الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثور العجوز

ضيا اسكندر

2016 / 9 / 15
الادب والفن


لم يترك أبو اسماعيل طبيباً بيطرياً في المنطقة إلاّ وأحضره لمعاينة (ثوره)، صديقه وحبيب قلبه كما كان يسمّيه. إلاّ أن جميع من أحضرهم أو استشارهم هاتفياً في مناطق ومحافظات أخرى، أجمعوا على أن الثور قد هرم ولا ينجيه من الرحيل أيّة قوة. فلكلّ كائن حيّ عمرٌ لا يمكن تجاوزه. قد نتحايل على إطالة العمر قليلاً بفضل التقدّم العلمي، ولكن هيهات أن نقضي على الموت والفناء. فالعلم لم ينجز بعد حلمه الأزلي باختراع إكسير الحياة.. لكن أبا اسماعيل لم يقبل بأمر الواقع ويستكين لجبروت سنن الحياة والكون. بل ازداد حبّاً وتعلّقاً بالثور العجوز. حتى أنه بدلاً من أن يمسّد له رقبته وظهره مرة في اليوم ملاطفاً، فقد زادت عدد المرات التي يتفقّده فيها، وفي كل مرة يحكي معه ويداعبه بأعذب العبارات وأرقّ اللمسات.
وفي أحد الأيام بينما كان أبو اسماعيل جالساً قرب بيته تحت شجرة التوت يراقب بصمت الثور وقد جثم أمامه على بعد خطوتين منه، يجترّ بكسل ما كان قد أعلفه منذ دقائق، وإذ بجاره أبي مروان يقترب منه قائلاً بمواساة:
- لا حول ولا قوة إلا بالله! إن من يراك وأنت جالس بهذه الوضعية يحسبك تودّع عزيزاً على وشك الرحيل. يجب أن تتحلّى بالعقلانية يا أبا اسماعيل! الثور سينفق آجلاً أم عاجلاً. وعلى الأرجح عاجلاً. ثم إنه حيوان في نهاية المطاف، ولا يجوز أن يستولي عليك الحزن إذا ما فطس!
نظر أبو اسماعيل إلى جاره أبي مروان بحقد وهتف بصوتٍ مترعٍ بالغضب:
- إنك تستفزّني بكلماتك يا أبا مروان، ( ينفق، يفطس..) قل يموت يا أخي! كم مرة قلت لك هذا الثور بمثابة أحد أبنائي، صار لي برفقته أكثر من خمسة عشر عاماً. ربّيته مذ كان عجلاً صغيراً. يرافقني إلى الأرض، نأكل معاً، نذهب سويةً إلى النبع لشرب الماء، نحتمي بالأشجار عند هطول المطر، نتفيّأ معاً بظلالها، نرقد بالقيلولة معاً.. لم يخذلني يوماً، لم..
برم بوزه أبو مروان وقاطعه بحدّة قائلاً:
- أي والله صرنا حافظين هذه الديباجة مثل سورة الفاتحة. يا أخي، يا حبيبي، ما تفعله كفر. اسمع منّي قبل أن تفقده اذبحه وقدّمه أضحية لأهالي الضيعة ينالك ثواباً عند ربّ العباد.
لم يستطع أبو اسماعيل مجاراة أبي مروان فهبَّ واقفاً وصاح باحتقار:
- يرضى عليك يا أبا مروان، إذا كنتَ ضجراً وتريد أن تتسلّى، اذهب إلى مضافة المختار والعب هناك بالـ (المنقلة) مع أصحابك وثرثروا عني وعن ثوري ما شئتم، ولكن أرجوك لا تسمعْني ما يثير غيظي..
وإذ بصوتٍ يأتي من الخلف:
- وها نحن بجلالة قدرنا جئنا إليك.
التفت أبو اسماعيل، وإذ بالمختار ورئيس الجمعية الفلاحية يقتربان منه. استقبلهما أبو اسماعيل بفتور وأحضر ثلاثة كراسي من بيته. وجلسوا صامتين.
أخرج أبو اسماعيل من جيبه (مسبحة) وبدأ يطقطق حبّاتها بانفعال. فقد أدرك أن ثمة حديثاً سيسمعه لن يسرّه، بل سيزيده مقتاً وكرباً.
تطلّع المختار بأبي مروان ثم برئيس الجمعية وكأنه يستأذنهما بمفاتحة أبي اسماعيل بالموضوع وقال بصوتٍ رخيم:
- أبو اسماعيل الغالي، ندرك جميعاً تعلّقك بالثور، وكلنا يعلم أفضاله عليك وعلى عائلتك وعلى الأرض. وليشهد الله أننا متضامنون معك، لكنه كما ترى أصبح عجوزاً لا نفع منه أبداً. وكما يقال: «أكل ومرعى وقلّة صنعة» ومن الحكمة ألاّ تتركه يفطس.
وهنا تدخّل أبو مروان مقاطعاً:
- قل (يموت) يا مختار لا يفطس، لأن أبا اسماعيل يأنف من هذه الكلمة كثيراً.
ردّ المختار مجاملاً:
- يا أخي، يموت، يفطس، يرحل.. ليس مهمّاً، المهم أن نتصرّف كالعقلاء.
تدخّل رئيس الجمعية بدوره بعد أن حمحم وقال:
- أبا اسماعيل، يا زينة رجال الضيعة، صدّقني إننا حزانى على مشاعرك. ونقدّر سجاياك النبيلة. ولكن يهمّنا ألاّ تمرض أو يصيبك مكروه بسبب الثور لا سمح الله. ما قاله مختارنا عين الصواب!
همد أبو اسماعيل قليلاً وألقى نظرة إلى الثور الذي ما برح يجترّ ملوّحاً بذيله بين الفينة والأخرى وأجابهم قائلاً:
- يا جماعة قدّروا موقفي! لقد خدمني خمسة عشر عاماً بالتمام والكمال، ومن العار أن أكافئه بعد كل هذه السنين بالذبح. إنه يستحقّ التقاعد المريح في أواخر أيامه لا الذبح.
ردّ المختار ساخطاً: يا أخي لا تذبحه، فكّر ببيعه مثلاً!
هبّت كلماتهم عليه كالشواظ وكأنه يتوقّع هذا الاقتراح سلفاً فأجابهم وهو يشتعل غيظاً:
- وهل أبيع ضناي؟ يا جماعة والله صار لازم تفهموا عليّ! هذا الثور جلب الخير لي ولعائلتي؛ بفضله تحسّنت الأرض وازداد إنتاجها. بفضله تمكّنت من بناء غرفتين إضافيتين. بفضله أنجبت أبقاركم عشرات العجول.. وتقولون لي اذبحْه، بعْه..!
قال لهم أبو مروان متصنّعاً دور من قام بواجبه خير قيام ولم يعد ثمة شيء يلام عليه:
- يا جماعة لا فائدة من هذا الحوار. دعوه وشأنه. إن رأسه أعند من رأس ثوره..

وبالفعل، بقي الثور يذهب يومياً إلى الأرض ويتفيّأ بظلال شجرة السنديان طيلة النهار. حيث يقدّم له الطعام والشراب إلى أن يحين موعد نومه مساءً فيعود إلى الزريبة دون أن يقوم بأيّ عمل. وهكذا مضت سنتان على هذه الحالة.
في إحدى الليالي عند بزوغ الفجر رأى أبو اسماعيل حلماً غريباً بأن الثور قد نبت له جناحان وأن بمقدوره الطيران والتحليق. أفاق من نومه مبهوتاً. بسمل وفرك عينيه وحمل مصباحاً كهربائياً وتوجّه مباشرةً إلى الزريبة. عندما فتح بابها الخشبي اتجه بنظره فوراً إلى الثور ووجّه ضوء المصباح إليه، وجده مضطجعاً على يمينه. حملق مدقّقاً في بطن الثور ليتأكّد من تنفّسه. فقد كان يعتمد هذه الطريقة دائماً، فإذا ما رأى بطنه يعلو ويهبط، يتنفس الصعداء ويتبدّد قلقه ويحمد ربّه على كل شيء. لكن هذه المرة كان بطن الثور ساكناً تماماً وبعض الحشرات تدبّ على جسده. ضرب أبو اسماعيل بقبضته باب الزريبة بقوة وألم، أجفلت على إثرها الدجاجات الراقدة وبدأت تفرّ وتقوقئ مذعورةً. خارت قوى أبي اسماعيل وتهادى جالساً على الأرض مسنداً ظهره إلى الحائط وطفق ينتحب.
هرع أفراد أسرته على الجلبة والنحيب والتفَّ جيرانه حوله مواسين وسارعوا إلى نصحه مجدداً:
- يا أبا اسماعيل، اسمع منّا اشلحه بالوادي لتأكله حيوانات الغابة الجائعة فينالك ثواباً.
استنكر أبو اسماعيل اقتراحهم بشدّة وهتف بهم زاجراً وهو يتصبّب قهراً وحزناً:
- ألف مرة قلت لكم هذا الثورُ خدم الأرضَ خمسة عشر عاماً! والله والله، لا أقبل أن يدفن إلاّ فيها.
وتوجّه إلى الأرض حاملاً أدوات الحفر والدموع تترقرق في عينيه، وحفر قبراً في أرضه ودفن الثور فيه، وعاش حالة حدادٍ طويلة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية


.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-




.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني