الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المستنقع وقصص قصيرة اخرى

عادل كامل

2016 / 10 / 23
الادب والفن





المستنقع وقصص قصيرة أخرى




عادل كامل

[1] المستنقع والجدول
لم يجد المستنقع أحدا ً يحاوره، وهو يفكر بقضاء الوقت، فسأل الجدول الذي يجري بجواره:
ـ لِم َ أراك تسرع في الجري...، تأتي من الأعلى لتذهب إلى المنخفضات...؟
ـ ما شأنك بي، أيها المستنقع، ومياهك آسنة، راكدة، كدرة، وعفنها يملأ الهواء، فتهرب منك المواشي، والدواب، والطير!
ـ آ ....، لكنك ـ وأنت تجري مسرعا ً ـ لا تترك أثرا ً يذكر لك ...، فلِم َ لا تقبل دعوتي باستضافتك، عندي، لنعمل معا ً، بدل أن تترك حياتك تنحدر إلى المجهول...؟
ـ آ ....، تنوي أن أقيم معك، من غير عمل، وأصبح مأوى للحشرات، الأفاعي، والساحلي الخاملة، وكل من لا عمل له وهو يمضي حياته مقيما ً في مياهك الثقيلة؟
ـ هذا أفضل، فأنت تأتي وتذهب، من غير اثر...، بينما أنا أصبحت بيتا ً للجميع!
ـ كم تبدو مغرورا ً، وكأنك على صواب، وأنت لا تبذل جهدا ً يذكر، وحياتك تمضيها في خمول، وانتظار، ورخاوة! حتى ماؤك صار فاسدا ًولونه بلون الفحم، ومذاقه مرا ً كريها كنكهة طعام فاسد !
ـ الآن عليك أن تجري سريعا ً، ..، وتبتعد عني، كي لا تحرض شعبي علي ّ...، فالذي تنتجه أنت سرعان ما تفقده، أما يسرق منك، وأما يتخلى عنك، لتبقى تجري، من الأعالي إلى المنخفضات، وأنت تخفي علينا أنينك، زاعما ً انك أديت الواجب! أما أنا فقد قدر لي، مع شعبي، أن لا أفكر متى ولدت ومتى أموت! فأنت تعمل مستمتعا ً بغفلتك، وأنا غفلتي هي التي تستمع بحياتها معي في هذا المستنقع!

[2] مسرة
سألت الصخرة الريح:
ـ لِم َ لا تكفين من الطرق على بابي..؟
أجابت الريح:
ـ كي تشاركيني سفري الطويل!
ـ أنا تعبت...، فدعيني اخذ قسطا ً من الراحة...، وارقد بسلام، وسكينة.
فقالت الريح:
ـ مضى عليك، أيتها الصخرة، زمنا ً طويلا ً وأنت لا تحركين ساكنا ً...
ـ أيتها الريح، سيأتي اليوم الذي تكلين فيه من العمل، وتحلمين بالسلام، واخذ قسط من الراحة.
قالت الريح، بعد أن صفعت الصخرة بقوة:
ـ ومتى كانت أحلام النائمين مدعاة للمسرة...، أو الرجاء، فهم يمضون حياتهم كلها بانتظار الذي لا يأتي، وإن أتي، فأنهم أول من يتجاهله، أو يوصد بابه كي لا يراه!


[3] براءة
بعد أن لم تترك النار للماء شيئا ً يذكر، قالت للهواء:
ـ انتصرنا!
فقال الهواء، وهو يراقب غيمة تقترب:
ـ قريبا ً..، أيتها النار، ستخمد الأمطار لهبك، وتتضرعين للماء ألا يقضي عليك!
ـ آ ....، لو كان كلامك صائبا ً، لخمدت الشمس، وكفت عن التوهج!
ـ آ...، كأنك تعملين لصالح الشمس، محض أجيرة، ولست حرة كي يدوم عملك، ويكون مباركا ً!
ـ يا هواء..، أنت تتكلم من غير علم، فمن أنت لولا لهبي، يمنحك طول العمر!
ـ أجل...، وأنا لهذا أرى نهايتك تقترب...، فلا تؤذي الماء!
ـ يا أحمق...، لو لم افعل هذا، لتعفن الماء، وفقد براءته!


[4] هزيمة
نظر الغراب إلى المرعى الممتد مع الأفق، فرأى قطعان الماشية؛ البقر تتبع اثر النعاج، والماعز يتتبع خطا الإبل، والحمير تمشي خلف البغال...، وقطعان الجاموس تهرول خلف قطعان الثيران، ليقول لرفيقه:
ـ الآن علينا أن نهرب!
رد الآخر بلا مبالاة:
ـ أينما نذهب، وأينما نولي، يا رفيقي، فإننا لن نرى سواها، فالقطيع لا يمشي إلا خلف من سبقه، ومن سبقه لا يمشي إلا من تقدمه...، فأينما تفر فلا مفر أن تجدها رصت رصا ً كأنها البنيان المرصوص...!
فسأله باستغراب:
ـ ولكنك ماذا فهمت من كلامي؟
ـ كلامك واضح، لا يحتاج إلى تأويل، أو تفسير...، حتى وإن حاولت أن تخبأ مقاصدك النائية وتدفنها فيه!
ـ آ...، اخبرني إذا ً...، فانا أود أن أتعلم منك ما تعلمته مني!
ـ انك قصدت إن أخطاء القطيع وحدها غير قابلة للتعديل، أو الدحض! فقد ترتكب السباع أو النمور أو الذئاب إثما ً...، فانه لا يذهب ابعد منها، أما عندما يرتكب قطيع النعاج أو الماعز أو الجاموس أو الحمير أو البقر إثما ً فالأمل في تعديله، أو دحضه، يغدو بحكم المستحيلات!
هز الغراب رأسه، ولم ْ يطر بحثا ً عن بلاد بعيدة، وقال لصاحبه:
ـ هذا هو وحده يمنحني الأمل بالبقاء على قيد الحياة!
ـ غريب...، يمنحك الأمل؟
ـ اجل....، وذلك لاستحالة أن تكون هناك نهاية إلا وشملتنا بالهلاك!


[5] بلا حدود
نظر إلى الفراغ الآخذ بالامتداد، وقال لقائده:
ـ هذه هي عاصمة النمل ...، انظر، إنها بلا حدود.
ـ أين ـ هي ـ فانا لا أراها...؟
ـ أخبرتك، سيدي: إنها بلا حدود!
فقال ساخرا ً:
ـ عندما بدأنا الحرب، لم نكن نحلم بأكثر من حفرة نتوارى فيها عن الأنظار...، والآن، أصبحنا نمتلك الكون!
ـ نعم، سيدي، الم ْ أخبرك، منذ البدء: إن من يمتلك الكون، قد لا يجد حتى حفرة يتوارى فيها!


[6] ضحك
ضحكت النملة حتى كادت تفطس من الضحك، فقالت لها صاحبتها:
ـ أصبحت لا تخافين من الفيلة، ولا من الثيران...، ولا من أفراس النهر..؟
ـ لا...، ولماذا أخاف من الحيوانات التي تسحقني وهي تتظاهر إنها لم ترني، عبر نزهاتها في هذه الغابة ...، فماذا كانت ستفعل لو رأتني..؟
ـ تسحقك!
ـ لهذا ـ يا صاحبتي ـ قررت أن اكف عن البكاء، أو طلب الرحمة، والاكتفاء بالضحك حتى الموت!

[7] حجارة
كلما امسك بالصخرة، بين أصابعه النحيلة، وجدها تحولت إلى جمرة، لتحرق أصابعه، فيرميها أرضا ً، ثم يعود ليمسك بها، ليجدها اشد توهجا ً ولهبا ً... ، فسألها:
ـ لِم َ تفعلين هذا ...، أيتها الصخرة؟
ردت عليه الصخرة:
ـ وهل المرأة التي ترجمها أكثر إثما ً منك...؟
فقال بشرود، مذعورا ً:
ـ لست أنا هو صاحب القرار...، برجمها، فانا واحد من الحشد.....، وقد أمروني الاشتراك برجمها، ففعلت.
قالت الصخرة:
ـ عندما لا تكون واحدا ً منهم، ستتعلم كيف تبني بيتك، قبل أن تهدم بيوت الآخرين، وتخربها بالحجارة!

