الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البساطة قرين الفن في القصة القصيرة بعنوان - دميتي - للأديبة / انعام القرشي

محسن الطوخي

2016 / 10 / 13
الادب والفن


أروع النصوص فى تاريخ القصة القصيرة هى أبسطها. فهى الأقدر على توصيل التجربة الإنسانية, ودفع المتلقى إلى الانفعال والتعايش معها. استطاعت الكاتبة في القصة القصيرة بعنوان " دميتي " أن تقدم تجربة إنسانية غاية فى العذوبة من خلال مشهد من صميم الحياة يخلو من التعقيد والتركيب, ومع ذلك يملك مستويات متعددة من التأويل, فيمكنك ببساطة الاكتفاء بالقصة العذبة للصبية التى افتقدت دميتها بحلول العام الدراسى, إذ يقوم الأهل بالتخلص من كل مامن شأنه إلهاء الصبية عن الاستذكار والحفظ. والعلاقة بين الصبية ودميتها المصنوعة من بقايا الأقمشة تكاد ترقى إلى علاقة إنسانية تمنح الجماد ملمح انسانى عذب. وهو مالم يكن يتأتى لولا المعايشة والتقمص اللذان برعت فيهما الكاتبة. واللقاء بين الصبية وبين دميتها حيث تخلصت منها الأم بقرب مكب النفايات هو لقاء مؤثر يثير الشجون, فالأم الحريصة على مستقل الإبنة لم تنتبه إلى أنها تقتلع جزءً شديد الحميمية من الصبية لتى لم تجرؤ على التعبير عن افتقادها للدمية.
نجحت الكاتبة ببراعة فى رفع درجة التوتر لدى المستقبل بتصويرها للحظة التى تعثر فيها الصبية على الدمية.. " سمعت أنينها المخنوق تحت كومة من ألعاب ..... " .. وهنا تكمن البراعة فى نقل حالة التقمص والمعايشة إلى القارىء . فعالم الطفل فى حقيقته هو عالم مواز مضفور من الأخيلة والصور, يدفع القلق - من ردة فعل الأم - الصبية إلى ترك الدمية فى مكانها حيث عثرت عليها وهى تهمس لها بأن موعدهما الصيف القادم, كأنما تمدها بزاد نفسى يعينها على الانتظار. وهى فى الحقيقة إنما تقصد أن تمد نفسها بهذا الزاد. أما الخاتمة فهى دليل آخر على مدى وعى الكاتبة ومهارتها فى إنتاج أعلى شحنة ممكنة من التأثير, ففى اللحظة التى تنتبه فيها الصبية إلى المكان الذى يجب أن تحتله دميتها الأثيرة فوق رفوف الخزانة بجوار الدميتين الشقراء والسمراء, يكون الأوان قد فات. فما وضعت الأم الدمية القماشية بجوار مكب النفايات إلا توطئة للتخلص منها ضمن القمامة بالحرق.
والنص رغم اكتفائه بالتيمة القصصية الناجحة يتضمن رسائل جانبية لا يمكن إغفالها. فالصبية التى يتوفر لديها خلال إجازة الصيف مجموعة متنوعة من الدمى واللعب, تميل إلى الدمية البدائية المصنوعة بيدى امها من بقايا الأقمشة البالية, وتفضلها على الدميتين الشقراء والسمراء. وهى تسميها "العروس" بما فى اللفظ من حميمية وارتباط لا تجدهما فى لفظ "الدمية", وهى رسالة تشير إلى الأصالة والتفرد الذى تتمتع به الدمية المصنوعة يدويا, إذ تكتسب شخصية متفردة بطابعها الخاص الذى لا يشبهها فيه أى منتج مماثل.
والأسلوب الفنى الراقى الذى عبرت به الكاتبة عن المعنى يدل على ارتقاء حاستها الفنية. فالطفلة فى النص تشم رائحة الطحين كلما ضمت العروس إلى صدرها, ورائحة الطحين هى المعادل لرائحة الأم التى تصنع كل شىء فى حياة الأسرة. الخبز, والثياب, والفرح, والحكايات. والمقارنة الفجة بين العناية بالدمى المصنوعة آليا ببهرجتها, وبين الإهمال الذى عوملت به الدمية ذات الأصالة يعبر عن منهجية سلبية نتعامل بها مع الأشياء. حتى لقد انحسرت أو كادت الأصالة فى المنتجات والمصنوعات لصالح منتجات متشابهة لا شخصية لها ولا تفرد.
كما يتضمن النص أيضا رسالة تربوية تعبر عن الانفصام بين الآباء والأبناء فيما يتعلق بالجانب النفسى, فالتواصل متوفر على المستوى المادى كتوفير الاحتياجات المادية كالمأكل والملبس والدرس, لكن البعد النفسى مفقود بحيث لا تفطن الأم إلى الأذى النفسى الذى تلحقه بالصبية, إذ تهمل دلالة الارتباط النفسى بينها وبين دميتها, ولا شك فى أن القارىء استطاع أن يرصد بسهولة مدى الأذى والضرر النفسى الذى حاق بالصبية من المصير الذى حاق بدميتها الأثيرة, ويستطيع أيضا أن يدرك حجم الغفلة فى سلوك الأم على المستوى النفسى فى علاقتها بابنتها, وهى رسالة تربوية جديرة بالاهتمام.
محسن الطوخي
نص القصة
الدمية ذات الشعر الأشقر لأختي, والأخرى ذات الشعر الأسود لي, لكنني كنت أحب "لعبة العروس" التي كانت تصنعها أمي من بقايا الأقمشة، فترسم لها عينين واسعتين بالكحل الأسود، وفماً صغيراً بأحمر الشفاه.
كنت أشتمّ رائحة الطحين كلما ضممتها إلى صدري. فلقد كانت أمي تصنع كل شيء في حياتنا, الخبز, الثياب,الفرح, الحكايات, الدمىووالأمان.
باختصار, تصنع الحياة.
أعلَنَتْ أجراس المدارس النفير, أصدرت الأمهات الأوامر؛ فاختفت جميع الألعاب. إنها بداية العام الدراسي الجديد.
تناسيتها يوماً , يومين. لكن حنيني إليها لم يفارقني, أخذتُ أبحث عنها, رغم أنني كنت أدرك بأنها اختفت مع بقايا أمنياتي الصغيرة في ركنٍ ما من أركان البيت.
لم أجرؤ على أن أسأل أمي عن تلك "العروس" التي صنعتها لي بيديها اللتين أخفتها عني بهما.
تملّكني هاجس البحث عنها في كل مكان, فعلْتُ ذلك دون كلل إلى أن سَمِعْتُ أنينها المخنوق تحت كومةٍ من ألعابٍ محطمة وممزقة، هناك.. في مستودعٍ صغير بالقرب من مكان تجميع القمامة. عثر عليها حارس العمارة، متسخة, مجروحة، وحزينة, بعد أن امتزج اللون الأسود في وجهها بالأحمر. فتغيرت ملامحها, ولم تعد سوى إحدى المخلّفات المهملة.
اعتذَرْتُ لها, نَفَضْتُ ما علق بها من غبار, وهمست بأذنها أنني سألقاها في الصيف القادم, ثم وضعتها بجانب الأخريات بعناية، وعيناي لا تفارقانها.
عُدْتُ إلى البيت وأنا لا أعي ما هو الشيء الذي يؤلمني في صدري, بلا شكوى. فكيف لي أن أشكو من فقدان لعبة مصنوعة من بقايا أقمشةٍ بالية ؟!.
لكنه الإحساس الآخر الجديد بفراق ما أحب من أجل من أحب.
كانت أمي مشغولةً بترتيب الكتب وإعداد الحقيبة، وكان عليّ أن أتودد لهاوأجلس بجانبها دون أن تشعر بما أشعر به.
حمَلْتُ حقيبتي، واتجهتُ إلى غرفتي. لمَحْتُ الدميتين, الشقراء والسوداء، تزيّنان رفوف الخزانة بأناقة. أصابني الهلع, وتذكّرْتُ دميتي المنسيّة.
فجأةً، قلت في نفسي:
هذا مكانها الصحيح.. هنا يجب أن تكون.
عدْتُ مسرعةً، حافيةَ القدمين، بشعري المبلّل , أكاد أتعثّر بظلّي، إلى كومة الأشياء العتيقة .لم أكن في حاجة إلى أن أبحث عنها طويلاً. فلقد كانت هناك. مع بقية الأشياء في الحاوية.. تحترق...!!
انعام القرشي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج