الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موعد مع الغدر في ليلة المجزرة

تميم منصور

2016 / 10 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


موعد مع الغدر في ليلة المجزرة
تميم منصور
التقيت به، فدلني إحساسي أن هذا الأستاذ الشاب وراءه قصة حزينة. وجهه الغاضب وجبهته العريضة يشيران إلى أن البركان في داخله ما زال ثائراً. تتسلل ألسنة اللهب الحار من مسامات بشرته ومن كلماته النارية. علاقتي به توطدت بحكم الزمالة في العمل والمواقف المتقاربة في الفكر والإيمان بالمصير المشترك. حاولت التطفل ومساعدته في كشف أو نزع قشرة الحزن عن وجهه، وإذ بنزيف الكلمات يتسلل من جرح عميق، حاملاً صورة والده..!
قال: لكل شهيد من شهداء المجزرة قصة تحتل مساحة الأرض التي ارتوت من دمه. قلت له بعد صمت ضغط على حزني: يجب إيداع هذه القصص الفردية منها والجماعية، أمانات وأرصدة في خزائن وذمة التاريخ، لأن التاريخ وحده باق يسير مع الزمن إلى ما لا نهاية، وحده القادر على تعقيمها وصيانتها ومنعها من الضياع والنسيان.
أضفت: لقد فقد شعبنا وطناً كاملاً، إلا أن هذا الوطن, بسهوله وجباله وهضابه وسمائه, لا يزال قائماً من الناحية المادية. لا نعرف، ربما تستردها الأجيال القادمة. إذن علينا أن لا نخسر الوطن والذاكرة التي هي بمثابة سجل الأرض (الطابو) الذي يؤكد حقنا به.
فتحت هذه الكلمات صمام الصمت والاحتقان فتدفقت الكلمات. قال الأستاذ: بعد الساعة الخامسة من يوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول، دخل منع التجول الذي أعلنه قائد المنطقة حيّز التنفيذ قبل أن يحضر والدي من عمله في أرضه. بدأ القلق يساورني مع أمي وأخوتي وأقاربي، وقد ازداد الموقف رهبة ووحشة بعد أن ودعت الشمس ذلك اليوم الدامي من أيام الخريف. قاطعته وقلت كي أخفف من حدة الغضب الذي رأيته يقفز كالشرر من عينيه: أنا لست من محبي فصل الخريف، أشجاره العارية وأيامه القصيرة تستفزني وتضيّق عليّ الخناق.
أستمر في حديثه دون أن يهتم بمقاطعتي قائلاً: شعرت أن الليل يحمل معه الخوف. الترقب تحول إلى ذعر. منع التجول يرافقه أسراب من غربان الخريف تحلق فوق البيوت والأشجار. أمي صرخت: أعوذ بالله من شوف هالغربان ومن شوف هؤلاء الجنود، لا فرق بينهم وبين الغربان. إطلاق نار على أطراف البلدة، صراخ قريب من بيتنا، عويل يتصاعد، شتائم من الجنود الذين كانوا يركضون في الطرقات وفي أزقة البلدة كالكلاب المسعورة.
فجأة ساد صمت مريب كسره صوت جارنا أبو حسن قال وهو يطل من النافذة:
- أنا والله خايف يا أستاذ، إطلاق النار اللي باسمعه جاي من مدخل القرية الغربي.. مش لدب الرعب في قلوب المواطنين... هذا مش رصاص ريب، انه رصاص صيب!! على ما اعتقد انه يغرز في أجسام حية..! سامع..؟ انتبه، هذه صلية ، هذه ثانية. لا يوجد له دوي في الهواء.. الله يستر.. أنه رصاص موت..!
قال الأستاذ بألم: صاحت والدتي بعد سماعها ما قاله جارنا أبو حسن: حرام عليك يا جارنا.. اتقي ربك يا زلمي هديت حيلنا..!
لكنّ أبا حسن لم يغير موقفه مع أنني اعرفه عنيدا. اهتممت بأقواله، خاصة بعد أن استمر يفسر لي كيف يمكن أن نميز الرصاص الطائش في الهواء والفراغ والضرب بالمليان- كما يقول المصريون، مما زاد من يقيني بصدق أقواله عندما استعان بخبرته وتجربته العسكرية، أثناء تجنيده في الجيش العراقي سنة 1948، وكيف تدرب في معسكر نور شمس على إصابة الهدف. لاحظ جارنا أبو حسن اقتراب دورية راجلة من بيتنا, صاح: أستاذ اجو العسكر، ثم اختفى وابتلعته الغرفة بعد أن أغلق النافذة.
أكمل الأستاذ حديثه: شعرت بضعفي وعجزي أمام والدتي وأشقائي. رأيت سورا عاليا يفصل بيني وبين أبي لا استطيع تجاوزه والوصول إليه لأعرف ماذا حل به. رأيته يغرق أمامي في بحر من الدماء دون أن استطيع أن أمد له حبل النجاة، فلم يوقظني سوى صوت شقيقتي وهي تقول: روح فتّش عنه..! وأخذت تبكي. تبعتها والدتي وأشقائي الصغار, وقررت أن اعمل شيئا لمعرفة ماذا حل بوالدي.
اقتربت دورية راجلة من بيتنا. سارعت إليهم رغم تحذيرهم لي بإطلاق النار في الهواء. إلا أن هذا لم يردعني ولم يوقف خطوتي تجاههم. تقدمت إليهم بدافع غريزي, بعد أن تبخر كل الخوف من داخل حواسي. وقفت أمامهم وتحدثت مع الضابط باللغة الانجليزية, لأن لغتي العبرية كانت لا تزال ضعيفة.
سألت عن والدي وأبلغتهم انه لم يحضر بعد. أجابني الضابط: لا تقلق, سيعود والدك بعد قليل!!
طلب احد الجنود مني كأس ماء، وقال الآخر بلهجة عراقية: "اكو عندكم شاي؟", يعني هل عندهم شاي؟ كان توجههم عاديا. كانوا يتحدثون إليّ بوجوههم البلاستيكية وابتساماتهم الثعلبية المبهمة. زادت حيرتي وتساؤلاتي: هل هناك مجزرة؟! أجبت على سؤالي: لا أظن ذلك!! أكمل الأستاذ: كنت مستعدا للتضحية بكل شيء على أن يعيدوا إلىّ والدي. ابلغني الضابط أن العشرات من أبناء القرية تأخروا في عملهم، وعادوا أثناء منع التجول فتحفظ عليهم لدى شرطة "بيتح تكفا". قلت في نفسي: والله هذا كلام يركب على العقل..! بعد أن تناولوا الشاي ابتعدوا عن ساحة البيت شاكرين, وأقنعونا بأنه لا حاجة للقلق. لكن في الصباح انكشفت الحقيقة، وظهرت معالم الجريمة، المجزرة. كانت مصيبتي بأبي كبيرة. حفرت جرحا في صدري لا يندمل, تلاحقه تساؤلات تؤلمني كالسكاكين دائماً: كيف صدقت أولئك القتلة..؟!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصف مستمر على مناطق عدة في قطاع غزة وسط تلويح إسرائيلي بعملي


.. عقب نشر القسام فيديو لمحتجز إسرائيلي.. غضب ومظاهرات أمام منز




.. الخارجية الأمريكية: اطلعنا على التقارير بشأن اكتشاف مقبرة جم


.. مكافأة قدرها 10 ملايين دولار عرضتها واشنطن على رأس 4 هاكرز إ




.. لمنع وقوع -حوادث مأساوية-.. ولاية أميركية تقرّ تسليح المعلمي