[8] الأسماك لا تكترث
بعد أن اشتد المرض به، وعياه، طلب من حفيده، بعد الموت، أن يرمي بجسده إلى النهر. فسأله حفيده بشرود:
ـ ستنهش الأسماك لحمك يا جدي...؟
ـ اعرف!
فقال الحفيد متسائلا ً:
ـ أم انك تعرف إنها لن تقترب منك؟
ـ لماذا لا تقترب مني؟
ـ لأنك ـ يا جدي ـ لا تؤمن بالحياة ما بعد الموت...، والأسماك لا قد لا تأكل لحم الكافرين...؟
ـ آ ...، لكن الأسماك الجائعة، يا حفيدي، لا تكترث لهذا الأمر!

[9] هزيمة
راح يتمتم مع نفسه بلا مبالاة:
ـ أينما أولي، أينما أوجه وجهي، أرى الموت يقول لي: ابتعد! وها أنا...، لا أجد أحدا ً اهرب منه، فأين أولي، وأين اذهب...، وماذا علي ّ أن افعل، كي لا تبقى النار مشتعلة في قلبي؟
رد الموت الذي كان يصغي إليه هامسا ً من غير كلمات أو صوت:
ـ لا أنت تعرف كيف تموت، ولا أنا لدي ّ قرار بالحفاظ على حياتك مني!
ـ آ ...، ها أنا لم اعد أنا وحدي مبتلى....، فأنت، مثلي، إن لم تجد عملا ً تعمله، فان العمل سيدلك على ما تعمله...، لكن لا أنت استرحت مني، ولا أنا أفلحت بالفرار منك!


[10] محنة
ـ كفى أيتها العاصفة، كفي عن ضرباتك فإنها موجعة جدا ً...، فأنت لم تبق نعجة في الزريبة، ولم تبق شجرة في الأرض، بعد أن هربت الطيور من أعشاشها، وفرت الخيول من إسطبلاتها، وتشردت الدواب، ولاذت الأنعام ...، فماذا فعلنا لك ـ أيتها العاصفة ـ كي توجعينا بضرباتك القاصمة....، ماذا فعلنا لك، ونحن لم نتأخر في تقديم الطاعة لك، أو نذر النذور...، والولاء...
ضحكت العاصفة وسألته:
ـ من أنت..؟
ـ أنا ـ هو ـ هذه الأرض التي ولدت عليها هذه المخلوقات...
فقالت العاصفة ساخرة:
ـ ولكن...، لماذا لم يدافع الطير عن عشه، والسبع عن عرينه، والذئب عن وكره، والحمار عن إسطبله، والثور عن زريبته، والتمساح عن مستنقعه، والديناصور عن عرشه....، لِم ً فروا هاربين باحثين عن ملاذ لهم ...، ولم يكن لديهم ملاذا ً إلا الموت في أرضهم التي ولدوا فيها ؟
ـ فعلوا ذلك... فعلوا .. فلقد قدمت الثيران لك أفضل عجولها، والنعاج قدمت خيرة حملانها، والسباع تبرعت بليوثها ...، وكلما كانوا يقدمون لك كنت تطلبين المزيد..، فلم يبق لديهم إلا أن يقدموا أنفسهم، فاختاروا الفرار، والهرب، بدل أن يعم الخراب، وتصبح حديقتنا ارض خالية إلا من موتاها!
ـ وهل هناك ملاذ يمنح من غير ثمن...؟
ـ لم يبق لدينا ما نخسره، لكن، أيتها العاصفة، هل حقا ً تفتخرين بنصرك، علينا، وما نحن إلا ملح الأرض، وبذورها، فان لم ندفن في أرضنا، فإننا أينما نذهب ـ سنعود لها، في يوم ما، عندما لا نجدك قادرة إلا بالسماح لنا بالعودة!
ـ الم ْ اقل لكم إنها دورة، إن مكثت دفنتكم فيها، وإن هربتم، فانتم لا تكفون إلا البحث عمن يوجعكم! فلا أنا اكف عن العصف، ولا انتم تكفون البحث عني!

[11] نظرية التطور
سأل الحمار حمارا ً كان يقف بجواره قدام أقفاص السباع والنمور والذئاب:
ـ هل تفضل أن يأكلك سبع أم نمر أم ذئب...؟
ضحك الأخر حتى سقط أرضا ً، ثم رفع رأسه وأجاب:
ـ الم ْ أخبرك أن نظرية التطور لا غبار عليها!
ـ وما علاقة سؤالي بما قلت؟
راح الحمار يبكي، متمتما ً بصوت خفيض:
ـ في الماضي لم نكن نعرف من يفترسنا، ويخلصنا من العذاب، لأنه لم يكن يعنينا مثل هذا الأمر..، أما الآن فعليك أن تتخيل من سيفترسك، وهو يحصل على لحمك من غير جهد يذكر!
فرد الآخر ضاحكا ً باكيا ً:
ـ كان باستطاعتك أن تقول لي: في الماضي كنا ننشغل بالهرب من أنياب المفترسات، أما الآن، فإننا نتمتع بالحقوق كاملة إلا فرصة النجاة من الموت!
ـ ها أنت أثبتت أن نظرية التطور صحيحة حتى لو كانت خاطئة، بل هي خاطئة تماما ً، لأنها عمليا ً غير قابلة للدحض، لأن طرق الموت هي وحدها أصبحت أكثر شفافية!

[12] اختلاف

وهي تنظر إلى آلاف الجرذان تملأ الأرض، أمامها، قالت الأفعى لنفسها ـ من وراء قضبان قفصها الحديدي ـ:
ـ ماذا لو كنت طليقة الآن...؟
فرد عليها جرذ كان يصغي لها، وهي تحدّث نفسها:
ـ كنت ِ ستموتين من التخمة!
فقالت بحزن:
ـ كأنك تود أن تراني أموت جوعا ً ؟
فقال لها بمرح:
ـ وهل للحياة معنى غير التشبث بزمنها الوجيز؟
فطلبت منه الاقتراب، قليلا ً، لتقول له هامسة:
ـ هذا هو الاختلاف بيننا: انتم الجرذان لا تعرفون ماذا تفعلون بحريتكم، وأنا داخل هذا القفص لا اعرف ماذا افعل بعد أن فقدتها!

[13] حكمة
سأل التراب عجوزا ً هرما ً كان يحفر قبرا ً له:
ـ لِم َ توسع من حفرتك، بعد أن صار جسدك ظلا ً...؟
ـ كي ادفن في هذه الحفرة: صحبي، رفاقي، أهلي، معارفي، أصدقائي، ومعهم اقرب المقربين لي ..
فقال التراب بتعجب:
ـ ولكنك أغفلت دفن أعداءك معك؟
ـ أنا ـ أيها التراب العزيز ـ ادفن من أرسلني إليك...، لأن أعدائي هم وحدهم سمحوا لي أن ابلغ هذا العمر، وأصير عجوزا ً لا يمتلك إلا أن يشكرهم!
ـ آ...، ما الحكمة من هذه الكلمات؟
ـ لو كان للحكمة معنى، أيها التراب، لتكفلت بدفني، ولو كانت الحكمة بلا معنى، لكنت أنا تكفلت بدفنها!

[14] الذهب والتراب

سأل الذهب التراب:
ـ أتعرف لماذا أنا أفضل منك؟
ـ لا...، فأنت تشاركني الحفرة ذاتهاّ
قال الذهب:
ـ ولكنك لا تراني وأنا أتحول إلى قلائد في صدور الأميرات، العاشقات، العفيفات...،...والزانيات أيضا ً!
ابتسم التراب:
ـ لا تكترث، أيها الذهب، فالجميع مأواهن لدي ّ!
قال الذهب:
ـ وأنا سأنتقل إلى عاشقات وأميرات وعفيفات وزانيات جدد...،
ـ لا تحزن..، لأن بابي لن يوصد أبدا ً!

[15] الحصان الأعمى
ذهب الحصان الأعمى إلى كبير السباع، وخاطبه بصوت وقور:
ـ سيدي، أرجوك، افترسني؟
فرد السبع بغضب مكتوم:
ـ ومتى كنت افترس خيولا ً عمياء....، وأنت تعرف أن الخيول المبصرة، من حولي، لا تحصى، وهي تدعوني إليها؟!
فأجاب بتضرع:
ـ من يخلصني من آلامي إذا ً...؟
ـ يا حمار...، يا ضبع، يا قملة....، إن الشيء الوحيد الذي أحسدك عليه...، هو ألمك!
ـ تحسدني على ماذا ...؟
ـ على هذا الذي دعاك أن لا تهرب مني!
ـ سيدي، سيدي العظيم، أينما ذهبت، فهم يهربون مني!
ـ آه .....، أيها الحصان الأعمى، لكن هل هكذا آلت إليه أمورك، وانتهت إليه حياتك...، بعد أن كنت المفضل عند زعيم الزعماء؟
ـ كنت...، كنت...، في الماضي السحيق..
ـ آ ...، اذهب وابحث عنه، لعله ينجدك برصاصة الرحمة!
ـ سيدي، هو تلقاها...، قبلي، وتركني ابحث عن رصاصة أصبحت هي أندر من وجود مفترس يسد جوعه بلحم جسدي الأعمى!
ـ هل اطلب منك طلبا ً؟
ـ تفضل، سيدي، أنا طوع أمرك.
ـ افترسني، وأسدل الستار على قصتك، وقصتي، بنهاية لا اسعد منها: حمار افترس كبير السباع!

[16] النعجة والكبش
قال الكبش لصاحبته النعجة:
ـ أراك لا تخافين، وأنت تولولين، وتتذمرين، أن يسمعك كبير الذئاب؟
ـ سيدي، كبير الذئاب يسمعني، حتى لو لم أولول!
ـ إذا ً لم تعدين تخافين حتى من كلابه السائبة، وعيونه، ومرتزقته، وجواسيسه..؟
ـ اجل! أنا لا أخاف إلا من هذه الكلاب...، ولكن لأن شقائي بلغ ذروته، فقد فكرت أن الفت نظرها كي توصلني إلى كبيرهم، وأنال جزائي!
ضحك الكبش:
ـ هذه هي البلاهة عينها، وأكثرها غرابة!
ـ ماذا تقصد...، يا كبشي الطيب، المسكين، وأنت تتحدث كالحكماء؟
ـ اقصد انك لن تصلي إلى كبير الذئاب أبدا ً.
ـ ولكن كبير الذئاب لن ينساني، ويهملني، ويدعني ألقى مصيري بلا حساب!
فطس من الضحك وهو يخاطبها:
ـ وهل لدى كبير الذئاب الوقت للسؤال عن نعجة مكثت تعتقد انه سيرسلها إلى الفردوسّ!

[17] عدوى
راح العصفور يتأمل مالك الحزين، بشرود، فانتبه الأخير لوجوده، وسأله:
ـ ماذا تريد ...؟
فكر العصفور برهة، وأجاب:
ـ هل تعرف كم أحسدك، يا سيدي؟!
قرب مالك الحزين رأسه من العصفور، وسأله:
ـ على ماذا تحسدني...، وأنا طالما كنت أحسدك!
صاح العصفور، متعجبا ً:
ـ تحسدني ...، وأنا لا أتمتع بقوتك، وعظمتك، وشموخك، وقدراتك في التحليق بجوار الغيوم، وفي الأعالي، لتصل إلى الجنان!
فرد بصوت حزين:
ـ أتعرف لماذا أحسدك، أيها العصفور الصغير، لأنك تستطيع أن تبني عشك في أية شجرة، وتستطيع أن تختبئ من الأعداء، وتناورهم، وأحسدك لأنك تكتفي بالقليل من الطعام، مع انك تمتلك أحلاما ً كبيرة!
ـ آ ...، دعنا من الأوهام، سيدي، واشرح لي لماذا أنت حزين؟
ـ أولا ً لأنني لا اعرف أين اذهب، وأنا الفت نظر الأعداء، فجسدي الكبير طالما عرضني للمزيد من التهديدات، والمراقبة...، فأينما وليت أجد مصيري في خطر!
فكر العصفور بصوت مسموع:
ـ آ ....، كنت أظن انك اسعد مخلوق في هذا العالم...، تماثل رهبة الفيلة، وهيبة السباع، وجبروت التماسيح...، فكنت اسأل نفسي: لماذا لم اخلق مثلها، متمتعا ً بالقوة، والبطش، فلا أجد جوابا ً، كي أدرك وكأن الغابة وجدت من أجلكم انتم وحدكم أيها الأقوياء؟
ـ والآن...؟
ـ الآن أصبت بالعدوى!
ـ ماذا تقصد ...؟
ـ أصبحت حزينا ً...، لأنني طالما كنت احسد الديناصور، ووحيد القرن، والكركدن ...، وقد ظهر لي، سيدي، إن ضآلة عقلي كادت تهلكني بهذه التصورات، والشطحات، والأوهام!
ـ لا تكترث، يا صديقي الطيب، مادام كل منا لا يعرف حقيقية الأمر! ومادام كل منا لم يسبر مخبآت الأسرار!
صاح العصفور:
ـ تقصد ...، إن كل منا لا يعرف الحقيقة أصلا ً؟ آ...، الآن ربما فهمت سر حزنك!
ـ اقترب...، ماذا عرفت؟
ـ انك، يا سيدي، ستلحق بالديناصورات!
فقال مالك الحزين بلا مبالاة:
ـ لا تكترث...، ففرحك ـ هذا ـ الذي أثار حسدي، لن يطول كثيرا ً. فإذا لم يكن مصيرك يحث خطاه نحو نهايتي، فان مواصلة الحياة معك لن تمنحني إلا حزنا ً مضاعفا ً، واشد عمقا ً، وأكثر مرارة!


[18] ذيول
ـ ماما ..ماما... لماذا ذيول الديناصورات طويلة ...، بينما هؤلاء البشر بلا ذيول؟
صعقت الأم وهي تسمع ولدها يسألها، وهما يراقبان دخول أفواج من الزوار إلى الحديقة، فراحت تكلم نفسها بصوت متلعثم:
ـ ربما لأن عقول الديناصورات في ذيولها...، من يدري، أو لأن ...
لم يدعها تكمل كلامها مع نفسها، بعد أن سمع كلماتها، ليخاطبها:
ـ ربما لأن ذيول الناس تجمعت في رؤوسهم!

[19] غياب
سأل الحمل أمه النعجة وهو يراقب ذئبا ً يتربص بالقطيع:
ـ هل صحيح إن الذئاب ما هي إلا مهضومات الخرفان والنعاج والحملان التي افترسها؟
ـ لا اعرف ...، يا ولدي، مادمنا نحن مهضومات هذه الحقول...، وهذه الأعشاب، وهذه المياه!
فسألها بفزع:
ـ ولكن لماذا وجد العشب، والحشائش، والدغل...، إن لم يوجد من اجلنا..؟
قالت بتلقائية لا تخلو من خوف:
ـ هل عرفت لماذا خلقنا إذا ً...؟
انزوى بعيدا ً عنها، ليجد الذئب أمامه، يسد عليه الدرب. جفل، فخاطبه الذئب:
ـ لا تخاف ...، فانا ـ مهما كنت قاسيا ً عليكم ـ وارتكبت المظالم، فانا نفسي سألقى مصير العشب، والحشائش، والدغل، كما سألقى مصيركم انتم يا معشر الخراف والنعاج والحملان!
فسأله الحمل:
ـ ما الحكمة في هذا ....، سيدي الذئب؟
مر حمار الراعي بجوارهما، فسأله الذئب السؤال ذاته: ما الحكمة في وجودنا ...، أيها الحمار؟
نهق الحمار بأعلى ما يمتلك من قوة، رافسا ً الذئب بشدة، ومستدعيا ً الكلاب، وأجاب الحمل:
ـ اهرب....، هذه هي الحكمة!
هرب الذئب. فقال الحمل للحمار:
ـ ولكنك لم تفعل شيئا ً عدا انك أجلت موتي...، وموت الذئب، وموتك أنت أيضا ً!
ـ آ ....، على كل منا أن يحمل أوزاره...، يا بني! فان لم تفعل، وعندما لم تهرب، أو عندما تؤجلها، فإنها لن تدعك تفلت منها إلى الأبد!
ـ وجدتها... وجدتها... وجدتها!
راح الحمل يصرخ بأعلى صوته، وقد تجمعت كلاب القطيع من حوله، فسأله الحمار بذعر:
ـ ماذا وجدت؟
ـ إن الحكمة لا وجود لها إلا بغيابها...، كالحياة، ما أن تذهب، وتتوارى، وتختفي...، حتى تجد من يتحدث عنها!


[19] أنت وأنا

ـ مع أنني اعرفهم، ومع إنهم يعرفونني...
ـ تكلم، أرجوك، لا تغلق فمك!
ـ إلا أن المسافة بيننا سمحت لي أن لا اعرف...، وسمحت لهم أن لا يعرفونني....، فلا أنا أريد أن أرهم، ولا هم يسعون لرؤيتي، لا هم بحاجة لي، ولا أنا بحاجة لهم..!
ـ الغريب ـ سيدي ـ انك تتحدث بهدوء تام، وكأن شيئا ً ما لم يحدث؟
ـ آ .....، ماذا لو انفعلت، ورفعت صوتي، ماذا لو غضبت، وزمجرت...، ماذا لو اعترضت، أو تمردت....، فانك ستعرف إنني مازالت بحاجة لهم، وربما هم أيضا ً بحاجة لي!
ـ لم افهم...؟
ـ إن ما يحصل في حديقتنا، يا ولدي، هو خلاصة ما يحدث، في باقي حدائق هذا الكوكب...، فهل تستطيع أن تخبرني ماذا كانت عليه كيانات هذه الأنوار الآتية من الأزمنة السحيقة...؟ انك لا ترى سوى أثرها، ذبذباتها، ذراتها، وما تبقى من غبارها...، بعد أن تكون قد تلاشت، زالت، ولم يعد لها سوى آثار من المستحيل قراءتها، بوسائلنا القاصرة، وأدواتنا العمياء!
ـ كأنك تقول: هذا هو العدم....، أو هذا هو الوهم، أو ربما قصدت: هذا هو اليقين؟
ـ انظر...، عبر الشاشة، وعبر وسائل الاتصال: ماذا يحدث....، حيث الجميع، في الأخير، لا يصنعون سوى رمادهم...، وها هم يدمرون الأثر أو ما تبقى منه أيضا ً!
ـ آه ....، انك تتحدث عن قوى الشر ...، عن تلك الجرثومة التي أوغلت في الهدم، والتخريب، حد المحو....!
ـ أرجوك...، لِم َ تربك موتي، فانا كنت فهمت لماذا خلقنا؟
ـ فهمت...!
ـ لا اعتقد انك فهمت شيئا ً...
ـ اقصد ... أنا بصدد معرفتك ...، واعتقد انك، مثلي، تود أن تعرفني!
ـ لا ....، أنا لا أريد أن أعرفك، صدقني، ولا أنت بحاجة إلى معرفتي. فانا هو ظلك كلما حاولت قراءته، ستعمل على: محوه!

[20] كنز
ـ ها أنت حصلت على الكنز الذي لم يفز به احد من قبل!
ـ ومن قال لكم أني كنت ابحث عنه، وانتم تشاهدون هذا العدد الهائل لا يمتلك إلا رغبة واحدة ألا وهي الحصول على هذا الكنز؟
ـ أتخاف أن يسرقوه منك؟
ـ لا!
ـ أم ترغب أن توزعه على الجميع؟
ـ لكن لا احد يستحق أن يحصل عليه!
ـ ماذا ستفعل إذا ً...؟
ـ سأبقى مثل الجميع ابحث عن الكنز الذي لا وجود له!
ـ ولكنك حصلت عليه؟
هز رأسه بهدوء:
ـ اجل..، سيدي، أنا لم افقد الأمل بالعثور على الكنز الذي لا وجود له!
23/10/2016
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