الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة كعلاج - فريدريك فلهلم نيتشه نموذجاً -

المعانيد الشرقي
كاتب و باحث

2016 / 9 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفلسفة كعلاج " فريدريك فلهلم نيتشه نموذجاً "

إذا كان نيتشه يسند للفلسفة دوراً مهماً فهو بكل تأكيد دور علاجي بامتياز، ذلك أنه يعتبر الإنسان " حيوان مريض " و أنه " أحد الأمراض الجلدية للأرض "، لذلك يجعل من مهمته كفيلسوف طبيب و معالج جينيالوجياً كشف الوجوه المسمومة و الذوات الإنسانية التي لحقها السقم و الوهن فأضحت مترهلة و كأنها في أرذل العمر. فوسيلته في العلاج تقتضي توظيف مطرقة النحاث و مطرقة الطبيب، حيث قال: " أنا لست إنساناً أنا عبوة ديناميت أتفلسف بضربات المطرقة.
لقد انتقد نيتشه كل الفلاسفة السابقين عليه أمثال سقراط، أفلاطون، كانط، و أستاذه أرثور شوبنهاور كان من باب اعتبارهم أطباء، لكنهم أطباء مرضى، يتسببون في نقل العدوى بين الناس، كما اعتبرهم عمالاً للفلسفة، لهذا فالفلسفة النظرية حسب مختلف أشكالها و أصنافها - التقليدية و الحديثة و حتى المعاصرة - هي السبب في نفي و نكران الحياة، بل هي المسؤولة عن تعاسة الإنسان و بؤسه و معاناته و أمراضه، فغياب فلسفة القرب و عدم التداول في الأمور الجسام التي تهم الإنسان بشكل مباشر نتج عنه تدمير الإنسان، يقول نيتشه : " الجهل بالأمور اليومية التافهة و عدم امتلاك عينين تبصران جيداً، هو ما جعل من الأرض بالنسبة لكثير من الناس حقلاً من التعاسة . لا نقول أن السبب هو اللامعقولية الإنسانية، فعلى العكس من ذلك، هناك ما يفوق الكفاية من العقل، و لكننا نوجهه وجهة خاطئة، نتكلف تحويله عن هذه الأشياء التافهة الحميمية للغاية، فالقساوسة و الأساتذة و استبداد المثاليين الرائع بمن فيهم، الفظ و اللطيف، يقنعون الطفل بأن المهم شيء آخر: خلاص الروح، خدمة الدولة، تقدم العلم و الإمتياز و الثروة. و هي وسائل لخدمة الإنسانية بأسرها، أما حاجات الفرد و همومه طيلة الأربعة و عشرين ساعة فهي محتقرة و غير مهمة."
فإذا كان الإنسان المريض هذا قد لحقه السقم من خلال خطأ في العلاج، فقد أكد نيتشه بنفسه و بصريح العبارة و اللفظ أن لفلسفته دور علاجي، و هذا ماجاء على لسان زرادشت " صوتي علاج حتى بالنسبة للذين يولدون عمياناً."أما عن المرض، فنيتشه يصنفه إلى نوعين: المرض كغاية و المرض كوسيلة، في الحالة الأولى لا مجال للحديث عن الصحة لأن الأمر يتعلق بالميؤوس من شفائه، و بالعكس في حالة المرض كوسيلة تكون الغاية هي الصحة. فإذا كانت الفلسفة كعلاج حسب نيتشه، فما المقصود بالعلاج ؟ و خاصية علاج " الطبيب الفيلسوف " عند نيتشه كعلاج بديل ؟
لمقاربة هذه التساؤلات تفتح أمامنا متاهة المعنى و تحديد بداية دلالة العلاج لأن الأمر يستلزم من الناحية الفلسفية تبايناً في المواقف و اختلافاً في الرؤى و التصورات. ففي لسان العرب لإبن منظور: يفيد العلاج معنى المراس و الدفاع، فيقال اعتلج القوم، أي اتخذوا صراعاً و قتالاً، و في الحديث: " إن الداء ليلقي البلاء فيعتلجان. " أي يتصارعان. أما عالج الشيء معالجةً و علاجاً بمعنى عافاه، فيكون المعالج هو المُداوي سواءً عالج جريحاً أو عليلاً أو دابةً. و في الإصطلاح العربي يحيل العلاج في معناه الأولي إلى الأصل الطبي و الصيدلي، فيكون العلاج بمعنى دواءُ الشيء فتكون وظيفة العلاج هي إخراج المرض من الجسد و إرجاع الصحة له، أو خلق الإنسجام، هنا يكون العلاج عبارة عن وصفة يحددها الطبيب. و العلاج قد يصنف على سلم تراتبي إما كعلاج عنيف أو مُخَفَّفْ عادي أو فعَّال، سلبي أو إيجابي... و قد يستخدم العلاج بمعنى مجازي ليقوم برد الصحة إلى النفس أو إبعاد الشر عنها.
و لما كان نيتشه ينعت الإنسان بكونه " الحيوان المريض " و بأنه في نظره أحد الأمراض الجلدية للأرض، فإن التساؤل المبدئي الذي يواجهنا هو:
ماذا يقصد نيتشه بالمرض و الصحة ؟
بالرجوع إلى ما بعد سنة 1875م من مؤلفات نيتشه نجد بعض المفاهيم الطبية قد تضاعفت عنده و أصبحت متداولة في كتاباته، و بهذا تكون المفاهيم الطبية أو شبه الطبية هي البنية الأساسية لفكره في تلك اللحظة بالأساس، هكذا نجد نيتشه يكلف نفسه بمهمة الفليلسوف الطبيب لجنس من أجناس البشرية، بل حتى للإنسانية جمعاء. حيث قال: " أستطيع أن أروض كل دبِّ و أجعل من الحمقى أناساً مهذبين، و من أكسل الكسلاء أناساً مجتهدين. "
فعندما نجد نيتشه يستعمل مقولتي الصحة و المرض، فهذا نوع من القلب عنده، أي إبدال مقولة الحقيقة بمقولة الصحة و مقولة الكذب بمقولة المرض ليصبح عالم الميتافيزيقا عنده تجاوزاً بالمعنى الثنائي، و بما أن الأمر يستدعي الإبتعاد عن الميتافيزيقا، فإن الصحة و المرض ينفلتان لوحدة المعنى و ثنائية التقويم حيث يؤسسان الصدق و الكذب و يولدانه من أزواج على مستوى النظر كما عدى مستوى العمل، كما حدد ذلك أيضاً جينيالوجياً عندما قال: " إن الجينيالوجي طبيب و مُشٓرِّحٌ و فنان، فما أن يسمع بالتفاضليات حتى يستحضر استراتيجيات الهيمنة. "
إن المرض و المعاناة عند نيتشه لهما أهميتهما على مستوى المعرفة الفيزيولوجية بحيث يصبح معهما الفيلسوف واقعياً مبتعداً عن الأشياء المثالية و المفترضة لأنه بحسبه في حالة المرض نوسع مداركنا أكثر من حالة الصحة، و لأنه يعترف دوماً بأن المرض هو الذي أعاده إلى الصواب، و هذا ما جعله يقول: " الجهل في المجال الفيزيولوجي - المثالية اللعينة - هو الذي كان القدر المشؤوم في حياتي ... و انطلاقاً من هذه المثالية يمكنني اليوم أن أفسر لنفسي كل الخيارات الخاطئة و كل الضلالات الغريزية و الأعمال المتواضعة التي جادت بي عن المهمة الحقيقية لحياتي... إن المرض هو الذي أعادني إلى الصواب. " فالمرض بالنسبة لنيتشه ليس توصيف قدحي و لا يمكننا النظر إليه من زاوية النقص، بل بالأحرى يعتبر حافزاً حيوياً للإقبال على الحياة، الحياة بكثافة فليس المرض هو الذي يُشِلُ الفرد، بل بالعكس، إنه يعتبر مثيراً و منشطاً لاكتساب صحة جيدة و متجددة، هكذا هو حال نيتشه، يقول: " هكذا تتراءى لي الآن تلك الفترة الطويلة من المرض، لقد اكتشفت الحياة من جديد، بما في ذلك نفسي، و غداً بوسعي أن أتدوق كل الأشياء اللطيفة بما في ذلك الأشياء الصغيرة، كما لا يستطيع أحد أن يتدوقها بتلك السهولة. هكذا جعلت من رغبتي في الحياة و من رغبتي أن أكون معافى فلسفتي الخاصة. "
لقد اعتقدت الميتافيزيقا منذ زمن طويل أنها تنتج الحقيقة من خلال تقديسها للمفاهيم الماورائية كأمثلة للفضيلة، في حين تناست أنها تنتج الوهم و الضلال، و الآن وجب تحطيم هذه الأوهام جميعها، و لن يكون ذلك ممكناً إلا من خلال استعمال ضربات المطرقة و تحطيم هذه الأوهام. و قد أكد نيتشه ذلك من خلال اختياره لأصدقاء أقوياء يطلبهم مبدعين أقوياء وهذا ما يؤكده قوله: " إني بحاجة إلى رفاق أحياء، لا إلى رفات أموات، لا إلى جثت أحملهم إلى حيث أريد ... أطلبهم مبدعين، وليس جثتا وقطعانا مؤمنين . إن المبدع لا يتخذ له رفاقا إلا إذا كانوا مثله مبدعين. إن المبدع يطلب من رفاقه أن يشحذوا مناجلهم . يدعون الناس إلى الهدم .
و بعد جهد جهيد حاول نيتشه تشخيص الأمراض الفتاكة بالإنسان و حصرها في الآتي:
سقراط مثلاً يشكل مرض إنساني من نوع خاص، ذلك أنه أحلّ محل التراجيديا العقل و الديالكتيك، فلم يكن هو إلا تعبير عن مرض عضال طال أمده، و قد عبر نيتشه عن هذا بقوله: " أن تربطني علاقة بأولئك القوم من السفلة فذلك بمثابة نوع من التجديف على منزلة الألوهية. " طبعاً ألوهية سقراط، الذي حاول أن يضع نفسه مثالاً للفضيلة و الخير و لا أحد سواه، و ما يزيد تأكيد هذا التصور هو قول نيتشه الآتي: " العقلية مهما كان ثمنها و الحياة الباردة النبيهة والواعية، والمجردة من الغرائز لم تكن إلا مرضا في حد ذاتها، مرضا آخر. لم تكن أبداً عودة إلى العافية و السعادة. "
مرض الأخلاق، ذلك أن الإنسان ليس بوسعه أو باستطاعته محاربة غرائزه الطبيعية، و لئن هو عمل على ذلك سيقتل الحياة في ذاته، و هو على أكبر تقدير ما عملته الكنيسة حينما نزعت كل ما هو طبيعي في الإنسان و حرمته عليه تحريماً جذرياً، و بهذا العمل يكون الكاهن و من خالطه من الناس من مقام المنحطين، بل أكثر من ذلك يتم تسميم البشرية بأكملها بغرائز الإنحطاط و النذالة لتتحول هذه الأخيرة إلى مرض عضال. و قد أكد نيتشه هذا التصور كذلك بقوله: " كلما أردت أن أسلم على قسٍّ إلا و وضعت قفازتين على يدي. " و أضاف قائلاً: " " فاستئصال النزوات فقط لاتقاء حماقتها أو النتائج المغضبة لحماقتها يبدو لنا اليوم مجرد شكل صارخ من الحماقة ...والكنيسة تحارب النزوة ببترها، بكل معاني الكلمة ... فأن يرغم المرء على مقاومة غرائزه تلك هي صيغة الانحطاط . كما أن مهاجمة النزوات من الجذر تعني مهاجمة الحياة من الجذر، ولهذا يعتبر عمل الكنيسة معاد للحياة " فالمسيحية كنز كبير يزخر بأشد موارد التعزية عبقرية، بل هي التي تخدر الأعصاب، باستعمالها أدوية خطيرة ومتهورة" .
التشاؤم كمرض، يشير نيتشه إلى أن هذا النوع من المرض يمثله أرثور شوبنهاور، على اعتبار أن مرض التشاؤم يقترن بالشيخوخة حاملاً معه سرطانها و ينقل من جيل إلى جيل عبر عملية التوارت و يصفه بأنه كوليرا العصر، بحيث تصبح إرادة الإنسان متسممة مع هذا النوع الخطير من المرض، و الذي يصيب حاسة الذوق لديه.
فاغنر المريض، بالرغم من أن نيتشه كان صديقاً لفاغنر في مرحلة عمرية لا يستهان بها و تذوق سمفونياته الرائعة، و بالرغم من أن نيتشه يقر بأن الحياة بدون موسيقى خطأ كبير في حق البشرية، إلا أنه يميز في الموسيقى بين تلك التي تمثل الصحة الكبرى و تغدي الوجدان و بالتالي تعطي للجسد حيوية كبيرة و نهوض جديد، و بين تلك التي تسبب في ضعف الإرادة و هي التي ينتجها فاغنر فيصبح كل من لامس هذا الأخير مريضاً على مستوى الإرادة و الذوق.
المرض التاريخي، و المتجسد في الأشكال التاريخية الثلاث، التاريخ التذكاري، التاريخ الأثري و التاريخ النقدي، بحيث يصاب الإنسان بتمجيده للنزعة التاريخانية بتخمة تتمثل في تمجيد الماضي إلى حدِّ التقديس، يقول نيتشه عن هذا النوع من المرض: " إني أفضل أن أكون مهرجاً على أن أكون قديساً. " هكذا صار الفلاسفة و المؤرخون يقتاتون على فتات الماضي مما سبب لهم جميعاً غياب الحس التاريخي، حتى أضحى هذا النوع من المرض سبباً في إفقار الحياة لأنه سير ضدها لا معها.
مرض الحداثة، يشكل هذا النوع من المرض حسب نيتشه إعاقة كلية على مستوى الإرادة، و مرد ذلك بالأساس هو عدم الإهتمام بصحة الجسم و نوعية الأغدية و كذا في الفعل الجنسي، لأن بحث الإنسان الحديث عن المعنى ضيع و فوت عليه الفرصة في الإهتمام بجسده و ذاته، مما جعله يبتدع قيماً مضادة حتى لحياته، مما تسبب في إنهاك كلي لقواه، و أصبح هذا الإنسان من منظور نيتشه هو الإنسان الأخير الذي يمثل العدمية في أبهى صورها. و إذا كان نيتشه يعتبر بأن كل فلسفة او كل فن يعتبر علاجاً و أن مهمة الفيلسوف الطبيب هي العلاج بعد تشخيص دقيق للمرض، فإنه سيبدأ أولاً في تشخيص العلاجات الفاسدة بردها إلى أصولها جينيالوجياً بغرض تجاوزها و محاربتها بهدمها، و هي علاجات قدمها رجال الدين و الكهنوت على شكل طلاسم جاهزة عملت على تدجين الإنسان و خندقته، بل أكثر من ذلك علق بجسم الإنسان لعاب الكاهن مما زاد في تسميمه فجعله أكثر حقدٍ تجاه نفسه و تجاه العالم، و كل ذلك بغرض خلق القيم: الخير و الشر الحسن القبيح ...
يقدم نيتشه منهجه الجينيالوجي الذي يعتمد على مقاربة طبية يتم من خلالها تشخيص دقيق لمفهوم الأخلاق باعتبارها مرضاً و صحة، سُمّاً و علاجاً، وقد اختلفت التأويلات بخصوص مفهوم الجينيالوجيا عند نيتشه، فهناك من يربطها بدراسة الأصل و نشأة الأشياء، لكنها بعمق التحديد النيتشوي، قراءة تقوم على مفهوم التفكيك، تفكيك نموذج القول الذي قام عليه فعل التفلسف الذي يتميز بإجراءات إقامة التطابق بين المعنى والقيمة، و إجراء كبت الجسد وإقصاء البعد البلاغــي للخطاب الفلسفي. وكانت غاية تأسيس التفلسف على هذه الإجراءات حرمان الإنسان من البصــيرة الفعلية للإنسان. لقد تم إضعاف نور عين الإنسان، حيث حصل حرمانه من رؤية ما ينبغي رؤيته. بـل حدث"ضمور معمم لجميع الحواس". و إضعاف"مُمَنْهَج لكل عضو حسي". الجينيالوجيا تفكيك ناقــد لمنطق الهوية الناهض على ثنائيات متعارضة، الصدق/الكذب، الخير/الشر، ظاهر/باطن، داخل/ خارج، الأعلى/الأسفل، الحق/ الوهم، الجوهر/العرض، الدال/المدلول، الجسد/الروح، النموذج/النسخة. الأيقونة / السيمولاكر. و من جهة أخرى يتحدد معنى كلمة جينيالوجيا في كونها دراسة النشأة و التكوين لإثبات النسب و الوقوف عند الأصل، وليس المقصود بالأصل هنا أن الجينيالوجيا شجرة أنساب. هذا ما يؤكده نيتشه نفسه في كتابه (جينيالوجيا الأخلاق) " إن الأمر يتعلق هنا بتأملات حول أصل أحكامنا الأخلاقية المسبقة." و تبعا لذلك ستصبح الجينيالوجيا حسب المفكر عبد السلام بن عبد العالي في كتابه "أسس الفكر الفلسفي المعاصر" هي دراسة نشأة الميتافيزيقا، و القيام بعرض تاريخي للوقوف عند الأصل الذي صدرت عنه، هذا الأصل الذي يكون قد غذاها منذ البداية فطبعها بطابعه و وسمها بميسمه. يقول هيدجر في كتابه عن نيتشه: " لا يعني الأصل هنا السؤال: من أين صدرت الأشياء؟ بل أيضا كيف تكونت؟ . إنه يعني الكيفية التي تكون عليها. فلا يدل الأصل أبدا عن النشأة التاريخية التجريبية." فهذا ليس تمجيد للبدايات و الأصول، إذ أن ذلك سيغرقنا في الميتافيزيقا و التي تعتقد أن الأشياء كانت كاملة في بدايتها. و هذا ما أكده ميشال فوكو في كتابه ( نيتشه، الجينيالوجيا و التاريخ) " إن الأصل يوضع دوما قبل السقطة ، قبل العالم و قبل الزمن." فإذا لم يتق الجينيالوجي في الميتافيزيقا نفسها فإنه لا محالة سيدرك أن وراء الأشياء شيء آخر، قد يكون بدون ماهية أو قد يتكون شيئا فشيئا ، فما نجده في البدايات التاريخية للأشياء ليس بالضرورة هويتها الأصلية. فالجينيالوجيا بهذا المعنى تضع نفسها في مقابل الميتافيزيقا ، إنها تاريخ مضاد للتاريخ الميتافيزيقي بتعبير الأستاذ عبد السلام بن عبد العالي ، فهي لا تؤسس، بل على العكس من ذلك، إنها تقلق ما تعتقده الميتافيزيقا ساكنا و تفتت ما تظنه موحدا، و تظهر التنوع في ما يبدو منسجما. و في هذا الصدد يقول نيتشه: " الجينيالوجي طبيب و مشرع و فنان ، فما أن يســمع بالتفاضلــيات أو بالفضيلة و الخير حتى يستحضر استراتيجيات الهيمنة". أي أن هناك صراع للقوى و كل قوة تريد أن تسيطر على غيرها، و هو ما يسمى في فلسفته بإرادة القوة، أو لعبة إرادات. و ما ينصرف على مفهــوم الإرادة ينصرف على مفهوم الحقيقة، حيث يعتبرها نيتشه أوهام نسينا أنها كذلك... و يؤكد هذا الطرح مـن خلال قولته: " إن الحقيقة تقتل، بل أكتر من ذلك إنها تقتل نفسها عندما تكتشف أن أساسها هـــو الخطأ."
كما تنظر الجينيالوجيا إلى المنطق المؤسس للخطاب الميتافيزيقي ليس بوصفه نظرية في القـول السليم أو ليس بوصفه مجرد منهج، و إنما يتجاوز الأمر ذلك إلى اعتباره نظاما معرفيا ذي لغـة و مفاهيم مستلهمة من النموذج العلمي الصوري الهندسي أساسا، أو المنطق كرؤية فلسفية تضـفي على العالم التماسك و الانسجام ما يلبي طموح العقل، و تخليص الإنسانية من الأمراض التي لحقت بها، فإذا كان النقد الجينيالوجي مع نيتشه هو تفكيك لخطاب الميتافيزيقا ، فكيف يمكن فهم النقد مع فريدريك نيتشه؟
يشكل النقد حسب نيتشه فن اختراق الأقنعة و ذلك بالنظر إلى العلامة باعتبارها مادة سيميولوجية قابلة للتأويل، و اللغة كلها علامات و رموز تدل و تعني بتعبير من استعملها و كذلك تبعا للقوى التي أنتجتها ، هكذا فالنقد عند نيتشه هو نقد سيميولوجي يأخذ اللغة أداة له، و دليلنا على ذلك سيبدو واضحا من خلال سوق هذه المقولة الشهيرة لنفس الفيلسوف أعني ( نيتشه )" إن الدودة التي ندوسها بأقدامنا تنطوي على نفسها لتختزل إمكانيات أن ترى نفسها مداسة ثانية تلك ما يسمى في لغة الأخلاقيين تواضعا ." و لما كان النقد فن للتأويل، بحيث يعمل على إرجاع النموذج إلى الأصل الذي قام بتأسيسه داخل تراتبيات قيمية مضبوطة، و لأن الترتيب نفسه يخضع لصراع القوى من أجل تصنيف المعاني، فإن النقد النيتشوي يصبح بتعبير "ميشال فوكو" حفر و تشريح لما يؤسس لتاريخ المعـنى و الحقيقة أو حفريات المعرفة . يقول نيتشه في هذا الصدد:" ليست قيمنا إلا تأويلات أقحمناها في الأشياء . هل يمكن أن يكون هناك معنى في ذاته؟ أليس كل معنى نسبيا، أي منظورا؟ كل معنى هو إرادة قوة."
هكذا فالجينيالوجيا حسب فريدريك فلهلم نيتشه لا تنظر إلى الميتافيزيقا كمعرفة، فهمها ليس هو البحث عن الحقيقة و تاريخها و إنما همها في المقام الأول هو البحث عن إرادات الحقيقة، إعادة الصحة لجسم الإنسان المعلول، لذا فهي عندها أخلاق و لغة، ولما كانت الأخلاق هي النظرية التي تخص التراتب بين البشر ، و بالتالي فإنها نظرية حول قيمة أفعال هؤلاء البشر أنفسهم وفق ذلك التراتب الذي يتدرجون داخله، وهذا ما نجد له صدى في كتابه "إرادة القوة" . فما دامت الميتافيزيقا أخلاق فإنها لا تنفلت من النقد الجينيالوجي الذي يعتبر أن إنتاج الحقيقة لا ينفصل عن مفهومي القيمة و القوة، فقيمة شيء ما في هذا الوجود متوقفة على المعنى الذي نعطيه إياه. و بالتالي فأصالة نيتشه تكمن في كونه لا يريد مجاوزة الميتافيزيقا بميتافيزيقا أخرى، أو بمعنى أدق، تجاوز المرض بمرض آخر و لكن لا يريد تفنيد هذه الأخيرة تحت دريعة رفض الحقيقة، فهو لا يرفضها إطلاقا ، وإنما يرفض فصل الحقيقة عن الخطأ فصلا وضعيا، إذا فالنقد الجينيالوجي حسب ما سلف هو خلخلة و تقويض و وسيلته في ذلك هي المطرقة و لكن أي مطرقة هذه؟ إنها مطرقة الطبيب، هكذا يمكن القول بأن نيتشه فيلسوف و طبيب للمجتمع في الآن نفسه. و يبدو هذا واضحا عندما كان مدرسا بأرقى الجامعات بسويسرا خلال القرن 19 م و بالتحديد جامعة بازل، و لما تم استجوابه عن السنوات التي قضاها مدرسا هنالك فأجابهم " أستطيع أن أروض كل دب و أجعل من الحمقى أناسا مؤدبين ، و من أكسل الكسلاء أناسا مجتهدين، فخلال السنوات التي قضيتها في بازل لم أعط عقوبة قط."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد الهجوم على إسرائيل: كيف ستتعامل ألمانيا مع إيران؟


.. زيلينسكي مستاء من الدعم الغربي المحدود لأوكرانيا بعد صدّ اله




.. العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية: توتر وانفراج ثم توتر؟


.. خالد جرادة: ماالذي تعنيه حرية الحركة عندما تكون من غزة؟ • فر




.. موقف الدول العربية بين إيران وإسرائيل | #ملف_اليوم