الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية أبو دعسان والهجرة الدّاخلية

عبدالله دعيس

2016 / 9 / 21
الادب والفن


عبد الله دعيس:
أبو دعسان والهجرات الداخلية

رواية أبو دعسان للكاتب ربحي الشويكي من إصدارات (منشورات لجان العمل الثقافي) عام 2016 وتقع في 341 صفحة.
(أبو دعسان) عنوان يدلّ على أصالة الحكاية، ويهيّئ القارئ لرحلة إلى أحضان التاريخ، يستقي من ينابيع الحياة في أكنافه، ويطّلع على حياة الناس العاديّين فيه بعيدا عن أحداث السياسة وتقلّبات الدول التي تزخر بها كتبه، ليسلّط الضوء على حياة أناس بسطاء، عاشوا حياة زاخرة لكنّهم غابوا في طيّات النسيان بعد أن ابتلعهم تراب الوطن. ولأنّ تأثيرهم في عجلة الحياة كان كبيرا وإن أغفلتهم الكتب؛ جاء من يحمل حكايتهم ويضعها على الصفحات، لتكون حكاية مدينتين تضرب جذورهما في أعماق التاريخ: حكاية القدس، وحكاية الخليل التي تكتسي هي الأخرى بهالة من القدسيّة وتنال دائما دورها من الصراع على هذه الأرض المباركة.
في هذه الرواية نعيش الخليل. نعيش مع ناسها الذين ما إن بدأوا ينفضون عن كواهلهم غبار عقود من الجهل والظلم والاضطهاد في كنف الحكم العثمانيّ، حتّى حطت عليهم غربان المرض والمجاعة والاستعمار الإنجليزي ثمّ أطماع اليهود الصهاينة. نعيش بحقّ آلام أهل الخليل وهم يعانون من انتشار وباء الكوليرا الذي حصد الأرواح، وحرم العائلات من فلذات أكبادها، وأظلّ المدينة بخيمة من الحزن والقهر زاد من شقاء أبنائها وأصابهم بالكآبة. وكذا حدث مع أبي دعسان الذي خسر وحيده وهو في سنّ الستين وبقي ليواجه الدنيا مهموما محزونا. لكنّ الحياة تستمرّ ويتزوج أبو دعسان في كبره ويرزق الأولاد ويعيش طويلا حتّى يرى الأحفاد، وكأنّ الفرح ينمو دائما في تربة الأحزان، والحياة مهما تقسو تمنّ أحيانا بأشعة السعادة التي تتسلّل من بين الركام.
ويبدع الكاتب ربحي الشويكي في وصف الخليل: فيصف أماكنها بدقّة ويرسمها بريشة فنان، ويذكر الأسماء القديمة للأماكن حتى ينقل القارئ إلى ذلك الزمان ويجعله يتجوّل في أزقة الخليل وحاراتها وحقولها مترامية الأطراف. ثمّ يدخل إلى بيوتها القديمة فيصفها بدقّة متناهية: بغرفها وعليّاتها وأثاثها وأماكن الجلوس والنوم واللهو وحتّى الأماكن التي يعتكف فيها الإنسان مهموما شاردا في دروب الأحزان. ثمّ يصف الملابس التي يرتديها الرجال والنساء والصبيان بأسمائها الشعبيّة محافظا على تراث بات يؤذن بالاندثار.
فالرواية مكانيّة اجتماعيّة بامتياز، فالحديث فيها يدور حول أدق التفاصيل في الحياة الاجتماعيّة في مدينة الخليل عبر عقود من الزمان، ومن ثمّ تتتبّع أهالي الخليل الذين انتقلوا ليعيشوا في مدينة القدس ويعملوا فيها. وتكتسب هذه الرواية أهميتها من أنّها تناولت موضوعا مهمّا وحيويّا ألا وهو الهجرة الداخلية لأبناء الخليل نحو القدس وتأثير ذلك على الحياة الاجتماعيّة في الخليل وفي القدس. وهنا تبرز الآثار الإيجابيّة لهذه الهجرة، حيث عادت بالمنفعة الماديّة على الخليل وأبنائها، ولكنّ الأهم من ذلك أنّ هذه الهجرة ساعدت القدس في صمودها بوجه الاحتلال ومنعت من تسرّب الأراضي والعقارات إلى الأعداء، وأغنت المدينة المقدّسة بالسكّان وتنوّع الثقافات، وأصبحت فعلا قلب فلسطين الذي ينبض بأهله الذين لهم مشاربهم المختلفة ويتكلّمون اللهجات المتعدّدة، لكن يوحدهم حبّهم لوطنهم ومناهضتهم لمحتلّيه. وأصبح هذا الكم الكبير من أهالي الخليل في القدس شوكة في حلق الاحتلال، وشجرة راسخة الجذور يصعب عليه اقتلاعها. والرواية تشير إلى بدايات هذه الهجرة حين طلب أهالي القدس من أبناء الخليل التوجّه إلى مدينتهم بدل من الهجرة خارج البلاد: فبينما جنح كثير من أبناء فلسطين إلى الهجرة خارج البلاد هربا من ضنك العيش، تنقل الخليليّون بين القدس والخليل ونشّطوا الحياة الاقتصاديّة في كلا المدينتين.
والخليل، في رواية ربحي الشويكي، جمعت بين حياة المدينة وروح القرية في توأمة فريدة نتج عنها حياة اجتماعيّة مميّزة، فقد أخذت عن القرية خشونة العيش وكدّ الرجال والنّساء وعن المدينة عنفوانها وعلاقاتها الاجتماعيّة وبعض عاداتها خاصة فيما يخصّ التعامل مع النساء؛ فكان مزيجا مميّزا فيه حنكة التاجر وشدّة ساعد الفلاح، أهّلت أهالي الخليل ليكونوا القوة الاقتصاديّة وشريان الحياة الذي حفظ الحياة في مدينة القدس عندما سكنوها.
ويتعمد الكاتب على أسلوب الحكاية، فالرواية مجوعة من الحكايات الشعبيّة المترابطة التي تسرد قصة ثلاثة أجيال من إحدى عائلات مدينة الخليل. ويلجأ الكاتب إلى المباشرة في السرد التفصيليّ، وإلى الحوار بين الشخصيّات عندما يرغب في تفصيل عادة اجتماعية ما ووصف التقاليد التي كانت سائدة في البلاد مثل الزواج واحتفالات الأفراح، ويقتضب كثيرا من الأحداث والسنوات أحيانا.
ومع أنّ الكاتب أسهب في وصف شخصيّاته الرئيسيّة لكنّه لم يبعث الروح فيها، ولم يسبر أغوار نفوسها، بل تركها لتكون شخصيّات كرتونيّة تتحرّك أمامنا دون روح أو حياة. ولم يعتنِ الكاتب باللغة كثيرا، بل ذهب على سجيّته يحكي عن هذه الشخصيّات بلغة بسيطة تخلو من الإبداع الأدبي والفنّي ولا تختلف كثيرا عن الكلام العادي الذي قد لا يرتقي إلى مستوى الأدب.
والرواية تزخر بالأخطاء المطبعيّة التي كان يمكن تجنّبها وتصحيحها أثناء المراجعة. لكن المشكلة الأكبر تكمن في العدد الهائل من الأخطاء اللغويّة، خاصة النحويّة، فهي أكثر من أن تحصى، ومنها هفوات كان يمكن تجنبها بقليل من الاهتمام والمراجعة. ويخلط الكاتب كثيرا، خاصة أثناء الحوار، بين صيغ التذكير والتأنيث ولا ينتبه إلى ذلك، وقد وقع في أخطاء "فيسبوكيّة" مثل إضافة الياء إلى تاء التأنيث (إنك أشفقتي) بدل أشفقتِ (بل بكيتي) بدل بكيتِ. هذه الأخطاء برأيي أساءت إلى الكتاب خاصة مع وجود مشرفة لغوية وإشراف عام على إصداره كما ذُكر في ص 2.
وكما هزّ الزلزال الكبير جدران القدس والخليل، وكما غمرت الثلجة الكبيرة شوارعهما وبيوتاتهما، غمرتنا هذه الرواية بشعور رائع أثناء قراءتها وأسدلت علينا حكاياتهما ثوبا جميلا أمتعنا وأفادنا، لذلك فنحن نتطلّع إلى طبعة جديدة بأسلوب جديد ينفض عن هذا الثوب ما علق به من شوائب كان تجنّبها سهلا يسيرا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أشرف زكي: أشرف عبد الغفور كان من رموز الفن في مصر والعالم ا


.. المخرج خالد جلال: الفنان أشرف عبد الغفور كان واحدا من أفضل ا




.. شريف منير يروج لشخصيته في فيلم السرب قبل عرضه 1 مايو


.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح




.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار