جثمانه وسط التكبير. لكن "ألف بوسة وبوسة" ولدت جعفر آخر ليمارس ذات الهواية، وربما ذات المصير.

ختاماً، إنها مجموعة قصصية كما الحياة، بكل مرارها وعبثها وبشاعتها، ستتألمون كثيراً، ففي كل قصة جثة واحدة على الأقل في هذا المعرض الذي يسعى لتعرية بشاعة الحياة وبذاءتها، ولكنني أنصحكم قراءتها لتتطهروا من هذا العبث عبر معايشة المزيد من الألم. إستمتعوا وتألموا!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل