الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهادة تبرئة

محمد الدحاني

2016 / 10 / 17
الادب والفن


من سارتر الى سيمون
إنها ليست ترجمة لإحدى رسائل سارتر التي بعث بها ذات ليلة الى سيمون ، كما قد يبدو ذلك للقارئ الكريم من خلال العنوان، وإنما هي قصة حقيقية تستمد أحداثها من نسيج خيال شخص متأثر بسارتر، وبفلسفته الوجودية، ونتيجة هذا اعتقد باعتقاده، وزاد هذا التأثر بعمق حين أراد أن يعيش نسخة مشابهة لحياة سارتر العاطفية، ربما هذا ما يمكن أن نسميه بالتقليد الأعمى، أو التنميط الذي يمارسه الفيلسوف على تلميذه في المراحل الأولى قبل أن يعلمه دروس آليات التفلسف، وحبذا لو كل واحد منا قلد فيلسوفا، وحتى وإن كان هذا التقليد أعمى، على الأقل تقليدنا للفيلسوف كان سيجنبنا كل هذه الفضاعة التي ترتكب في حق الانسان و الانسانية جمعاء، من قتل وتهجير واغتصاب للحق قبل الوطن، نهيك على المآمرات والخيانات والكذب الذي أصبح مركة مسجلة نتباهى بها. لابد أن نشير أن الملقبة بسيمون في هذه الرسالة لا تعرف سيمون، وإنما تعرف ما حدثه بها عنها هذا الذي يختبئ في جلباب سارتر. لا تعرف أن سيمون هي عاشقة سارتر الوفية، لا تعرف أن سيمون هي من قالت في كتابها الجنس الآخر أننا لا نولد نساء وإنما نصير كذلك نظرا للقيم الثقافية التي تسود في مجتمعنا والتي تعتمد على الفصل بين الجنسين والتي تجعل من الذكر رجل ومن الأنثى امرأة"، وهذا الاكتشاف يشكل ثورة عنيفة في العلوم الإنسانية هذا إذ لم نقل أن هذا الاكتشاف يشكل جرحا نرجيسيا غائرا في تاريخ البشرية، لا يساويه سوى الجرح الذي سببه كوبرنيك باكتشافه مركزية الكون في الشمس بعدما ساد الاعتقاد في الأرض، وكذلك الذي سببه داروين حين اكتشف أن الانسان مولود من القردة، والجرح الذي سببه فرويد حين اكتشف أن الوعي يقوم على اللاوعي وأخيرا الجرح الذي سببه ماركس في نظرية الانعكاس، أي أن الواقع الاجتماعي هو الذي يشكل وعي الانسان وليس العكس. هذه الجروح ستظل موشومة في ذاكرة الإنسانية، كما أنها زلزلت وخلخلت البنيات الفكرية والاعتقادية والثقافية للإنسان. ومن البديهي أن يعترض القراء على ألا يلقب صديقنا رفيقه بسيمون، وهي التي لا تعرفها كما أسلفنا الذكر، بل ولم تقرأ لها، وتجهل هذا الجرح الذي أحدثته...صديقنا يقول هذا اللقب هو هبة منه لها كدليل على حبه وكرمه.
من المعروف أن سارتر كان دائما يفتتح رسائله إما بعزيزتي أو صغيرتي، وهما لفظا يشيران الى شدة الحب والدلل الذي يمنحه سارتر الى حبيبته سيمون دوبوفوار. لكن صديقنا كان على عكس سارتر يفتتح رسائله برفيقتي، وكان يظن أنها أشد وقعا في قلبها، من لفظا عزيزتي وصغيرتي، لأن رفيقتي كان يقصد بها حبيبتي، صديقتي، زوجتي، أميرتي، أختي وأمي، بمعنى كان يريد أن يكون لها كل الرجال في حياتها، يكون حبيبا حين تكون في حاجة الى حنانه ولطفه، وزوجا مخلصا حين تطلب حمايته، والابن البار في الضعف، والأخ الناصح في الحيرة، والصديق الوفي في التيه، وهذا لخصه لها مرة حين قال لها: أنت عندي أحب من الحبيبة وأعز من الصديقة وأقرب من الأخت".
لازلت لم أدخل في صلب الموضوع، وكل ما تقدمت به، كان مجرد توضيح لرفع اللبس والحرج عن عنوان هذه الأسطر. وأعتقد أن هذا التأطير كان ضروريا لكي يمكننا من فهم القصة إنطلاقا من جذورها...خذوا نفسا طويلا....نبدأ القصة إذن؟.
إنه مساء يوم الخميس الذي يصادف منتصف غشت لهذه السنة 2016، هذا الشهر المعروف عالميا بالعطلة، يختلف الناس في مكان قضاء العطلة، منهم من يختار شواطئ البحار، ومنهم من يختار المنتزهات الغابوية ليختلي مع الطبيعة في جو رومانسي، ومنهم من يفضل الجبال والمناطق القروية هاربا من صخب وضجيج المدينة، ومنهم من يبحث عن العمل والعطلة غير مبرمجة أبدا في حياته ولا ترتبط بأي شهر من شهور السنة، فما قيمة العطلة إذا كان الانسان يتضور جوعا، وهذا حال بطل هذه القصة، لقد توجه الى مقهى شعبي هذا المساء، ليطالع الاعلانات التي تعلن عن الترشح للعمل داخل شركة رأسمالية أو وظيفة عمومية أو أي شيء يسمى عمل، الدخل الشهري أصبح لا يهمه، المهم أن يكون عمل؟، استعار حاسوب صديقه، فهو لا يملك لا حاسوب ولا هاتف ذكي قد يعفيه من هذه الاستعارة ويقضي له حاجته، بعد دقائق جاءته النادلة، ليس له خيارا إلا أن يطلب أرخص مشروب، نعم إنه ابريق صغير من الشاي، ثمنه 6 دراهم، ومعه طلب الرمز السري "للويفي"، حتى يتمكن من الارتباط مع شبكة ألإنترنيت. دخل مسرعا الى المواقع المتخصصة في الاعلان عن وظائف لترشيح، انتقل من موقع الى آخر ومن أخر الى آخر فلا اعلان معاذ الاعلانات السابقة التي سبقى أن تقدم بالترشيح لها، لكن لازال لم يرد عليه أبدا، قال مع نفسه: الكل في عطلة، والنظام الرأسمالي المتحكم والحاكم لا يعلم ربما أن هناك أناس لا يتذوقون العطلة ولا يعرفونها. حاول أن يضاهي الرأسمالية ويعيش هو أيضا عطلته على الشواطئ والغابات والجبال دون أن يبرح مكانه عن مقعده، إذن لتحقيق هذا عليه أن يفتح حسابه على الموقع الأزرق ويشاهد الصور التي ينشرها أصدقائه على حائطهم وهم على الشواطئ و في الغابات وعلى قمم الجبال. بعدما فتح حسابه، اتبع الخطوات الكلاسيكية التي يتبعها دائما حين دخوله للفايسبوك، أولا قبول طلبات الأصدقاء الجدد، ثانيا، الرد على الرسائل القديمة، وأخيرا تصفح الاشعارات التي على صفحته والتفاعل معها عبر التعليقات.
فجأة جاءته رسالة من سيمون تقول: أعتذر لأني لم أرد على اتصالك، وذلك لأسباب عائلية، وأضافت لقد سررت فعلا برنتك.
ابتسم أمام شاشة الحاسوب كمجنون، ثم رد قائلا: كنت أظن أنها أسباب أخرى غير عائلية، لأني سبق وتحدثت مع أمك.
أجابت: لا أقصد أمي، ولا أخواتي، ولا زوج أمي، بل أقصد عائلتي الصغيرة. أنا الآن معهم يقطنون خارج مدينتنا بحوالي 12 كيلومتر.
فجأة، خرجت من الفيسبوك، قال مع نفسه: ربما انقطعت عنها التغطية، فصديقنا ابن البادية ويعرف مشكل التغطية في البادية، يرتبط دقائق مع شبكة الإنترنيت ويغيب ساعات.
قام صديقنا بنشر الرسالة الأولى التي بعثها سارتر الى سيمون على حائط صديقته مترجمة الى العربية، وكأنه يقول لها: أنا سارتر وهذه رسالتي لك يا سيمون.
كان يريد أن يجعلها مفاجأة لها، وهو يصرح لها بحبه على حائطها وأمام كل أصدقائها بشكل ضمني، فعلا شفراتها سهلة أن تفك وتحل، لكن الجميل أنها كثيرة التأويل. وكان يريد اسعادها بهذا الاعتراف إنه جريء ولا يجد حرجا في أن يعترف بحبه بكل شجاعة، كما كان يفعل سارتر تماما.
علاقتهما تشبه علاقة الفيلسوفان العاشقين في شق منها. فعلاقة سارتر بسيمون كانت مجرد صداقة في الأول، وفي غفلة منه وقع في شباك حبها، ونفس الشيء حدث لصديقنا الملقب هنا بسارتر، لكن حض صديقنا ليس كحض سارتر، لأن سارتر بادلته صديقته الحب، ومن تم أسموا بعلاقتهم من الصداقة الى الحب، فالحب أسمى من الصداقة كما أعتقد. نعم صديقتنا لم تبادل صديقها الحب، ببساطة لأنه لم يكن سارتر، كما لم تكن هي سيمون، وكلما صرح لها بحبه، كانت ترد عليه: شكرا، أقدر حبك لي!.
مرت ساعتين على التواصل الذي دار بين سارتر وسيمون، أقصد سيمون الذي تمتلك الفيسبوك، أما سيمون الأخرى لا تملك سوى الحب والإنتاج الفكري لتنوير الإنسانية وتحقيق الخلود مع حبيبها في الدنيا قبل الآخرة، فهذه الأخيرة لا تهم، والبؤساء والمكبوتين هم من يفكرون في الآخرة. دخلت من جديد، راسلته أرجوك ألا تكرر مثل هذه المنشورات على حائطي، ألم أقل لك: أنه في صفحتي أفراد من عائلتي، وأنت تعرف أن عقليتهم تنتمي للعقل الحجري، بالإضافة أني كنت قد تعرفت قبل أيام قليلة على شخص وكنت أرغب في بناء علاقة حب معه، وأقوم بطي صفحة الماضي، فكيف شأشرح له الآن؟ وكيف سأقنعه بأني غير مرتبطة معك؟ وختمت قولها: "والله حتى عصبتيني بزاااف".
أراد أن يجب على كل أسئلتها، فإذا به يفاجئ "الكونيكسون" connexion " انقطعت، ربما بضغط الاستهلاك الذي يسببه زبناء المقهى، وهذا مألوف في كل المقاهي الشعبية. بدأ ينتظر عودة الكونكسيون، وفي هذا الانتظار يدك الأرض برجله ويميل يمينا ويسارا على كرسيه وكأنه جالس على الجمر، كان يريد أن يشرح ، يوضح و يبرر لها لماذا قام بهذا، ويمكن أن نقول كان يريد أن يدافع عن نفسه أمام هجومها عليه.
بعد مرور حوالي 15 دقيقة عادت "الكونكسيون"، هذه المدة لا يمكن قياسها مع الزمن النفسي أبدا، قد تعادل عقود أو قرون من الزمن. قرأ كل رسائلها، كان يلاحظ الغضب يتطاير من كلماتها، وكان ينقصها أن تسبه فقط كأن تقول له: أنك قليل الأدب، والسيد والدك لم يحسن تربيتك...! .
بعدما ضبط أعصابه، كتب لها فقرة تحتوي على كل الأجوبة عن أسئلتها بدأها ب: مرحبا بك رفيقتي...أتفهم غضبك، لكن أريدك أن تعلم أني كنت أريد أن اسعدك بهذه الرسالة وليس أن أغضبك، وصدق الشاعر حين قال: ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. ثم أضاف أعتذر جدا على هذا الإزعاج، وعن هذا السلوك المتهور كما يبدو لك، وأتحمل كامل مسؤوليتي فيما اقول ومستعد أن أشرح لكل من اتهمك موقفي وعلاقتي بك...أما فيما يخص الشخص الذي تريد أن تقنعه بأنك لست مرتبطة معي، لا أجد لك طريقا أقصر ومقنعا جدا غير أن تصارحيه بالحقيقة، وتقولين له: أن سارتر هذا هو صديق قديم من أيام الجامعة معجب بي، ويدعي حبه لي، لكن أنا لم أحبه ولم ابادله الحب، ولازالت علاقتنا كما كانت والتي تتجلى في الصداقة لا أقل ولا أكثر هذا من جهة.أما عن عائلتك لا يسعني إلا أن أقول لك: أن تصارحيهم بما صارحتي حبيبك فهما الأولى بالحقيقة منه، وإذا لم يصدقوا كلامك فرقم هاتفي عندك اتصلي بي أؤكد لهم قولك...وبهذا أنهى كلامه.
إنها الحقيقة، وسارتر يعرف أن الحقيقة تزعج العقلية التقليدية للمجتمع المغربي، لكن لم يكن يتوقع أبدا أن حتى عقلية سيمون تقليدية، وهي التي درست في الجامعة، وأكثر من هذا درست السوسيولوجيا، هذا العلم الحداثي، والحداثة تتأسس على الثقة، والثقة لا تجد حرجا أماما الحقيقة، بل هي مبدأها في الاستمرار. سأل نفسه، كيف لم تتأثر سيمون بما درسته؟ وما فائدة المعرفة إذ لم تتحول الى سلوك؟ وإذا لم يكن لها الجرأة في قول الحقيقة لأهلها وحبيبها فماذا يرجى منها؟ وإذا كانوا الجامعيات السوسيولوجيات لا يقدرن على النطق بالحقيقة، فماذا ننتظر من اللواتي لم يدرسن بعد، أو اللائي انقطعن عن الدراسة في سن مبكرة؟ وهل أصبح الاعتراف بالحب جريمة؟، نترك هذه الأسئلة معلقة، ونطلب من سارتر أن يحدثنا قليلا عن نفسه، وعن الأفاق التي كان يرسمها لهذا الحب وطبيعته؟
سارتر رجل حداثي، علماني، متحرر، ويسعى الى التنوير دائما، محب للفلسفة، والفضل يرجع لها في ترسيخ هذه القناعات، دين سارتر حب الانسان والإنسانية لا مقدسات له سوى الحب والحياة، سارتر عرف بوفائه لسيمون، ولم يفكر في نسيانها، وكان يردد دائما مع نفسه" النسيان أعظم خيانة"، سارتر لم يفصل بين الحب والجنس، بل كان يعتبرهما وجهين لعملة واحدة، لكن الغريب حب سيمون كان له طعم المقدسات، لم يرغب فيها ولم يشتهيها، هل هذا هو الحب العذري الذي حدثنا عنه أفلاطون؟. هذه الطبيعة الجديدة التي ميزت حب سيمون، عادت ألبسته لباسه التقليدي، وفكر أن تكون زوجته، وكأن الزوجة لا يمارس معها الجنس، إنه انفصام في شخصية سارتر كما يبدو.
أخيرا وجد نفسه تقليديا في طريقة حبه هاته، وصدق برناردشو حين قال: تعرف أنك عاشق حين تبدأ بالتصرف ضد مصلحتك الشخصية. سارتر الحداثي أرغمه الحب أن يكون تقليديا، وهنا يكمن تصرفه ضد مصلحته الشخصية وأيضا ضد قناعاته الفكرية.
سارتر هذا حاول أن يجد منفذا لورطته فقال مع نفسه: سأعيش تقليديا نظرا للظروف المحيطة بي ولكن بنفحة حداثية، أنه فعل الجبناء وتفكيرهم وهم من يخطون هذه الخطوة، وفي نظر الفيلسوف عبد الله العروي لا يمكن أن نعيش الحداثة والتقليد معا. وذلك ما نسميه "الأصالة والمعاصرة"، بل يجب القطع مع التقليد نهائيا لو كانت لنا القليل من الشجاعة. لكن نطرح السؤال كيف كان يريد سارتر أن يعيش هذا التقليد "المدمج" مع الحداثة؟.
كان يتخيل أن يتزوج سيمون، ويرافقها في مساء كل فصل الصيف والخريف الى شاطئ البحر، ويسابقها على رماله في جو رمانسي هادئ، كان يتخيل أنه سيستيقض باكرا كل صباح ويأخذ حمامه ويعد فطوره، ومعه يعد لها فطورها، ويعود اليها للفراش ويزرع قبلة على جبينها ويذهب للعمل دون أن يقضها. كان يتخيل نفسه عائدا من العمل ورجله تسابق الرياح شوقا لرؤية حبيبته، فتستقبله على باب المنزل مبتسمة ويزرع على خدودها قبلتين ويقول لها: أحبك أميرتي. كان يتخيل في كل مناسبة أن يكتب لها قصيدة أو نص نثري ولا ينشره نكاية في كل الهداية، لأن الهداية مهما كانت نادرة فهي متعددة، أما كتابته وابدعاته فهي وحيدة ولا يمكن أن تكون لها نسخة ثانية....وأمام كل هذه التخيلات الجميلة وغيرها ما يثير العجب في شخص سارتر، أنه كان يتخيل أيضا ألا يعيش وألا تنجح قصة حبهم، لأن أكبر العشاق في التاريخ لم يفوزوا بحب حبيبتهم ، لذلك لم يكن يخشى فراقها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة