الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مؤرخون اسرائيليون يشككون باسطورة مسداه

جعفر هادي حسن

2016 / 9 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


مؤرخون اسرائيليون يشككون باسطورة مسداه

يطلق الاسم مسداه(وهو بالعبرية مصداه من الجذر صدد وهو صنو الجذر العربي) على قلعة بناها الرومان في فلسطين على قمة صخرة ضخمة عالية تشرف على وادي البحر الميت. وكان الملك هيرود الكبير(النبطي الأصل) حاكم يهودا قد بنى فيها قصرين أو أكثر وحماماً وقنوات مياه، وسورا حولها في القرن الأول قبل الميلاد.وسكن في هذه المنطقة كثير من الأقوام منذ قرون بعيدة، حيث اكتشفت فيها بعض مخلفاتهم وبقايا من آثارهم.وأكثر مااكتشف فيها أثار من العصور الرومانية. وبسبب الدعاية التي أولتها الدولة لها ، أصبحت من أكثر الأماكن التي يزورها السياح في إسرائيل ،وقد اعتبرتها اليونسكو عام 2001 احد معالم التراث العالمي .وهي بالنسبة إلى الإسرائيليين وبخاصة الصهيونيون منهم ،رمز مهم يضرب عميقا في وجدانهم وله مكانة كبيرة في أذهانهم وحيكت حول هذا الرمز كثير الحكايات والقصص البطولية،..ويعتبر الإسرائيليون اليوم قلعة مسداه جزءا من تاريخهم وهويتهم، وهم يعتمدون في ذلك على ماذكره المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس(من القرن الأول الميلادي) في كتابه"الحرب اليهودية" عن مواجهة بين الجيش الروماني ومجموعة من اليهود الذين احتموا في هذه القلعة وتحصنوا فيها .
ويوسيفوس( الذي كان يعمل مع اليهود الثائرين،ثم تحول إلى الجانب الروماني،وأصبح مسؤول فيه) ، هو المؤرخ الوحيد الذي ذكر هذه الحادثة.حيث قال عن هذه القلعة أنها كانت معقلا لهؤلاء اليهود الذين هربوا من وجه الجيش الروماني الذي احتل أورشليم. وقد تحصن هؤلاء في هذه القلعلة لفترة من الزمن، وكان عددهم كما قال أقل بقليل من ألف شخص، واسماهم يوسيفوس "سيكاري". وبقي هؤلاء يعيشون في القلعة لبضع سنين كما ذكر إلى أن هاجمهم الجيش الروماني وحاصرهم, ولما يئس اليهود المحاصرون من النصر، وتأكدوا من حدوث الهزيمة الحتمية، خطب فيهم زعيمهم الذي سماه يوسيفوس "اليعازر بن ياعير"،خطبتين طويلتين ذكرهما يوسيفوس ،وقد حثهم بن ياعير فيهما على عدم التسليم للجيش الروماني، بل وطلب منهم الإنتحار الجماعي، بأن يقتل بعضهم بعضا وتحرق البنايات ومخزن الطعام كما ذكر، بدل التسليم للرومان.فانتحر هؤلاء رجالا ونساء وأطفالا ولم ينج منهم إلا امرأتين مسنتين وخمسة أطفال كانتا اختبأتا مع الأطفال في قناة للماءتحت الأرض، أو في مكان آخر. والمرأتان أخبرتا يوسيفوس بالحادثة كما يقول.
وجعل اليهود الصهاينة ماذكره يوسيفوس حدثا حقيقيا، والفوا حوله والروايات ونظموا فيه الأشعار وأنتجوا عنه الأفلام، وأصبحت الرواية عن مسداه جزءا من مناهج الدراسة في إسرائيل. وكان بعض هؤلاء اليهود في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، يأتون إلى فلسطين ويصعدون إلى القلعة، ويبقون فيها لأيام يشعلون النيران ويرقصون حولها ويغنون ببطولات المنتحرين .وبعد إنشاء الدولة ظل طلاب المدارس يؤخذون إلى القلعة ويرددون عبارة "إن مسداه سوف لن تسقط مرة أخرى".
وفي الخمسينات من القرن الماضي، كانت هناك محاولات محمومة للكشف عن آثار القلعة ومعرفة مافيها، ولكن المحاولات لاقت الكثير من الصعوبات، ولم يكشف في حينه عن شيئ ذي أهمية. والمحاولة الرئيسة والمهمة للكشف عن آثار مسداه كانت في الأعوام 1965-1963 وهي تلك التي قام بها إيغال يادين (كان رئيسا للجيش الإسرائيلي ونائب رئيس وزراء أسبق ومختصا بالآثار)، إذ أقنع بن غوريون بجدوى المحاولة والإنفاق عليها وفائدتها لإسرائيل.وتولى يادين مهمة البحث والتنقيب بمساعدة عدد كبير من المختصين وعدد أكبر من المتطوعين.وأقام معسكرا لهؤلاء المتطوعين اليهود، الذين وصل عددهم إلى المئات في حينها،وخلال السنين وصل عددهم إلى عشرة آلاف متطوع من الإسرائيليين وغيرهم. وعمل يادين لفترة طويلة في البحث والحفر والتنقيب ولم يبق مكان في هذه القلعة إلا ونبشه.وكان الإنفاق على عمليات التنقيب،تعهدت به بعض المؤسسات البريطانية،ومنها صحيفة الأوبزرفر.وقد عثر يادين على بعض الأماكن المحترقة التي قال أنها كانت تستعمل من قبل اليهود المحاصرين كمخازن، واكتشف كومة من الفحم والى جانبها بقايا بعض الملابس وغيرها من أشياءأخرى، وزعم أنها كانت قد جمعت قبل الإنتحار واشعلت النار فيها.واكتشف كذلك بعض الهياكل العظمية التي قيل أنها كانت بقايا من السيكاري لعائلة واحدة (وقد دفنت هذه البقايا فيما بعد في احتفال عسكري مهيب أقامته الدولة) .واكتشف كذلك بعض القطع الخزفية من أهمها إحدى عشرة قطعة كتب على كل واحدة اسم طبقا لتفسير يادين .وقد ظن بان هذه القطع هي التي ذكرها يوسيفوس، والتي استعملها آخر عشرة أشخاص لإجراء القرعة لمن يقوم بعملية قتل الآخرين، ولتأكيد ظنه هذا قرأ أحد هذه الأسماء على أنه"بن ياعير" حيث يكون هذا مطابقا لإسم الزعيم المفترض اليعازر بن ياعير.وهكذا ربط يادين هذه البقايا والمخلفات البسيطة بالسيكاري، وأخذ يقوم بكثير من الدعاية لها في وسائل الإعلام فشدت اليهود إليها لتتبع الأخبار وما يعلنه يادين من اكتشافات مفترضة. وقد اصبحت قلعة مسداه مزارا مهما يزوره اليهود عامة والإسرائيلون خاصة جماعات جماعات.ويقفون على حافة القلعة صفوفا وطوابير ويصرخون بأعلى اصواتهم أيها الرومان سوف لا نستسلم. وجعلها الجيش الإسرائيلي مكانا يقسم عنده العسكريون قسم الولاء للدولة ويرددون في قسمهم عبارة "إن مسداه سوف لاتسقط مرة أخرى"وأخذ الإسرائيليون يكتبون هذه العبارة على بعض التحف والملابس. واصبحت قصة السيكاري المفترضة مع الرومان رمزا لمقاومة الإسرائيليين للعرب.وألف إيغال يادين كتابا ضخما عام 1968عنوانه "مسداه".
وأصبح الإسرائيليون مأخوذين بما ذكر عن مسداه ومبهورين بما حدث فيها من مقاومة مفترضة، بل أخذوا ينظرون إليها نظرة تقديس وتعظيم.واعتبرتها غولدا مئير من العقد التي تتحكم باليهود إلى جانب عقدة هتلر والمذبحة، وأنشأت مجموعة من اليهود منظمة باسم سيكاري تخليدا ليهود مسداه.
وفي السنين الأخيرة أخذت الشكوك والتساؤلات تكثر حول ما اعتقد بأنه حقائق مؤكدة، والذين أثاروا ذلك هم الباحثون والمؤرخون اليهود من الإسرائيليين خاصة،ثم ثنى عليهم بعض المؤرخين من غير اليهود. فمن الأمور التي أثيرت حولها هو الشك في حقيقة حدوث الإنتحار الجماعي الذي ذكره يوسيفوس، ويقولون إن هذا لايمكن إثباته، لأن الراوي لهذه القصة هو يوسيفوس وحده دون مؤرخ آخر، وهو لم ير بنفسه الحادثة التي رواها ولم يكن شاهدا عليها، فهوقد نسبها إلى امرأة عجوز ،ولكن كيف يمكن لامرأة عجوز مختبئة أن تحفظ خطبة طويلة متميزة بل خطبتين باسلوب رشيق كخطبة الزعيم المفترض؟(وعندما قرأت أنا الخطبتين كان أول ماتبادر إلى ذهني هذا التساؤل قبل اطلاعي على شكوك الباحثين).ويرى بعض الباحثين أن يوسيفوس ربما قرأ هذه القصة في أحد المصادر ثم زاد عليها وبالغ فيها ودبج أسلوبها،إذ أنها ذات لغة متميزة. ويقول جونثان برايس أستاذ اللغات القديمة والتاريخ في جامعة تل أبيب إن يوسبفوس يصف السيكاري في كتابه المذكور(حرب اليهود في القسم الثاني في الصفحات432وما بعدها) بأقبح الصفات وأشنعها، وهو عبر في الكتاب عن كرهه نحوهم واحتقاره لهم. إذن كيف ذكرهم في هذه القصة بالطريقة التي ذكرها مادحا إياهم ومثنيا عليهم . وهو يرى بأن يوسيفوس، أراد أن يؤكد رأيه الذي كان يراه، وهو دعوة اليهود إلى عدم الثورة ضد الرومان،لأن هذا يقود إلى كارثة على اليهود، وهواستدل بذكره للإنتحار الجماعي كدليل على عدم مقدرة اليهود على مقاومة الرومان.وهذا هو أيضا رأي الأستاذ جيروم مرفي أوكونر رئيس مدرسة لدراسة الكتاب المقدس في القدس ،كما أن هؤلاء السيكاري كانوا قد قاموا بمذبحة في بلدة عين جدي، التي لاتبعد كثيرا عن القلعة، قتلوا فيها 700 طبقا لما يذكره يوسيفوس نفسه .وكان هؤلاء يرعبون الناس ويرهبونهم ويدخلون بيوتهم ويسرقون ما عندهم كما يقول .
وبالنسبة إلى القطع الخزفية التي ادعى يادين أنه عثر عليها، فقد ذكر هؤلاء الباحثون بأن الفكرة التي جاء بها يادين إنما هي من اختراعه، وأنه ظنها ظنا من دون أي دليل يدعمها. أما الهياكل العظمية التي اعتقد أنها لعائلة واحدة انتحرت سوية، فان شيئا من هذا لم يؤكد أبداً وليس هناك دليل على صحة الفكرة.وبصورة عامة قام يادين برسم صورة طبقا لما ذكره يوسيفوس.
ومن المسائل التي أثيرت حولها الشكوك هو موضوع فترة الحصار. فقد اشيع بأنها كانت لفترة ثلاث سنوات أو أربع، وذكرت وكانها حقيقة ثابتة، ولكن الأستاذة حنه كوثن وهي مدرسة تاريخ ولغات قديمة في الجامعة العبرية تقول، انه بالمقارنة مع ماحدث تاريخيا في حصارات الرومان في اماكن أخرى، فإن حصار "مسداه" لايمكن أن يكون قد استمر لسنوات، بل لم يستمر أكثر من أسابيع من ستة اسابيع إلى ثمانية، وليس أكثر من ذلك. وتقول إن فترة الحصار هذه قد بولغ بها بشكل متعمد من أجل تأكيد اسطورة "مسداه"، لأنه كلما كان الحصار أطول، يكون الإعجاب بالمحاصرين أكثر، حيث جعل الحصار من العام 70م إلى العام 73م كما ان هناك مبالغة بالمقاومة، وهي والحصارقد انتزعا من سياقهما.
وأكثر من هذا فإن بعض الباحثين قد انتقد إيغال يادين نقدا لاذعا، واعتبره مبالغا بنشره أفكارا لاصحة لها أثرت على جيل أوجيلين من الإسرائيليين. وكان من هؤلاء الناقدين نيل آشر سيلبرمان الذي أصدر عام1994 كتابا عن إيغال يادين اعتبره فيه صانع أساطير .وفي عام 2002 م أصدر الأستاذ نحمان بن يهودا، استاذ علم الأنثروبولوجيا في الجامعة العبرية، كتابا عنوانه "إخفاء الحقيقة: علم الآثار واسطورة مسداه"، اتهم فيه يادين بالكذب، وأنه أخفى الحقائق. وهو في كتابه يتقفى أيضا الطرق التي اتبعها في اخفاء الحقائق، بعد أن اطلع على التقارير التي دونت عن المكتشفات المفترضة. أما عن المجموعة التي يفترض أنها كانت تقاوم، فقد قال عنهم في كتابه الآخر"اسطورة مسداه والذاكرة الجماعية وخلق الأسطورة في إسرائيل "ان أبطال مسداه لم يكونوا سوى مجموعة من قطاع الطرق والقتلة، الذين يسمون سيكاري والذين أرعبوا القرى اليهودية وذبحوا سكانها، وهم قد التجاوا إلى مسداه بعد أن اجبرهم يهود أورشليم على الهرب (لأنهم كانوا يقومون بعمليات اغتيال بخناجر خاصة، وكان ممن اغتالوه رئيس كهنة المعبد). فهم لم يفعلوا شيئا لحماية المدينة من الهجوم الروماني عليها. وعلى الرغم من أنه كان هناك دفاع بطولى عن المدينة ضد الجيش الروماني، إلا أنه لم يكن هناك شيئ من هذا في مسداه، والتي كانت في حقيقتها مأوى للعصابات. وقد انتحر هؤلاء بعد أن حاصرهم الجيش الروماني وهي ليست كما صورت واعتبرت جزءا من هوية أسرائيل"(ص269) ومن الذين شككوا ،في الرواية الإسرائيلية ، شلومو ساند في كتابه " اختلاق أرض إسرائيل" .وبالرغم من كل هذه الشكوك التي تلقي بظلالها على الحدث وتظهر جوانب التزييف فيه، فإن الإسرائليين لايريدون ان يصدقوها،لأنها أصبحت جزءا من سردية تاريخهم ومترسخة في تفكيرهم ووجدانهم، بل وجزءا من هويتهم التي يحاولون أن يصنعوها ،(وإن كانت بوادر تصديق هذه الشكوك قد ظهرت عند بعض الإسرائيليين) ولكنها تحتاج إلى وقت غير قصير وإلى ظروف غير التي
هم فيها لتزول من ذاكرة عامة الناس، وتختفي من وجدانهم.والتشكيك فيما حدث في مسداه،يأتي ضمن إعادة النظر في التاريخ اليهودي في فلسطين من قبل المؤرخين والأثاريين والروائيين الإسرائيليين الجدد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تتطور الأعضاء الجنسية؟ | صحتك بين يديك


.. وزارة الدفاع الأميركية تنفي مسؤوليتها عن تفجير- قاعدة كالسو-




.. تقارير: احتمال انهيار محادثات وقف إطلاق النار في غزة بشكل كا


.. تركيا ومصر تدعوان لوقف إطلاق النار وتؤكدان على رفض تهجير الف




.. اشتباكات بين مقاومين وقوات الاحتلال في مخيم نور شمس بالضفة ا