الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أفكار عن صيرورات تشكل الدولة العراقية: (5-5)

عقيل الناصري

2016 / 9 / 10
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


افكار عن صيرورات تشكل الدولة العراقية: (5-5)
ومن الجدير بالذكر أنه عند تأسيس الدولة العراقية وتشكل مؤسساتها التنفيذية والتشريعية،التي سلمت بريطانيا ادارة الحكم لفئة الضباط العسكريين، كانت قد خلت، بدرجة كبيرة، مفاتيحها الأراسية وبخاصة في مؤسساتها، من فئة المثقفين (الانتلجنسيا) المدنية الجنينية وبصورة خاصة العضويين منهم إلا ما اقتضته الضرورة وضمن مواصفات قوى الاحتلال.. وهم (الافندية) كما يحلو للعالم السيسيولوجي علي الوردي أن يطلق عليها، أنهم حاملي فكرة التغيير والتطور والذين يلعبون دورا خطيرا في الحياة السياسية والفكرية التنويرية عكس نقيضهم الوعي وهم المثقفين التقليدين وبخاصة في المؤسسة الدينية المحافظة بطبيعتها، والتي حاربتهم بدون هوادة.
وفي الوقت نفسه تدلل القرائن التاريخية إن نخبة الحكم السياسية لم تستطع آنذاك وطوال المرحلة الملكية، تدرك هذه الأهمية للمثقفين لذا لم تحظٍ بالرعاية والاهتمام الكافيين إلا بالقدر الذي يخدم مصالح النخبة ويلبي أنويتها ومشاريعها الآنية وييسر تمشية أمور المؤسسات الحكومة.. بل وصل الأمر بالسلطة إلى حد كانت تخشى هذه الفئة وبالأخص الجذرية المتنورة منها، وكانت تعدها أكثر الفئات خطورة على نظام الحكم. لا بل حتى حاضنتهم السياسية (قوى الاحتلال الأول) متمثلةً بالمس بيل والتي كانت "... تخشى المثقفين والمتعلمين وتريد إبعادهم عن الهيمنة على الحكم، إذ رأت فيهم مصدرا لاحتمال مناهضة الحكم البريطاني في العراق وبسبب وعيهم وروحهم الوطنية ولذلك كانت تفضل شيوخ العشائر على الأفندية لحكم البلاد.. ومثل هذا التقدير دل على الوعي الطبقي الذي تمتع به ممثلوا الامبريالية البريطانية حينذاك وفهمهم الواسع لطبيعة العلاقات الطبقية الاجتماعية التي سادت العراق حينذاك ... ". ومع هذا الموقف فقد كانت الإدارة البريطانية مضطرة بالاستفادة من خبرات وخدمات هذه الفئة، بغية إملاء مؤسسات الدولة الوليدة التي يفترض إدارتها من قبل ابنائها وبرعاية دولة الانتداب البريطاني.
وكما رصدنا، بموضوعية، منذ فترة طويلة، وكما أكد عليه إريك دافيس، إلى أن "... عمليات بناء الأمة وتشكيل الدولة في العراق الحديث، تلك العمليات غير المكتملة والتي لم تنته بعد، لأن العراقيين لم يتفقوا حتى الآن على نموذج مقبول بشكل عام للمجتمع السياسي: أحدهما النموذج العراقوي والآخر القومي العروبي. وكان هذان النموذجان يتصارعان فيما بينهما من أجل الهيمنة... (الذي) يدرك على أنه محاولة من قبل النخب السياسية لتعميم مصالحها على الجماهير كافة..." والتي سرت وأخذت " تشمل الهيمنة على الزعامة الفكرية والأخلاقية " كما "...إن الاستغلال العثماني والبريطاني للانقسامات الاثنية لم يسهم في تفاقم هذا الافتقار إلى الثقة حسب، بل إنه قوض نمو أي حس مشترك بالانتماء إلى هوية جماعية ومجتمع سياسي موحد... "
وتأسيساً على ما ذكر نقول: لقد"... جرنا القرن العشرين في مبتدأه جراً من عالم الأمبراطورية المقدسة، إلى عالم المركزية الحديثة، الدولة القومية، مفككا عالم الملل والنحل، عالم الرعايا، عالم الهوية القبلية (ايديولوجيا القرابة) والأديان والطوائف (الجماعلت المقدسة) المنقسمة، المتقابل (أهل عشور وأهل الذمة)، ومرسيا عالم الهويات الجديدة العابرة، افتراضا، للأديان والمذاهب والقبائل، مقوضا فكرة الرعية، لتحل محلها فكرة المواطن المجرد... ".
وعليه فإني أعتقد، بجزم الضرورة الموضوعية وبالاستناد إلى الدراسات الجادة، أن بداية القرن العشرين كانت من أخصب الفترات التكوينية الفكرية بالنسبة للعراق، وكان من أرهاصاتها البنيوية، كما اوضحنا، هو الانبعاث الداخلي على المستويين الفكري والسياسي وبالتالي ظهور قوى التغيير الاجتماعي الجديدة وحراكها التصاعدي الجديد كالحركة القومية العربية ذات النزعات الاستقلالية المتباينة (1908)، رغم عدم ملائمة الظروف الداخلية والخارجية، الموضوعية والذاتية، لهذه الغائية وصعوبة إعادة انتاج ذاتها بأفق جدلي من جهة.
ومن جهة أخرى كان، وهو الأهم حسب رأينا، انبثاق الفكرة الوطنية العراقية لأنه "... لم يكن العراقيون شعباً واحداً أو جماعة سياسية واحدة. وهذا لا يعني الإشارة فقط إلى وجود الكثير من الاقليات العرقية والدينية في العراق... فالعرب انفسهم الذين يؤلفون أكثرية سكان العراق كانوا يتشكلون، إلى حدٍ بعيد، من جملة من المجتمعات المتمايزة والمختلفة فيما بينها والمنغلقة على ذاتها بالرغم من تمتعهم بسمات مشتركة... ".
ويؤكد هذه الحقيقية العالم السيسيولوجي علي الوردي حيث أعتبر أن السنوات 1914-1920 قد شهدت "... تطورات عاصفة، ترجح في أهميتها التاريخية وخطورتها في تحديد مستقبله، على القرون الستة التي أمضاها بعد سقوط بغداد على يد هولاكو سنة 1258 ويقول بهذا الصدد: أن الحرب العالمية الأولى كان لها تأثير بالغ الأهمية في المجتمع العراقي. إنها هزت العراق هزا عنيفا، وكانت إيذاناً ببيدء مرحلة انتقال اجتماعية كبرى، لا نزال نعيش فيها، فترة لا نعرف مداها... ".
وقد كان من نتائج هذه الارهاصات ظهور جملة من الظواهر المهمة في تاريخية السلطة العراقية المعاصرة، غيرت من توجه هذه الظاهرة التغيرية، التي لم يكن المجتمع العراقي قد صادفها منذ القرون المنصرمة التي اعقبت سقوط بغداد، والتي رصد ظروف نشأتها الاكاديمي بطاطو بالقول: "... وشهدت السنوات التي تلت ذلك اكتساب التطرف السياسي مزيدا من القوة في العراق وصار الاعتدال بغيضاً. وتعمق ذلك الانزعاج الفكري الذي عبر، أول ما عبر، عن نفسه في سنوات مطلع القرن والذي كانت جذوره تمتد إلى استنفاد الإسلام. واصبح ميل الشباب المتعلم إلى الشك بالأمور التي يراها كبار السن مثالية أو يعتبرونها مسلمات أكثر بروزاً، وأنحسر احترام هؤلاء الشباب للتقاليد... ".
وتأسيسا على ذلك فيمكن تعداد أرأس هذه الظواهر، التي أثرت وما تزال في ماهيات النظام السياسي العام و الاستقرار السياسي للمجتمع العراقي وهي:
- تأسيس الدولة العراقية المعاصرة ؛
- دور العسكر في بنية الدولة العراقية والنظام السياسي وبخاصة الشريفيون منهم ؛
- دور العامل الخارجي في الظاهرة العراقية المعاصرة ؛
- التغيير الجذري في 14 تموز وأهميته ؛
- المؤسسات الدستورية ودورها في التداول السلمي للسلطة ونقيضها الانقلابية العسكرية ؛
- تسلل الافكار التغييرية الاصلاحية والرديكالية إلى المجتمع العراقي ؛
- الانتفاضات الشعبية ودورها في إقرار الدولة العراقية وحرث تربة التغيير المستديم ؛
- الاحتلالات العسكرية الغربية للعراق وبالاخص الاحتلال الثالث الاخير ؛
- ظهور الفئة المثقفة (الانتلجنسيا) العراقية ودورها ؛
- تحديد هوية العراق بين العروبية والعراقوية.
لكننا هنا سنقف عند النقطتين الأخيرتين حسب، لصلتهما العضوية المباشرة، وفي بعض الآحيان غير المباشرة، فيما يخص موضوعتنا الأرأسية والمتعلقة بالصراعات المتعددة الجوانب في زمن الجمهورية الأولى وثورة 14 تموز وبالأخص العلاقة بالحزب الوطني الديمقراطي ورئيسه كامل الجادرجي بالذات وعلاقته مع عبد الكريم قاسم قائد عملية التغيير الجذري يوم 14 تموز.
فالصلة المباشرة كانت تتمثل بأن فئة الانتلجنسيا العراقية المدنية قد حرثت تربة التغيير وهيأت المناخ لتحقيقه المادي وأنها كانت ذروة نضال جيل كامل من المثقفين العضويين والمنتمين للطبقة الوسطى بفئاتها المتعددة وكذلك لمثقفي الطبقة العاملة غير المتبلور، آنذاك على الأقل.. حيث قادوا انتفاضات شعبية على مدار المرحلة الملكية لشاملة أو/و الجزئية وبالاخص في انقلاب 1936، وحركة مايس التحررية في 1941، وانتفاضة كاورباغي 1946، ووثبة كانون الثاني 1948، وانتفاضة تشرين 1952، وكذلك في معركة التحرر العربي في 1956. من منطلقات كلية الشمول وإنسانية الأبعاد ومستقبلية التوجه ، من غير ان يتناسوا ماهيات الإشكاليات المتعلقة ببعدها الاجتماعية وتوصيف المثقف والموقف من حرية الابداع وإلتزام المثقف بقضايا وهموم شعبه وكذلك استقلاليته وابداعه. لقد تماثل دورهم نسبياً عندما "... حارب مثقفو البرجوازية في طورها التقدمي الصاعد المثقفين المرتبطين بالإقطاع "عبر الكنيسة"... " .
أما الجناح العسكري من الانتلجنسيا العراقية، وبالأخص العضويين منهم، فقد شخصوا عدم قدرة الحركة الوطنية المعارضة وبضمنها المثقفين المدنيين، من تحقيق التغيير في النظام بحكم ظروف الاستبداد السائدة وشدة القمع من قبل الدولة التسلطية، لهذا فهم قد حققوا هذا الفعل وتلك الصيرورة .. وهذا ما أشار إليه عبد الكريم قاسم في 9 آب/ أغسطس 1958 بقوله : "... ولم تكن عند الشعب القوة الكافية التي تذود عنه هذا الظلم. ولوكنا نعتقد أن بإستطاعة الشعب أن يزيل هذا الكابوس من الظلم لما تدخلنا تدخلا مسلحا لكننا عرفنا أن الشعب أعزل مغلوب على أمره ولذلك ركبنا هذا المركب واضطررنا إلى التدخل حتى نصون حقوق الشعب... "
كذلك لما لهاتين الظاهرتين( ظهور الانتلجنسيا والصراع بين العراقوية والعروبوية ) من دور كبير في فهم ماهية الصراع الذي احتدم، بخاصة، في الجمهورية الأولى (14تموز1958- 9 شباط 1963) وفقدان أهمم تجربة تنموية، والجمهورية الثانية ( 9 شباط 1963- 9 نيسان 2003) ، وانقسام فئة المثقفين إلى جبهتين متعارضتين ، وما لعبه من دور في تحديد الهوية الجماعية العراقية (عروبوية العراق أم عراقوية العراق) من دور أرأس في تغيب البعد الحداثوي والارتقائي لذاتهما ناهيك عن التغيب القسري للتغير الجذري في 14 تموز 1958 بحد ذاته ، باعتباره أهم مَعْلَم من معالم عراق القرن المنصرم. إذ أن"... الصراع بين هاتين الرؤيتين للهوية الجماعية وللمجتمع السياسي برز إلى الواجهة أبان ثورة 14 تموز وأثارها العنفية. فالنظام الثوري لعبد الكريم قاسم، وهو أول نظام عراقي سعى بشكل منظم لصياغة ذاكرة دولته، اتبع نموذجا عراقيا خالصاً... ".
الهوامش :
49- د. كاظم حبيب ود. زهدي الداوودي، فهد والحركة الوطنية في العراق، ص. 58، الكنوز الادبية، بيروت 2003.
50 - إريك دافيس ، مذكرات دولة ، ص. 12 و ص.29 ) مصدر سابق.
51- د. فالح عبد الجبار، في الأحوال والأهوال، ،ص. 18، مصدر سابق.
52 - حنا بطاطو الطبقات ، الكتاب الأول، ص. 31، مصدر سابق. ويطلق الدكتور سليم الوردي أضواء على ولادة،(ص.54، مصدر سابق) على المرحلة ما بين 1858-1957 قرناً تأسيسا في حياة المجتمع العراقي المعاصر.
53 - مستل من د. سليم الوردي، ضوء على ولادة، ص. 60، مصدر سابق.
54 - حنا بطاطو ، الكتاب الثاني، ص. 41، مصدر سابق.
55 - الضباط الشريفيون : هم الضباط الذين خدموا في الجيش العثماني والذين بعضهم هرب من الجيش العثماني والبعض الآخر إلتحق من معسكرات الاعتقال البريطانية وغيروا من ولائهم أثناء الحرب العالمية الأولى أو بعدها وربطوا مصيرهم بمصير العائلة الهاشمية بزعامة الشريف حسين ، شريف مكة، عندما حارب الدولة العثمانية عام 1916. وكان جلهم من خدم تحت أمرة أبنه فيصل الذي أصبح ملكاً على سوريا (1918-1920) ومن ثم على العراق (1921-1933) بطبخة زبائنية مع البريطانيين. ولعب هؤلاء الضباط دورا مهما في العراق المعاصر ويقدر عددهم ب300 ضابط من مختلف الرتب، سلمتهم بريطانيا المفاتيح الأرأسية للدولة العراقية الوليدة.. ومن ثم كونوا مجموعة رئيسية في جيش الملك فيصل الأول عندما كان في سوريا. وبعد طرده من قبل الفرنسيين وتعينه من قبل بريطانيا وبمباركة الحركة الصهيونية، عادوا معه للعراق وتسنموا ارفع المناصب في مؤسسات الدولة بحيث حكموا العراق طيلة المرحلة الملكية. منهم : نوري السعيد، جعفر العسكري، ياسين الهاشمي، طه الهاشمي، جميل المدفعي، علي جودت الايوبي، ارشد العمري، حمدي الباجةجي، عبد اللطيف نوري وغيرهم. للمزيد راجع حنا بطاطو ، الجزء الأول ، الفصل العاشر ، كذلك كتابنا : الجيش والسلطة في العراق الملكي، 1921-1958، دفاعاً عن ثورة 14 تموز، ط. 2، دائرة الشؤون الثقافية، بغداد 2005.
56- للمزيد حول دور المثقف راجع على سبيل المثال : محمود صبري، المثقف والسياسة والاستبداد، الثقافة الجديدة عدد تموز- آب 1993وما أثاره من ردود معرفية، كان منها لرضا الظاهر ، بيان المثقف الجديد ، جدل الثقافة والسياسة، كامل شياع مثقف بادئ الاوهام ، المنشورتان في الثقافة الجديدة العدد 259، حزيران1994
57 - علاء اللامي ، الكتلة التاريخية ، موقعه الشخصي على: http://www.facebook.com
58 - مستل من ماجد شبر، خطب الزعيم عبد الكريم قاسم، 1958-1959، ص. 34، دار الوراق لندن 2007
59 - إريك دافيس، مذكرات دولة، ص. 32، مصدر سابق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التصعيد بين إيران وإسرائيل .. ما هي الارتدادات في غزة؟ |#غرف


.. وزراء خارجية دول مجموعة الـ7 يدعون إلى خفض التصعيد في الشرق




.. كاميرا مراقبة توثق لحظة استشهاد طفل برصاص الاحتلال في طولكرم


.. شهداء بينهم قائد بسرايا القدس إثر اقتحام قوات الاحتلال شرق ط




.. دكتور أردني يبكي خلال حديثه عن واقع المصابين في قطاع غزة