الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدلية الخفاء والتجلي في-مكتوب على الجبين-

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2016 / 9 / 5
الادب والفن


جدلية الخفاء والتجلي في"مكتوب على الجبين"
أسامة عرابي
في جديده"مكتوب على الجبين..حكايات على هامش السيرة الذاتية"الصادر عن "دار الكرمة"،يواصل المفكر الوطني د.جلال أمين ما بدأه من تقاليد ثقافية وأدبية في كتابة سيرته الذاتية عبر جزأيْها الموسوميْن باسم "ماذا علمتني الحياة؟"و"رحيق العمر"؛من حيث إمكان قراءة كلٍّ منهما باستقلال،أي بحسبانهما كتابيْن مستقليْن يرصدان مستويات وعي الذات والهوية الفردية بشرطيْها:التاريخي والإنساني؛ومن ثَمَّ إدراك ما يُسبغه على مواقفه وفهمه للظواهر العامة من معانٍ ومغازٍ،وعلى نحوٍ يُدرج عمله هذا في سياق مشروع تنويري يستهدف التحرير الاجتماعي،والحفاظ على ذلك البُعد الحواري المتواصل بينه وبين أسئلة الحياة واللغة والثقافة،التي ينفذ من خلالها إلى جوهر الزمن الذي نعيش.وبذلك نعثر في تكوين د.جلال أمين على ذلك التكامل المنشود بين حب الحياة وحب الحقيقة.من هنا؛يأتي مغزى عبارته المهمة التي وردت في تضاعيف كتابه"ماذا علمتني الحياة؟":"لم أعطِ أي اهتمام لما قد يُسببه بعض هذا الذي كتبته من ألمٍ لبعض الأشخاص الذين ذكرتهم بالاسم،أو الذين يمكن التعرف عليهم بسهولة،أو ما قد يُثير عليَّ غضب هذا الصديق القديم أو ذاك،إذا حدث وقرأ الكلام المكتوب عنه"،وأضاف:"كنتُ أقارن بين النفع الذي يأتي من ذكر الحقيقة كاملة،وبين الألم الذي يُحدثه ذكرها؛فأبقيتُ على النقد باعتبار أن النفع المتوقَّع يُبرِّر ذلك".الأمر الذي يُحيلنا إلى مفهوم الواجب الذي يستدعي إلى الذهن مفردات:الوعي،الالتزام،المسئولية الأخلاقية،وبما يحمل المرء على التخلي عن سيكولوجيا المصلحة،وكل تأويل نفعي للسلوك الإنساني؛نشدانًا لحقيقة تتغيَّا الكشف وزعزعة اليقينيات.فما الذي يصدر عنه عنوان كتابه هذا؛بوصفه إدراكًا أوليًّا لعالمه،وفعالية إنتاج لأشكاله الرمزية والرؤيوية؟يقول د.جلال أمين:"معظم التصرفات التي تحكيها هذه الحكايات تبدو لي(بقليل من التأمل)،وكأنها كانت بشكل أو بآخر"حتمية الحدوث"،إما بسبب الظروف الاجتماعية التي أحاطت بصاحبها،وإما(وهذا هو الأكثر حدوثًا)بسبب ما وُلد به من ميول نفسية حدَّدها على الأرجح ما ورثه من جينات"،مؤكِّدًا أن"هذه هي النتيجة التي أصبحتُ أميل إليها من ملاحظاتي لتصرفات مَنْ عرفتُ من الناس".عندئذٍ لا يتبدى له السلوك الإنساني على ما يراه الآن فحسب،بل يُمسي ذلك الذي يضرب بجذوره بعيدًا ليستجيب إلى ما ورثه من جينات،أو إلى ما نشأ عليه من قيم حاكمة وضاغطة،كما لاحظه بجلاء في تراجيديا زميلته الإنجليزية التي كانت تُدرِّس مادة الأنثروبولوجيا في الجامعة الأمريكية قبل أن تستقرَّ نهائيًّا في إنجلترا،وكانت تتبنى أطفالًا كينيين بعد انفصالها عن زوجها الكيني الذي طلَّقها لعجزها عن الإنجاب،وصعوبة تصورها الحياة بلا أطفال.لكن الولديْن فشلا في الدراسة على الرغم مما كانت توفره لهما من رغد العيش وأسباب الحياة،وأنجبت البنت طفلًا أسمر مثلها لم تستطع تسمية أبيه؛ما حمل د.جلال أمين على الاعتقاد بأن"للوراثة والجينات أثرًا أكبرَ بكثير من الظن الشائع"،مُضيفًا:"إذ ما الذي يُمكن أن تفعله البيئة الصالحة والتربية الجيدة إذا لم يكن لدى الطفل الاستعداد الطبيعي اللازم؟".وقد أُثر عن الفيلسوف اليوناني"هيراقليطس"قوله:"إن ما يُميِّز الظهور هو الاختفاء" ؛فالإنسان يتجلى ويتوارى في آنٍ.وقد تساءل"نيتشه"عمن يتكلم وراء النصوص،وكشف "فرويد"عن جدل العلاقة بين موضوع الحلم ومحموله من الشواغل والرغبات اللاشعورية المكبوتة داخل نفوسنا.وعلى هذا النحو،سعى د.جلال أمين من وراء حكاياته هذه،إلى البحث عن"المعنى والمغزى"،وإلى"ذكر الحقيقة"التي تفكُّ لنا طِلِسْمات"الألغاز البشرية"الكامنة وراء"الصفات المتعارضة"،أو الثاوية خلف"التصرفات غير المفهومة"؛وذلك من أجل" فهم أعمق للناس أو للحياة أو للسياسة...إلخ".وهذا موقف إيجابي يقودنا إلى الوعي الشامل بدلالة الدور الذي تُؤديه الحكاية في التعبيرعن التجربة الإنسانية ومستوياتها المُركَّبة،ومن ثَمَّ،لم يذهب إلى ما ذهب إليه"أبو العلاء المعري"في قوله:
بُعدي من الناس بُرءٌ من سقامهمُ / وقربهم للحجى والدين أدواءُ
لهذا قسَّم د.جلال أمين كتابه إلى أبوابٍ خمسةٍ اتخذت العناوين الآتية:عائلتان محترمتان..في الصبا والشباب..مشاهير وعظماء..في الحياة الحديثة..مكتوب على الجبين.غير أن هذا التقسيم ليس مجانيًّا،بل أتى ضمن لعبة علائقية مع الفضاء الزمني والذات؛ليُصبح المعنى المرجو إستراتيجية تُمارَس في غمارها مستويات من القيمة متحركة لا متكافئة،الأمر الذي يضعنا أمام أنطولوجيا جديدة تُزيح النقاب عن واقع ملتبس تصوغه مفارقات راهننا.بَيْدَ أن د.جلال أمين حين يتحدث عن عائلته أو أقاربه الإنجليز(من جهة عقيلته الإنجليزية الأصل)،أو أصدقائه وزملائه ومَنْ صادفهم في رحلته الحياتية أو المهنية،فإنه يُعنى بالقيمة المشهدية لحكايته كي يرسم لها أفقًا فنيًّا،يُعينه على أن يجوس بعيدًا في حنايا المنعطفات المعتمة في حياتنا الإنسانية،وأن يقترب من الزوايا الشائكة في علاقة كلٍّ منا بالآخر،وأن يُميط اللثام عن المفارقات التي تُجلِّل السلوكيات،مُفصحًا عمَّا تمور به النفس البشرية من تعقيدات واستيهامات.فبدت الحكاية عند د.جلال أمين لوحة تسمح له بتدوير الواقع على وجوهه كافة،والكشف عن حركته الدلالية.وبذلك استطاع أن يُدرك"قوة الشعور الأخلاقي"لدى والديْه وجيلهما في نظرتيْهما إلى الحياة والناس،وحرصهما على حيوية الاتساق بين المظهر والجوهر. وأن يرى ما كان يُسيطر على شقيقه حسين من شعور طاغٍ بالتفرد والاختلاف عن أضرابه ،وما سبَّبه له ذلك من مشكلات مع رؤسائه في العمل،حرمته من فرص كثيرة لتحقيق آماله المرتجاة في نشر أفكاره الجريئة والصادمة..وأن يسبر شخصية صديقه المثقَّف الذي ظلَّ قانعًا بوظيفته في مجلس الدولة مُذ تخرجه في كلية الحقوق حتى أُحيل إلى المعاش،ولم يُفكِّر في البحث عن وظيفة أخرى..لكنه كان مثقفًا ثقافة واسعة تُحيط بعلوم وفنون وآداب جمَّة،غير أنه لم يكن "يقرأ ليكتب،كما يفعل كثير من المثقفين،بل يقرأ ليعرف،وهذا شيء أندر بكثير مما نظن"،غير أنه غفل لفترة طويلة عن رؤية العالم والتعرُّف عليه عن كثب؛ليغنيَ ذاكرته بثقافة بصرية؛فصالَ وجالَ في بلدانٍ عديدة..وأن يُحذِّر طلابه من أن يُعلِّقوا أهمية،أو أن يُضفوا قدسية على ما يروْنه منشورًا من أرقام،على نحو ما استخلصه من درس المفكر الاقتصادي الأمريكي من أصل لبناني"شارل عيسوي"عندما كان مسئولًا عن القسم الخاص بالبلاد العربية في الأمم المتحدة،وطُلبَ منه"على وجهٍ عاجل تقديرات لمتوسط الدخل في كل بلد عربي؛لكي تُقدِّرَ على أساسها الحصة المطلوبة من كل بلد للمساهمة في ميزانية المنظمة"،فلم يجد الرجل أمامه"أي تقديرات يُعتد بها للدخل القومي،ومتوسط الدخل في أي بلدٍ عربي"،فأعدَّ شيئًا أقرب إلى "التخمين،وهو يعرف مدى بُعده عن الحقيقة"،لكنه فوجئ بجدوله هذا منشورًا"في نشرةٍ لمنظمة الفاو الدولية،مُذيلًا بعبارة"تقديرات الأمم المتحدة"،ثم رأى أحد طلبته يستخدم الجدول ذاته في أطروحته للدكتوراه؛بوصفه مادة علمية!وأنْ لا يرى في أحايين كثيرة صلة نسبٍ بين الشهرة والقيمة العلمية،كما لمسها لدى"ماركسي تائب"كما دعاه،يحرص على أن يسبق اسمه"بالكاتب والمفكر الكبير،والأستاذ السابق بجامعة السوربون،ورئيس الجمعية الوطنية للعلوم الاجتماعية بفرنسا"؛بعد أن قرأ له ترجمة رديئة لمؤلَّفٍ عن تاريخ الفكر السياسي،وعمله "مقاولًا يُكلِّف غيره بالعمل،ويستأثر هو بمعظم الربح"،كما حاول أن يفعل ذلك معه،حين طلب منه ترجمة كتاب سيصدر ضمن مطبوعات"جامعة الأمم المتحدة في طوكيو"التي قام بالتدريس فيها،فيظهر اسمه على الكتاب بصفته المترجم،ويُعطي د.جلال"المترجم الحقيقي"(ما قد يتكرم به)من المكافأة المالية التي سيتقاضاها ثمنًا لذلك.بينما رأى في نموذج د.سمير أمين"ماركسيًّا لا يتوب"؛إذ"الماركسية في دمه وعظامه"،فضلًا عن"ميله الدائم إلى النظرة العالمية في تحليل الواقع،وفي التنبؤ بالمستقبل على السواء،عملَ لسنوات كثيرة في خدمة قضية التنمية والتخطيط في إفريقيا السوداء،شديد النفور من الحديث عن الخصوصية الثقافية".وعلى هذا النحو،قدَّم لنا د.جلال أمين بانوراما شاملة للعصر برجاله ومؤسساته وقيمه وحقائق تاريخه؛رواها بصدقٍ نادر،عامرٍ بالحياة،ونفاذ البصيرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع