الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لابد من تطوان وإن طال السفر

سميح مسعود

2016 / 9 / 27
الادب والفن




تعددت الأماكن التي زرتها مؤخرا في المغرب، تنقلت بين مدن كثيرة، لملمت منها أجمل الذكريات، منها مدينة تطوان،التي تعتبر أقصى نقطة عربية على بعد أميال قليلة من مضيق جبل طارق، ما أن وصلتها حتى تذكرت الشاعر السوري فخري البارودي الذي ذكر تطوان في قصيدته " بلادُ العرب أوطاني" ومن كلماتها : بلادُ العُرب أوطاني/ منَ الشام لبغدانِ/ ومن نجدٍ إلى يمنٍ/ إلى مِصرَ فتطوانِ/ فلا حدٌ يباعدُنا / ولا دينٌ يفرقنا/ لسان الضّاد يجمعُنا/ بغسانٍ وعدنانِ.

شدتني كلمات هذه القصيدة بإيقاعها الدلالي واللفظي، وقربتني من تطوان بإحساس داخلي عاطفي، شعرت بتآلف معها مع أنني لم أزرها من قبل... سرعان ما بدأت التجول فيها مشياًعلى الأقدام على مدى ساعات طوال، وجدتها مدينة جميلة تطلُ على البحر الابيض المتوسط ... تعبق أحياؤها القديمة بأريج التاريخ بطابع هندسي أندلسي، ويتجلى الزمن الراهن برمزية تمثال ضخم لحمامة بيضاء اللون ينتصب في وسط ساحة المدينة المركزية.

استوقفت شخصاً على مقربة من التمثال، وطرحت عليه عدة تساؤلات عن مدينته للتعرف عليها أكثرفأكثر... أجابني وابتسامة تعلو محياه، بأن التمثال من معالم المدينة الحديثة تم إقامته في ستينات القرن الماضي بلون مبانيها البيضاء، وبسببه يُطلق علي تطوان لقب الحمامة البيضاء، ومن ثم بين لي بأنها كمدينة بدأت بالظهور بعد سقوط غرناطة، واستيطان أعداد كبيرة من الأندلسيين فيها، وما زالت تحتفظ حتى الآن بفنهم المعماري الأندلسي في منازلها وقصورها ومساجدها وزواياها وفنادقها وجدران قصباتها القديمة.

وتفاجأت مما قاله في حديثه،عن تميز تطوان باعتلاء سدة الحكم فيها امرأة قبل ما يقرب من خمسمائة عام، اسمها " السيدة الحرة" ابنة الأميرعلي بن موسى بن راشد... خلط محدثي الأحداث والوجوه من أيام مدينته القديمة خلطاً مزج فيه الخيال والأسطورة ، ولطلاوة لسانه أنساني مرورالسنون وتغيرالأحقاب الماضية، و شعرت كأن" السيدة الحرة" تعيش بيننا،ولم تغب آثارها في زمن مضى.

واصلت المشي بعد ذلك حتى المساء، وفقدت فجأة حماسي للمشي، فعدت إلى الفندق الذي اخترته في الجزء الجديد من المدينة، جلست في مقهى مكشوف يقع في ساحته الأمامية... لم يكن في السماء غيمة واحدة، نظرت حولي بعينٍ مترصّدة، وحملني تلألؤ النجوم بعيداً عن كل شيء، إلى أعماق العصور الماضية، إلى " السيدة الحرة " التي استأثرت بحكم تطوان... وجدت قصتها تعطي الأمل للمرأة العربية لاستلام دفة الحكم في الزمن المعاصر، الذي ما زالت تتحكم فيه الثقافة الذكورية، بسعيها الدائم إلى الحد من سلطة المرأة وتبؤها أعلى المناصب.

قصدت في صباح اليوم التالي الجزء القديم من المدينة، توقفت مطولاً عند سور تطوان، وجدته بسبعة أبواب، وحوله أجهزة دفاعية محصنة مثل قصبة جبل درسة في الشمال, وقصبة سيدي المنظري، وعدة أبراج عالية مثل أبراج باب العقلة وباب النوادروالبرج الشمالي الشرقي... دخلتُ المدينة القديمة من باب التوت، وتجولت في أحيائها... مشيت في أزقة وممرات كثيرة تعرف باسم الحرف التقليدية التي ما زالت تمارس فيها، وتعرفت على ساحات مليئة بجموع من الناس، يأتون للتزود بحاجاتهم من أسواقها القديمة، كسوق السمك والسوق الفوقي والمصداع، كلها معالم تاريخية تتشبث في تكويناتها العمرانية بنبض تراثي أندلسي، تم على أساسه تسجيل تطوان كثراث انساني في عام 1998، ضمن قائمة اليونسكولمواقع التراث العالمي.

حالما اشتدت حرارة الجو، اتجهت إلى مقهى مليء بالسياح على مقربة من الأسواق القديمة، جلست فيه، وجدته يشرف على ساحة مبلطة بأحجار صغيرة جميلة كأنها من قطع الفسيفساء، تحيط بها حديقة من الزهور تنبعث منها رائحة زكية... تذكرت في تلك اللحظة بأن مدينة تطوان قد ارتبطت فيما مضى بعلاقة متميزة مع مدينة نابلس الفلسطينية، وقد كتبت عن هذه العلاقة قبل عدة سنوات، وبينت أنه بسببها درس في مدرسة النجاح بنابلس مجموعة من طلبة تطوان في عشرينات القرن الماضي،وقد حاولت طيلة السنوات الماضية البحث عن أثر لهم في المغرب ولم أوفق.

بقيت في مدينة تطوان لمدة ثلاثة أيام ،اتجهت بعدها إلى الرباط التي بدأت منها سلسلة زياراتي لعدة مدن مغربية، وسرعان ما التقيت بصديق مغربي، تحدثت معه عن أمورٍ كثيرة تتعلق بزياراتي لعدد من المدن المغربية، كشفت له عن صور من تلك الزيارات تراكمت في ذاكرتي الواحدة فوق الاخرى، بكثيرمن الانفعالات والمشاعر الجميلة.

وفي لحظة من اللحظات سألته عن علاقة تطوان بنابلس، فرد بجواب مطولٍ، وجدت فيه الخبر اليقين... أفادني بأن هذه العلاقة من مآثر الحاج عبد السلام بنونة الملقب برائد الحركة الوطنية المغربية، وهو من تطوان، كان أكثر بكثير من مجرد زعيم محلي، فقد كانت له علاقات متينة مع كثير من المناضلين وأهل الفكر في المشرق العربي مثل الأمير شكيب أرسلان، وبعض رجالات نابلس، ولاهتمامه بالعلم أوفد في عشرينات القرن الماضي أربعة من ابنائه مع مجموعة من طلاب تطوان لمتابعة تعليمهم في مدرسة النجاح التي تحولت فيما بعد إلى جامعة النجاح الوطنية.

سررت بهذه المعلومة التي طالما كنت أبحث عنها، ولاستكمال كل جوانبها اتصل صديقي هاتفياً بابن الحاج عبد السلام بنونة الناشط في تطوان واسمه " أبو بكر"، لاستيضاح أسماء الطلبة الذين تابعوا معه تعليمهم في نابلس، وسرعان ما تم الحصول على المعلومات المطلوبة واجتاحني احساس بالسعادة حين نقل لي صديقي ما سمعه عبر الهاتف، موضحاً لي بأن الحاج عبد السلام بنونة قد أوفد في البداية ابنه الطيب بنونة مع محمد مصطفى أفيلال في عام 1928 للدراسة في مدرسة النجاح بنابلس، لحقهما اولاده ادريس والمهدي وأبو بكر في عام 1930،ولحق بهم بعد ذلك وفود أخرى من الطلبة حتى عام 1935من مختلف أنحاء المغرب، من تطوان وسلا وفاس ومراكش، منهم: عبد السلام بن جلون، ومحمد الفاسي الحلفاوي ومحمدعبد السلام الخطيب ومحمدمحمد الخطيب وعبد الله الخطيب واحمد بن عبد الوهاب ومحمد بن جلون، وغيرهم من الطلبة .

عاشوا بواكير الصبا في نابلس، أكملوا فيها دراستهم، ومن ثم عادوا الى تطوان، وحافظوا على تواصل دائم مع أهل فلسطين، وُيشهد لهم بأنهم ساهموا طيلة عمرهم في تأييد الحق الفلسطيني في مختلف المحافل السياسية، وأخص بالذكر منهم المهدي بنونة، وهو صحفي وسياسي ودبلوماسي من الحركة الوطنية المغربية، يعتبر رائدا من رواد الصحافة الوطنية المغربية،أسس العديد من الصحف، كما أسس وكالة المغرب العربي للانباء كمؤسسة خاصة به قبل أن تُحول الى جهازحكومي ، وساهم في الكفاح من اجل استقلال المغرب ، بتأسيسه مكتب المغرب في نيويورك عام 1947، لتعريف العالم بحق بلده في الاستقلال، وقد أشار في مناسبات كثيرة إلى أنه وضع نفسه والمكتب تحت تصرف وفد الهيئة العربية العليا الفلسطينية لدى الامم المتحدة، الذي تكون وقتذاك من اميل الغوري وعيسى نخلة و واصف كمال، اشترك معهم في اجتماعات مهمة في اطار المنظمة الدولية، وكان لهم خيرعون في تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ القضية الفلسطينية.

وعلمت من مصادركثيرة بأن الهادي بنونة بقي وفيا طيلة عمره حتى رحيله في عام 2010 لذكرى أيام طفولته الباكرة في مدرسة النجاح،كان يعتز دوما في أحاديثه بأنه انغرس في قلبه حب فلسطين في تلك الايام، وتلقى دروس الوطنية على يد قادة وطنيين من أهل نابلس خص بالذكرمنهم محمد عزة دروزة والشيخ عبد الحميد السائح وأكرم زعيتر، وساعده هذا على الإهتمام مبكرا بالشأنين السياسي والنضالي والظهور كفاعل مهم في التعريف بالقضية الفلسطينية، وفي تدشين حملات جمع التبرعات بعد النكبة لصالح ضحايا ومنكوبي فلسطين.

لعل تدوين هذه الكلمات عن تطوان وأهلها، تساهم في استحضار كل ما هو جميل وأصيل من قيم زمننا الماضي، نحن بحاجة إلى اعتصار الدروس منها في ظل أزمات أيامنا المعاصرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير