الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار مع رئيس حزب الحداثة والديمقراطيّة السّوريّ فراس قصاص

دلشاد مراد
كاتب وصحفي

2016 / 10 / 5
مواضيع وابحاث سياسية



في حوار هادئ ومعمّق مع رئيس حزب الحداثة والديمقراطيّة السّوريّ فراس قصاص، في أغوار الأزمة السّوريّة الفكريّة والمعرفيّة، وليؤكّد أنّ الأزمة بنيويّة مهّد لها النظام قبل عقود، وهو نتاج مرحلة تمّ فيها إخراج الفكر والعقل من دائرة النتاج المجتمعيّ، ليكون البديل تابوهات جامدة كانت الوقود الأساسيّ في هذه الأزمة، ثمّ ليعرّج على الجانب السياسيّ ليوضّح بكلّ جلاء نظرته من الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة وعن زيارته لروج آفا، وموقفه من تطبيق النظام الفيدرالي في سوريا.

– بداية نرحّب بكم، هل لكم أن تقدّموا نبذة عن أنفسكم وعن حزب الحداثة والديمقراطيّة؟

دعني بدوري أرحّب بكم وأشكركم على خلق هذه المناسبة الحواريّة التي أتمنّى أن تقدّم مساهمتها في رسم الصورة الصعبة التي تشكّلها خارطة الأحداث والصراع الحاصل في بلادنا منذ اشتعال الثورة السورية عام 2011. بالعودة إلى سؤالكم، أقول: ﺗﻌﻮﺩ ﺑﺪﺍﻳﺎﺕ ﺗﺄﺳﻴﺲ حزب الحداثة ﻭﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴّﺔ ﺇﻟﻰ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻃﻼّﺏ سوريين ﻣﻦ ﻣﻨﺎﺑﺖ ﺩﻳﻨﻴّﺔ ﻭﺛﻘﺎﻓﻴّﺔ ﻭﻋﺮﻗﻴّﺔ ﻣﺘﻌﺪّﺩﺓ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻳﺪﺭﺳﻮﻥ ﻓﻲ ﺟﺎﻣﻌﺘﻲ ﺩﻣﺸﻖ ﻭﺣﻠﺐ. ﺗﻌﺎﻃﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﺍﻟﺤﻮﺍﺭ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻤﻨﻬﺞ ﺑﺪﺀﺍً ﻣﻦ ﻋﺎﻡ ١٩٩٦ﺣﻮﻝ ﺍﻟﺸﺄﻥ ﺍﻟﺴّﻮﺭﻱّ، ﻭﺗﻌﻬّﺪ ﺃﻓﺮﺍﺩﻫﺎ ﻣﻨﺬ ﺍﻟﺒﺪﺍﻳﺔ ﺑﺄﻥ ﻳﺮﻣﻮﺍ ﻛﻞّ ﺍﻷﻃﺮ ﺍﻟﺠﺎﻫﺰﺓ ﻭﺍﻟﻤﺴﺒﻘﺔ ﺧﻠﻔﻬﻢ ﻭﺃﻥ ﻳﺘﺠﺎﻭﺯﻭﺍ على ﺍﻟﺘﺎﺑﻮهاﺕ، ﻭﻫﻲ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪﺗﻴﻦ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﻳّا ﻭﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﻋﻤﻮﻣﺎً.
ﻟﻘﺪ ﺭﺃﺕ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﺃﻫﻤﻴّﺔ ﺃﻥ ﻳﻘﻮﺩ ﺃﻓﺮﺍﺩﻫﺎ ﺍﻧﻘﻼﺑﺎً ﺃﻭﻝ ﺍﻷﻣﺮ ﻟﻴﺲ على ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲّ ﻭﺇﻧّﻤﺎ على ﺫﻭﺍﺗﻬﻢ، ﻟﻴﺘﺨﻠّﺼﻮﺍ ﻣﻦ ﺁﺛﺎﺭ ﺍﻟﺒﻴﺌﺔ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﻴّﺔ ﻭﺍﻟﺬﻛﻮﺭﻳّﺔ ﻭﺍﻷﺑﻮﻳّﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻧﺸؤﻭﺍ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻣﺘﺴﻠّﺤﻴﻦ ﺑﺎﻟﺤﻮﺍﺭ ﻭﺍﻟﻤﻄﺎﻟﻌﺔ ﺍﻟﻜﺜﻴﻔﺔ ﻭﺍﻟﻨﻘﺪ ﻭﺍﻧﺘﻬﺎﻙ ﺍﻟﻼ ﻣُﻔﻜّﺮ ﻓﻴﻪ ﻭﺍﻟﻤﺴﻜﻮﺕ ﻋﻨﻪ، ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺻﻌﺒﺔ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﺍﺳﺘﻮﻋﺒﻬﺎ ﺃﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﺭﻏﻢ ﻣﺎ ﺣﻔﻠﺖ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺗﺪﺍﻋﻴﺎﺕ ﻭﺍﻧﻜﺴﺎﺭﺍﺕ ﻧﻔﺴﻴّﺔ ﺣﺎﺩّﺓ ﺭﺍﻓﻘﺖ ﻭﻻﺩﺓ ﺷﺨﺼﻴّﺎﺗﻬﻢ ﺍﻟﺤﺮّﺓ ﻭﺍﻟﻌﻘﻼﻧﻴّﺔ، ﻟﻜﻨّﻬﻢ ﻋﺎﺷﻮﺍ ﺗﺠﺮﺑﺔً ﺧﺼﺒﺔً ﺃﺻﺒﺤﻮﺍ ﺟﺎﻫﺰﻳﻦ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﺃﻛﺜﺮ ﻟﻴﺘﻔﺎﻋﻠﻮﺍ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺑﻜﻞّ ﺍﻧﻔﺘﺎﺡٍ ﻭﺯﺧﻢٍ، ﻓﻜﺎﻥ ﺗﺄﺳﻴﺲ الحزب ﺗﺎﻟﻴﺎً على ﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﻋﺎﻡ 2001.
ﻛﺎﻥ ﺗﺸﻜّﻞ ﺍﻹﻃﺎﺭ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻲّ ﻟﻠﺤﺰﺏ على ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻨﻮﺍﻝ ﺇﺑّﺎﻥ ﺗﺄﺳﻴﺴﻪ ﻛﺎﻓﻴﺎً ﻟﻜﻲ ﻳﻀﻊ ﻣﻬﺎﻡ ﺍﻟﺘﻨﻮﻳﺮ ﻭﺍﻹﺻﻼﺡ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲّ ﻭﺍﻟﺘﺤﺪﻳﺚ على ﺭﺃﺱ ﺃﻭﻟﻮﻳّﺎﺗﻪ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ، ﻭﺃﻥ ﻳﻌﻠﻦ ﺃﻥّ ﺧﻄﺎﺑﻪ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲّ ﻣﻔﺘﻮﺡٌ ﻭﻏﻴﺮ ﻣﻨﺠﺰ ﻭﺳﻴﺒﻘﻰ ﻛﺬﻟﻚ، ﻭﺃﻧّﻪ ﻳﺘﺤﺎﺷﻰ ﺍﻟﻮﻗﻮﻉ ﻓﻲ ﻛﻤﺎﺋﻦ ﺍلأﻳﺪﻭﻟﻮﺟﻴﺎ ﻭﺍﻧﻐﻼﻗﺎﺗﻬﺎ، ﻓﻲ ﺍﺧﺘﺒﺎﺭ ﺩﺍﺋﻢٍ ﻣﻊ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲّ ﻭﺍﻟﻴﻮﻣﻲّ ﻓﻲ ﺩﻳﻨﺎميكية ﺩﺍﺋﻤﺔ ﻭﺣﺮﻛﺔ ﻣﺘﺠﺪّﺩﺓ.
ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲّ ﻟﺤﺰﺏ الحداثة ﻭﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴّﺔ ﻳﺤﺪّﺩ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻓﻲ ﻛﻮﻧﻬﺎ تجسيداً ﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ ﻭﺇﺳﻘﺎﻃﺎً ﻟﻬﺎ على ﺍلإﺟﺘﻤﺎﻋﻲّ (ﻋﻼﻗﺎﺕ ﻭﺗﻔﺎﻋﻞ ﻭﻗﻮﻯ ﻭﻣﻮﺍﻗﻒ)، ﻭﻳﺮﻯ ﺃﻥّ ﺟﻮﻫﺮ ﺍﻷﺯﻣﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺸﻬﺎ ﺳﻮﺭﻳّا ﻭﺟﺬﺭﻫﺎ ﻛﺎﻣﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ، ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻨﻈﻢ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻴّﺔ ﻭﺍﻟﺘﺮﺍﻛﻴﺐ ﺍﻟﻌﻘﻠﻴّﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴّﺰ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲّ ﻓﻲ ﺳﻮﺭيّا ﻫﻲ ﺍﻟﻤﺴؤﻮﻟﺔ ﻋﻦ ﺑﻠﻮﺭﺗﻬﺎ.
ﻟﻘﺪ ﺭﺻﺪ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲّ ﻟﻠﺤﺰﺏ ﻓﻲ ﺍﻷﺯﻣﺔ ﻫﻴﺌﺘﻬﺎ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﻳّﺔ، فاﻟﻤﻌﺮﻓﻲّ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲّ ﻳﻨﺘﺞ عمّا ﻫﻮ ﺳﻴﺎﺳﻲّ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﺑﺪﻭرﻩ ﻳﺆﻛّﺪ ﻭﻳﻌﻴﺪ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻲّ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲّ، ﻟﺘُﺤﻜﻢ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍﻷﺯﻣﺔ ﺇﻏﻼﻕ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺴّﻮﺭﻱّ على ﺫﺍﺗﻪ ﻭﺗﺒﻘﻲ ﻣﻤﻜﻨﺎﺗﻪ ﻣﺤﺪّﺩﺓ ﺑﻌﻼﻗﺔ ﺍﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﺍﻟﻤﺘﺒﺎﺩﻝ ﺑﻴﻦ ﺷﺮﻃﻴﻬﺎ (ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲّ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻲّ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲّ) ﻭﺍﻟﺘﻲ لم ﺗﻔضِ حتّى ما قبل الثورة ﺇﻻ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺮﺍﻭﺣﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥ ﻭﺍﻟﺪﻭﺭﺍﻥ على ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻭﺍﻟﺘﺄﺧّﺮ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﺼﺮ.
ﻟﺬﻟﻚ كان ضروريّاً أن يمارس اﻟﺤﺰﺏ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻭﻓﻖ ﻣﺴﺘﻮﻳﻴﻦ، ﺍﻷﻭﻝ ﻓﻲ ﺃﻛﺜﺮ ﺃﺑﻌﺎﺩﻫﺎ ﺗﺄﺳﻴﺴﻴّﺔ، ﻓﻲ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺗﻌﺒﻴﺮﺍً ﻋﻤﻠﻴّﺎً ﻭﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴّﺎً ﻋﻦ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ، ليعمل من أجل ﺍﻟﺘﺄﺳﻴﺲ ﻟﻨﻈﺎﻡ ﻣﻌﺮﻓﻲّ ﺟﺪﻳﺪ ﻭﺛﻘﺎﻓﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﺮﻛﺰﻫﺎ ﻭﻫﺪﻓﻬﺎ ﻭﻣﺤﺪِّﺩﻫﺎ ﺍﻷﻫﻢّ، ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺤﺮّ ﺫﻭ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺍﻟﺤﺮّ.
ﻭﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﺣﻴﺚ ﻳﻤﺎﺭﺳﻬﺎ ﺑﺎﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﻤﺒﺎﺷﺮ ﻟﻠﻜﻠﻤﺔ، ﻓﻴﻌﺎﺭﺽ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲّ ﺍﻟﻤﺴﺘﺒﺪّ ويدعم الثورة السّوريّة دعماً مطلقاً. فالنظام السّوريّ، كما رصد الحزب، هو ﺍﻟﻤُﻨﺘَﺞُ ﺍﻟﻤﺒﺎﺷﺮ ﻟﻠﻘﻤﻊ ﻭﺍﻟﻔﻘﺮ ﻭﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﻭﺍﻧﺘﻬﺎﻙ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﻟﻌﻤﻮﻡ ﺍﻟﺪﻣﺎﺭ ﺍﻟﺤﺎﺻﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﺩ، وهو الذي ﺠﻬﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻔﺎﻅ على ﺍﻟﺸﺮﻭﻁ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴّﺔ ﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻴّﺔ القروسطيّة ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺪﻳﻦ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﻟﻔﻀﻞ ﻟﻮﺟﻮﺩﻩ واستمرار تسيُّدِه الحال السّوريّ، بل وتجذّره في الحياة السّوريّة إلى الدرجة التي تبدّت منذ أكثر من عامين ونصف من عمر الحراك السّوريّ.
لقد خلص حزب الحداثة والديمقراطيّة من تحليله للواقع عبر النظر إليه من مواقع وزوايا متعدّدة، أنّ النظام السّوريّ هو من أشرَفَ على السير بالمجتمع السّوريّ عكس التنوير الذي يحتاجه، برعايته ودعمه للمنابر التقليديّة الدينيّة (المدرسة البوطيّة – القبيسيّات...الخ) وبضبطه وتحكّمه بالخطاب الدينيّ كما تروّج له آلاف المساجد والمنابر الدينيّة الإعلاميّة، وهو من وظّف العامل الدينيّ من أجل إحكام قبضته على البلاد مستغلًّا المخيال الجماعيّ الدينيّ المؤسّس للذّات الطائفيّة، المليء بالهواجس والمواقف المتخوّفة والمتربّصة بالآخر، لا سيّما للبيئة المذهبيّة التي ينحدر منها، في بناء منظومته الأمنيّة والعسكريّة وهيكلة الدولة على قدّه الأمنيّ والسلطويّ. ليترافق ذلك مع منعه العمل السياسيّ والمدنيّ الذي يكاد يكون الجسر الأهمّ لعبور خنادق الطائفيّة وتجاوز ألغامها.
إنّ إسقاط النظام السّوريّ المستبدّ يشكّل من وجهة نظر حزب الحداثة كسراً للإغلاق الحاصل في هيئة أزمة الوجود السّوريّ الدائريّة، والمقدّمة الحتميّة لتوليد عالم الحداثة العقليّة في البلاد ولنقل سوريّة إلى شرط سياسيّ وإنسانيّ جديد، كيف لا وهو الجهة التي تتحمّل مسؤوليّة تقويض البعد ﺍﻟﺠﺪﻟﻲّ ﻟﺼﻴﺮﻭﺭﺓ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺻﻮﺏ ﺍﻟﺘﻘﺪّﻡ ﻭﺍﻟﺘﺠﺎﻭﺯ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲّ ﻟﻠﺸﺮﻁ ﺍﻟﻘﺮﻭوﺳﻄﻲّ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﻳّا، بفرضه لونه الفكريّ والسياسيّ والثقافيّ بُعداً وحيداً للواقع والحياة العامّة وتعويقه لكلّ خطّ أو تيّار آخر عن التعبير عن نفسه وعن اختبار كفاءته وملاءمته للوفاء بمتطلّبات الواقع، معطّلاً جدليّة صراع الأفكار الاجتماعيّ التي تشكّل ديناميّة التجديد والتطوّر الطبيعيّ في أيّ مجتمع.
إنّ المرحلة الأسديّة في سوريّا، كما يرى الحزب، هي التي حوّلت جريان الحياة العامّة وغليانها بعوامل الحركة وإرهاصات التجاوز إلى مستنقع آسن جرى بشكل منهجيّ تشويه الوعي به لدى السوريين ليقدّم بوصفه استقراراً وأماناّ، وما هو إلا فوات ومَوَات أرادت الأسديّة في سوريّا أن تفرّغ به مقوّمات وﺧﺼﺎﺋﺺ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﺴّﻮﺭﻱّ إلا من تلك التي تلبّي متطلّبات بقائها مستبدّة على الواقع والحياة السّوريّة.
ﺇﻥّ ﺍﻟﻌﻤﻞ على ﺑﻌﺪﻱ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻫﺬﻳﻦ، ﺍﻟﺘﺄﺳﻴﺴﻲّ ﻭﺍﻟﻤﺒﺎﺷﺮ، ﻳﺤﻘﻖ ﻣﻨﺎﻫﻀﺔ ﺍﻟﺸﺮﻃﻴﻦ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲّ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﻲّ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲّ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺫﺍﺗﻪ، ﻭﻳﻠﺨّﺺ ﺃﻫﻢّ ﺭﻫﺎﻧﺎﺕ ﺤﺰﺏ الحداثة ﻭﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴّﺔ.
لا يمكن القول فقط بوجود تقاطعات أو اتّساقات نظريّة بين حزب الحداثة والديمقراطيّة وبين الأوجلانيّة الفلسفيّة والسياسيّة، بل هي توافقات وانسجام نظريّ عميق، بحيث لا يُعتبر القول بأنّ الأوجلانيّة تشكّل أحد أهمّ مصادر حزب الحداثة الفكريّة والفلسفيّة، مبالغة أبداً. فالحداثة البديلة – الأوجلانيّة – بوصفها الحلّ لقضايا الشرق الأوسط هي ذاتها الحداثة المتلازمة مع الديمقراطيّة التي يتحدّث عنها حزب الحداثة والديمقراطيّة، لذلك فإنّ رهانات حزبنا على مشروع الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة ودعمه والمشاركة فيه لم تكن يوماً لتنضوي ضمن إطار توظيف براغماتيّ لواقع يجري الاستفادة منه من قبل الحزب، وإنّما موقفاً طبيعيّاً يستند إلى العلاقة العضويّة بين مشروعه وبين النظريّة الأوجلانيّة ورهاناتها الفلسفيّة والسياسيّة.


– ماذا عن الانتصار الذي حققته وحدات حماية الشعب والمرأة في الحسكة ضدّ قوات النظام التي اعتدت على المدنيين ولجأت إلى قصف المدينة، كيف تقيّمون ذلك من وجهة نظركم؟

لا شكّ أنّ هذا الانتصار كان نتيجة لتضحيات كبيرة وجهد دؤوب ينشد إلى قيم عالية لطالما شكّلت السقف الأخلاقيّ والسياسي لأداء وحدات حماية الشعب والمرأة في الحسكة وفي كافة المناطق التي حرّرتها من إجرام النظام وداعش، اللذين وإن يبدوان مختلفين إلا أنّهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة. أعتقد أنّ النظام بات يعلم تماماً، أنّه لا يمكن العودة بواقع روج آفا وشمال سوريّا الحالي إلى الوراء أبداً. هذا الواقع الذي يشهد استنباتاً رائعاً لقيم العيش المشترك وديمقراطية يجري خلقها وتجذيرها وتكريسها كأسلوب حياة وتفاعل بين كافة مكوّنات المنطقة، وذلك بالذّات هو الذي ما انفكّ نظام الأسديّة في سوريّا يعمل بالضدّ منه طوال عقود.

– احتلّت تركيّا مدينة جرابلس وقصفت مواقع لقوّات سوريّا الديمقراطيّة في شمال منبج واغتالت القائد العسكريّ لمجلس جرابلس العسكريّ بعد ساعات من تشكيله، في محاولة لمنع قوات سوريّا الديمقراطيّة من تحرير المدينة، كيف ترون هذه التطوّرات السريعة في منطقة جرابلس؟

أعتقد أنّ وجه تركيّا العدالة والتنمية وموقفها من قضايا الحرّيّة وحقوق الإنسان ومن قضيّة ثورة الشعب السّوريّ على الاستبداد، بات مكشوفاً أكثر من أيّ وقت مضى، لقد ظهر تهافت هذا الموقف وزيفه وسقطت الحجُب الكثيرة التي كانت تخفي ذاك الوجه لدى غالبيّة الشعب السّوريّ.
فالتقارب التركيّ مع النظام الذي قصف بطائراته حلب وحمص والحسكة ومعظم أنحاء البلاد ولم يتورّع عن قتل عشرات الآلاف من المدنيين بدم باردٍ، لم يعد في حيّز التكهّنات والتحليلات، بل بات واقعاً يضجّ بالآثار والرسائل. وليس التقاطع الزمنيّ بين قصف النظام للحسكة ودخول القوّات التركيّة إلى جرابلس وما ترافق في الحالتين من أحداث وتصريحات جاءت من طرفي النظام وتركيا إلا دلالات إضافيّة على ذلك.
فتركيّا التي لم تحرّك ساكناً ولم تقدّم سوى تصريحات مجانيّة حين تهدّمت حمص وحلب ومدن سوريّة عديدة على رؤوس أهلها، خلافاً لإعلان أردوغان الشهير بأنّه لن يسمح بحماه ثانية في سوريّا، وتركيّا التي لم يردعها مُصاب الشعب السّوريّ وآلامه الكارثيّة عن أن تتّخذ من ورقة لجوء السوريين إلى أوروبا انطلاقاً من أراضيها وسيلة ضغط وابتزاز لتحصيل مكاسب سياسيّة واقتصاديّة، وتركيّا التي قتلت بالرصاص مؤخّراً عشرات السوريين الهاربين من جحيم حرب النظام على شعبه ومن جرائم التكفيريين المروّعة ومنعتهم من دخول حدودها المغلقة، تحرّكت فقط وتدخّلت في جرابلس كي تمنع قوّات سوريّا الديمقراطيّة من تحقيق مشروع مساواة وعدالة وحرّيّة يعمّ بين العرب والكرد وكافة المكوّنات السّوريّة.
إنّها تُصاب بالذعر لأيّة إرهاصات تجعل الكرد يعيشون بعدالة ومساواة جنباً إلى جنب مع إخوتهم من الإثنيات الأخرى في المنطقة. وتخاف من مشروع الأمّة الديمقراطيّة الذي ما إن يتأكّد نجاحه في شمال سوريّا (وهو ما يحصل بالفعل) حتّى يبدّد مزاعمها واتّهاماتها إزاء الكرد، الذين سيَعرف العالم حقيقتهم، بأنّهم دعاة سلام واستقرار وحرّيّة في تركيّا كما في عموم الشرق الأوسط.
بالنسبة لحزبنا، حين يتعاطى أردوغان مع أيّ شأن ذي علاقة بالكرد لا أستطيع أن أرى فيه حتّى الآن إلا مستبدّاً من طراز الأسديّة ومنسجماً معها إلى حدّ بعيد. وها هو ينفتح على بشّار الأسد واضعاً نصب عينه المشترك بينهما وهو عداء الكرد، وتحت ضغط الخوف من الحرّيّة حين يكون رائدها كرديّ...!!

– ماذا عن زيارتكم الأولى لروج آفا ومؤسّساتها، كيف تقيّمونها، وعلى ماذا تركّزت لقاءاتكم؟

كانت زيارتي هي الأولى للبلاد منذ أكثر من ستة عشر عاماً، إثر النفي القسريّ الذي كنت أعيشه منذ عام 2001 في ألمانيا، فبحكم كوني معارضاً للنظام البعثيّ الديكتاتوريّ، كنت ملاحقاً ومطلوباً إليه. اللحظات الأولى لوصولي كانت مليئة بالمشاعر الكثيفة، مزيجاً صعباً ومركّباً، من الحزن والفرح والتساؤل والدهشة والأمل الكبير. كان الشوق مُوجعاً لي إلى حدّ بعيد وأنا أعيش قهر الغربة القسريّة طوال هذه السنين الطويلة والصعبة.
يكاد المرء لا يتعرّف على نفسه ويفقد حدود ذاته حينما يُقتلع من جذوره، ويرمى في عالم جديد تماماً، كلّ إيقاعاته مختلفة، اللغة والحياة والأشياء والألوان كلّها غريبة. لكني حينما وصلت، انتهى كلّ شيء فجأة، أصبحت أخيراً في حضن الوطن البعيد الذي كان عصيّاً على الحياة فيه لسنين طويلة بالنسبة لي. لكنّي لا أنكر أنني احتجت لبعض الوقت حتّى آلف الأماكن والطرقات بتعبها وحكاياتها. أحسست أنّ المستبدّين إلى سقوط أيّاً تكن حجم الأوجاع التي يلحقونها بالبشر، وأنني حرّ بحقّ في بلاد كانت أسيرة الاستبداد طوال عقود.
كم كانت هذه المشاعر عظيمة وذات أثر لن يمحى من داخلي بسهولة. الغريب أنّني من فرط الانفعال الوجدانيّ الذي سكنني، لم أكن أرى أحداً في روج آفا ــ شمال سوريّا إلا وظننت أنّي أعرفه أو أنني قد رأيته قبل ذلك، حتّى الناس في الشوارع والساحات، كأنّني أعرفهم جميعاً.
قبل أن أصل إلى هنا، كنت أرجّح أنّ وضع مدن وبلدات الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة سيكون صعباً جدّاً وأنّ حركتي ستكون خطرة وأنّ أهلنا لا يعيشون فيها حياة طبيعيّة. لكن المفاجأة كانت أنّ كلّ شيء كان أفضل مما توقّعت بكثير.
لذلك كان مهمّاً لي أن أتعرّف على مؤسّسات الإدارة الذاتيّة التي نهضت بواقع المنطقة بهذا الشكل المدهش، فزرت غالبية مؤسّساتها واطّلعت بشكل تفصيليّ على تجربتها وعملها والتحدّيات التي لا زالت تواجهها.
– خلال زيارتكم لمقاطعة الجزيرة كيف وجدتم تجربة الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة، وكيف ترون مشروع النظام الفيدراليّ المطروح حاليّاً في روج آفا وشمال سوريّا، وما هو موقف حزبكم الرسميّ من ذلك، وماذا عن إمكانيّة تطبيق النظام الفيدراليّ في عموم المناطق السّوريّة؟
وجدت أنّها صالحة تماماً لتحتلّ موقع الأنموذج الذي ينبغي الاقتداء به في عموم البلاد، فهي تولِّد (بكسر اللام المشدّدة) الديمقراطِيّة وتسعى إلى غرسها في كافة السويّات والمناحي التي تتواجد فيها المكوّنات السّوريّة المتعدّدة وتحيا وتنشط، وخلافاً لما كنت اقرأه وأكتبه، وأختبره على مستوى النظريّة والآفاق الممكنة، شهدت بأمّ عينيّ كيف تستنبت قيم العيش المشترك هنا، كيف تكون المرأة فاعلة وخلّاقة، حاضرة في كلّ مستويات الإدارة وأشكال السلطة التي حرصت التجربة إلى توزيعها على شبكة واسعة من الفاعلين الاجتماعيين وفقاً لأسس الشرعيّة الديمقراطيّة ومقتضياتها.
بالنسبة لصيغ اللامركزيّة الديمقراطيّة التي تمثّلها أفكار الإدارة الذاتيّة، الفيدراليّة والكونفيدراليّة الديمقراطيّة، حزب الحداثة والديمقراطيّة ومنذ فترات مبكّرة نظر إلى هذه الصيغ بوصفها استجابة اجتماعيّة عمليّة للتعقّد السوسيولوجيّ في سوريّا بل وحتّى تعميقاً لممارسة الديمقراطيّة وتوزيعها على مساحات اجتماعيّة أكثر اتّساعاً بما ينسجم مع الكُنْهِ المفاهيميّ والدلاليّ للديمقراطيّة في أكثر معانيها اتّساعاً وشمولاً.

– ماذا عن الانتصارات التي حقّقتها قوّات سوريّا الديمقراطيّة في شمال سوريّا، ألا يمكن اعتبار تلك القوّات بمثابة المخلّص الوحيد للشعب السّوريّ من براثن المرتزقة والقوى المتطرّفة والشوفينية، وما موقفكم من التدخّل التركيّ العدوانيّ في شمال سوريّا؟

حقّقت قوّات سوريّا الديمقراطيّة انتصاراتٍ كبرى على أكثر التجسّدات الخطرة للقوى الظلاميّة التي توالت في الظهور طوال التاريخ الإسلاميّ، أقصد تنظيم داعش الإرهابيّ. الانتصار هنا لم يكن على تنظيم داعش فحسب، بل على الثقافة التي يمثّلها، على الموقف القروسطيّ من مشكلة المعرفة في أكثر أشكاله تفجّراً وخرافيّة، كانت انتصارات استراتيجية حقّقتها ثقافة الحياة والإنسان في مواجهة ثقافة الموت والمافوق والماوراء، انتصارات على كافة أشكال الاستبداد وأخطرها على الإطلاق. كانت فعلاً لا قولاً، انتصاراً لإرادة الناس المتطلّعة للديمقراطيّة واحترام حقوق الإنسان، للعدالة والحداثة البديلة المتلازمة مع الديمقراطيّة، تلك التي طالما نظر لها المناضل عبد الله أوجلان، ويتّخذها حزبنا عنواناً يدلّ على مكنونه النظريّ وخطابه المعرفيّ والسياسيّ.
لكلّ ذلك كان من الطبيعيّ أن تشكّل هذه الانتصارات كشفاً حقيقيّاً لمواقف الدول الإقليميّة المحيطة بالبلاد، وفي هذا السياق جاء التدخّل التركيّ العدوانيّ على حلم السوريين والمشروع الذي يشكّل الخلاص لمستقبلهم، هذا التدخّل الذي لم يكن للقضاء على تنظيم داعش، وهو ما كان يحصل بالفعل على أيدي قوّات سوريّا الديمقراطيّة، بل كان في جوهره محكوماً إلى تاريخ طويل من عداء الدولة التركيّة الكماليّة المولعة بالمركزيّة المتزمّتة والصلدة، عداؤها لثقافة الفيدراليّة والكونفيدراليّة الديمقراطيّة التي تشكّل في الحقيقة الحلّ الأمثل لنموذج الوطن المتعدّد الذي تتساوى فيه جميع المكوّنات في الحقوق والواجبات والذي يجري فيه الاعتراف العميق بالهويّة واللغة والثقافة والتراث والشخصيّة الإثنيّة في أكثر وجوهها ألقاً، ودون أيّ شبهة فاشيّة أو طغيانيّة. بهذا المعنى، كان التدخّل التركيّ في الواقع لا يخدم إلا أهدافاً تركيّة ولا يشكّل إلا استطالات للعُقَد والحساسيّات الطغيانيّة التركيّة ولأشكال استبدادها ضدّ الشعب الكرديّ الذي يحتلّ في تجربة الإدارة الذاتيّة وفي قوّات سوريّا الديمقراطيّة موقع الريادة والفعل الخلّاق.
وبهذا المعنى بالضبط وكما تحدّد العلوم السياسيّة الفارق بين المحتلّ وبين سواه، يرى حزب الحداثة والديمقراطيّة في سوريّا التدخّل التركيّ احتلالاً مكتمل الأركان لا يصبّ في مصلحة الشعب السّوريّ، بل يهدف إلى لجم قوى المناعة الذاتيّة فيه التي تعمل من أجل مستقبل الحرّيّة والكرامة والتحقّق لمختلف مكوّنات الشعب السّوريّ.

– كيف تقيّمون عمل الزاعمين على أنّهم "المعارضة" والمتمثّلة بالائتلاف السّوريّ، وهل تعتقد أنّهم يمتلكون أيّ برامج أو رؤى عمليّة لحلّ الأزمة السّوريّة، أم أنّهم مجرّد أدوات بيد الدول الإقليميّة وخاصّة تركيّا، وماذا عن مفاوضات جنيف، هل ستكون هناك جولات أخرى، وهل تعتقد أنّه سيُنتج أيّة حلول في ظلّ استبعاد ممثّلي الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة وممثّلي مكوّنات روج آفا وشمال سوريّا؟

حسناً فعلت أن وصفتهم بالزاعمين على أنّهم المعارضة، فهم يقولون عن أنفسهم إنّهم معارضون للنظام، لكنّني أراهم لا يختلفون عنه إلا في التفاصيل وإنّ الوجهة المعرفيّة لكليهما واحدة، فالبناء الأيديولوجيّ لجميعهم يشترك مع حزب البعث في افتراقه العضويّ عن الديمقراطيّة في معناها السائد والمنتصر منذ سقوط المنظومة الاشتراكيّة، والحقبة التي تعرّف "المعارضون" التقليديّون فيها على السياسة والتنظيمات الحزبيّة هي ذاتها التي شهدت ظهور البعث الشوفينيّ، حيث كانت تفيض أدلجة ودوغمائيّة وانسداداً وعدائيّةً لكلّ آخر.
بهذا المعنى لو قدّر لأيّ من هؤلاء أن يكون بدلاً عن الأسد الابن أو الأسد الأب، لما كانوا أقلّ دكتاتوريّة وربّما لم يكونوا أقلّ دمويّة أيضاً. أمّا بالنسبة للوافدين الجدد إلى هذه "المعارضة"، فهم مجرّد أدعياء أرادوا أن يجدوا لهم موطئ قدم في دوائر الهيمنة والسلطة التي يتوهّمون إمكانيّة حيازتها، وبالطبع على حساب دماء الشعب وخراب البلاد.
لكلّ ذلك لا يمكن لهؤلاء أن يمثّلوا شيئاً ولا يمكن أن يكون لديهم مشروع للحلّ في بلادنا. هؤلاء جزء من المشكلة وجزء من أبنيتها ودعائمها، وفي هزيمة نموذجهم كما هزيمة النظام وسقوطه ينضجُ الحلّ ويتحدّد واقعاً. أما بالنسبة لمفاوضات جنيف، أقول بالرغم من إيمان الحزب ــ حزب الحداثة والديمقراطية ــ بالحلّ السياسيّ وضرورته، تبدو أنّها عقيمة ويستبعد أن تودي إلى شيء، ليس لأنّ التجاذبات الإقليميّة والدولية لم تزل في ذروتها ولم تصل إلى أرضيّة تفاهم صلبة، وبالتالي تفاصيل تنهي الحدث السّوريّ وتوصله إلى مؤداه التاريخيّ، وليس لأنّه لم يشتمل على القوى الأكثر فعلاً على الأرض كقوى الإدارة الذاتيّة، فحسب، بل أيضاً، لأنّ النظام السّوريّ من وجهة نظر حزبنا ومن منظور جينيالوجيّ وسياسيّ/ نفسيّ، من المستبعد أن يتخلّى عن هيمنته وعلاقته المشوّهة مع وظيفة السلطة، وفقاً لمسار سياسيّ أيّاً يكن هذا المسار طويلاً ويتضمّن وجوده فيه. الأسديّة في سوريّا كما الصدّامية في العراق سابقاً، لا يطيح بها إلا العنف الذي أوصلها إلى سدّة السلطة، وكما أنّ صدّام حسين ومعمّر القذّافيّ في ليبيا قاتلا حتى آخر نفس دفاعاً عن إجرامهما وديكتاتوريّتهما وتسلّطهما، هكذا سيفعل الدكتاتور المجرم بشّار الأسد الذي اعتقل وقتل وشرّد الملايين من شعبه، سيواصل المماطلة والتسويف وخلق التعقيدات في أيّ عمليّة مفاوضات جارية في جنيف أو في غيرها، وحتّى لو نضجت كلّ الظروف وتخلّى الروس والإيرانيّون عنه، وهو ما يبدو صعب المنال حتّى الآن، لن يتخلّى بشّار الأسد عن السلطة إلا معتقلاً أو صريعاً. هذا هو الاستبداد القوميّ الفاشيّ الذي مثّلته الأسديّة والصدامية وهذا ديدنها وهذه طبيعتها.

– ماذا عن رؤيتكم للانقلاب الحاصل في تركيّا، وكذلك التقارب الروسيّ التركيّ، وكيف يمكن أن يؤثّر ذلك على الملفّ السّوريّ؟

لست ميّالاً إلى نظريّة المؤامرة في تحليل أيّ ظاهرة أو حدث سياسيّ طارئ حتّى ولو كان خارجاً على المسارات العاديّة والسياقات الطبيعيّة للأحداث. الواقع، لا سيّما السياسيّ الاجتماعيّ منه، معقّد جدّاً ولا يقدّم نفسه بسهولة، وكذا الصورة التركيّة الداخليّة مختلطة وصعبة، ولعلّ من أكثر التعابير والآثار الدالة على هذه الصعوبة وذلك الاختلاط في الوضع التركيّ هو الانقلاب الأخير الذي حصل في هذا البلد، ما يهمّني التأكيد عليه أنّ حزب الحداثة يرفض أيّ انقلاب عسكريّ يحدث في أيّ بلد، ويطيح بأيّ شكل ديمقراطيّ فيها، حتّى ولو كان ناقصاً ومشوّهاً، كما هو الحال في النظام التركيّ.
على أنّ المثير في تداعيات الانقلاب وما له عميق الدلالة تالياً، هو عمليّة التطهير الواسعة والمذهلة في حجمها التي طالت خصوم أردوغان، والتي لا تتشابه في التاريخ الحديث إلا مع تلك التي أطلقتها النازيّة بعد حريق الرايخستاغ في 27 – 02 – 1933، وهي الواقعة التي استغلّها أدولف هتلر الذي وصل من خلال صناديق الاقتراع، ذريعة للتخلّص من خصومه والتحوّل صوب استبداد داخليّ عمّ الدولة الألمانيّة آنذاك، لكنّه حمل في داخله قدرات تدميريّة كبرى هدّدت الكون السياسيّ والبشريّ بأكمله.
أمّا بالنسبة للتقارب الروسيّ التركيّ، فأرى أنّه خلط الأوراق بشدّة من جديد وباتت مصفوفة العلاقات الإقليميّة وتداعياتها المحليّة في طور الهيكلة الجديدة، بما لا يعني أنّ إعادة الهيكلة من جديد تعني بالضرورة تغيير مواقع القوى الإقليميّة والفاعل الدوليّ، إلى درجة التناقض أو الانعطاف. على أنّ المهمّ بالنسبة لحزب الحداثة هو أن تستمرّ تجربة الإدارة الذاتيّة في المضيّ قُدُماً لتحقيق مزيد من النجاحات، آخذة بعين الاعتبار هذه التطوّرات التي قد تقتضي تبدّلات كثيرة ومهمّة في أشكال التعاطي والمقاربات للإدارة مع الحيثيّات المستجدّة وما تطرحه من تحدّيات وأسئلة جديدة وربّما عقبات لا حلّ ممكن لها إلا في تجاوزها وتلافي سلبيّاتها.

– في ختام حوارنا، كيف ترون مستقبل سوريّا، وماذا توجّهون للشعوب والمكوّنات السّوريّة؟

أبداً لا أقول ما سأقوله، من قبيل التفاؤل المفرط والساذج، بل من مراقبة حركة التاريخ، والنظر مليّاً إلى مآلات وتجارب الشعوب وصراعاتها مع الاستبداد: إنّنا محكومون بالحرّيّة، فهي قدرنا النهائيّ وإنّ الديمقراطيّة في أقصى أشكالها تجذّراً وشموليّة واتّساعاً وانسجاماً ستتمّ في بلادنا هدياً بأنموذج الفيدراليّة والكونفيدراليّة الديمقراطيّة والأمّة الديمقراطيّة، وإنّ كلّ بديلٍ يستهدف النيل من كرامة البشر ومن الاعتراف بهويّتهم، ومن قيم العيش المشترك بين مختلف المكوّنات في بلادنا، ومن ثقافة حقوق الإنسان ومن الديمقراطيّة والحداثة البديلة المتلازمة مع الديمقراطيّة لا بدّ سيسقط.
وليس على السوريين من كافة المكوّنات إلا أن يثقوا أنّ القوى الحيّة القائمة على تجربة الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة التي تعدّ مع أهلها لفيدراليّة ديمقراطيّة، ستكون أنموذجاً حيّاً للحرّيّة والعدالة والمساواة في روج آفا وشمال سوريّا، وإنّ هذه القوى هي التي تمثّل أحلامهم وتطلّعاتهم وتحمّلها بكلّ أمانة وفاعليّة، ولا مفرّ من الالتفاف حولها، من نقدها بمسؤوليّة ودعمها والمشاركة في مؤسّساتها وفاعليّاتها والدفاع عمّا حقّقته من مكاسب لنا جميعاً.
ولكم كلّ الثقة والشكر.

أجرى الحوار: دلشاد مراد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بشكل طريف فهد يفشل في معرفة مثل مصري ????


.. إسرائيل وإيران.. الضربات كشفت حقيقة قدرات الجيشين




.. سيناريو يوم القيامة النووي.. بين إيران وإسرائيل | #ملف_اليوم


.. المدفعية الإسرائيلية تطلق قذائف من الجليل الأعلى على محيط بل




.. كتائب القسام تستهدف جرافة عسكرية بقذيفة -الياسين 105- وسط قط