الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية وردة التي قصت

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2016 / 10 / 26
الادب والفن


حكاية وردة التي قصت

كان اسمها وردة، ولدت في العام 90 في أحد الأرياف النائية البعيدة، قيل أنها ولدت صغيرة الحجم وبالكاد تجاوزت بعض الكيلوغرامات، لم تكن الوحيدة في الأسرة، بل عاشت إلى جانب ستة إخوة و أخت وحيدة، كلهم كانوا ينامون على حصير واحد تحت سقف قش حجري، أما الوالد فكان رجلا طاعنا في السن بات كل مساء يجلس جوار البيت ساهما ويجذف في توبة ممكنة بعد أن قضى شبابه متسللا إلى بيوت الرجال النائمين تاركا زوجته غارقة في موتها الأبدي، ها قد شارف العمر على نهايته، ووخز الضمير يكبر ويتعملق، عشر سنوات من العبادة والعودة إلى أحضان الرب لا تكفي أبدا، كيف تعادل هذه المدة القصيرة مدة أطول منها من الإثم والعدوان ؟ إن يكن ما يكن، لقد نبتت لحية عظيمة على وجهه وراح يعتني بها وارتدى فوقية بيضاء وصار يصوم ويصلي النوافل ويتردد على المساجد ويسمع الخطب وأصبح مفتيا، ولا ننسى أنه كان يتطوع مع المحسنين بعد أن اصبح منتميا الى جماعة دينية، بذلك أصبحت الأسرة تاتمر بأمره، فمارس عليها طوقا ابديا من الحلال والحرام.
لم يتغير حال القش الحجري رغم مرور ثلاثة عقود على تشييده، بقي سقفه صدئا كما كان، وظلت الرتيلاء تعشش فيه والقبرة تبصق عليه كل صباح والبومة تنعق فوقه كل مساء، أما زوجته مي فاطمة ظلت كل أربعاء تمسك ورقة نقدية من قيمة 100 درهم وتمتطي الحمار وتذهب الى السوق وتروح إلى القش ليلا حاملة ما يسد رمق أبنائها الجياع المنتظرين، في حين زوجها ظل مهاجرا مع جماعته وهم يمارسون الذكر تكفيرا عن الذنوب والاثام، لعل الرب يصافحهم ويسمح لهم .
ولدت وردة بين أحضان القش الريفي، كان وجودها صدفة، كان يمكن لها أن توجد والا توجد، الفقراء يولدون دون إرادة أو تصميم، إنهم أبناء رغبة مقموعة ومكبوتة، عاشت طفولتها حافية ينخرها الجوع والبؤس، كان لا يحق لها أن تصرخ أو تبكي، كانت كل أربعاء تنتظر عودة الأم من السوق لعلها تشبع أو في أحيان أخرى يهيمن عليها إخوتها ولا تحصل على شيء، كانت البطاطس المسلوقة أو الخبز والشاي هما الوجبتان الوحيدتان، لذلك لم تكبر وردة، بل صار ساقاها متورمين وصدرها نحيل وانفها يكون مخاطيا كل صباح بفعل البرد، كانت لا تضحك إلا لماما كان الضحك جريمة، فوالدها كان يردد عليهم حديثا نبويا يقول : "إن الضحك يضعف القلب"، تعلمت أن تكون حزينة و مأثمية الوجه و جنائزية القلب، وتلقنت ألا تحتج وأن تكون في خدمة اخوتها وأبيها بالاعتناء بملابسهم وأغراضهم .
في أواسط التسعينات، دخلت وردة إلى المدرسة، كانت هذه الأخيرة تبتعد بخمسة كيلومترات عن قشها، وتتموقع جانب الوادي، كانت وردة تدرس في الصباح وفي المساء ترعى القطعان، تستيقظ باكرا لعلها تصل في الوقت، كانت نعالها البلاستيكية مقطعة ومحفظتها مخرومة وبالكاد حافظت على تماسكها بفعل سلك عثرت عليها وردة في الطريق، كلما ابتعدت وردة عن القش شعرت ببارقة أمل، ذات يوم تقطعت نعالها بالكامل بعد أن قطعت نصف الطريق واضطرت الرجوع إلى البيت وهي باكية حزينة في صباح شتوي ممطر وارتدت " صباط البوط" الخاص بكل رحلة رعوية في أحضان الغابة .
قضت وردة ست سنوات في المدرسة القروية، كانت مجدة بشهادة كل رفاقها التلاميذ والأساتذة، كانت قارئة نهمة، في طريق عودتها إلى قشها الحجري كانت تبحث عن الجرائد المرمية، وحين العثور عليها تجمعها وتأخذها إلى المرعى لكي تطلع عليها، وكانت تزور بيت خالها من أجل هذا الغرض، لم تفتر رغبتها أبدا، كانت تنصت للمذياع من حين لآخر، كانت تتابع وصول أصحاب اللحى إلى الحكم في الجزائر وأفغانستان وسمعت أيضا إرغام النساء على ارتداء النقاب، عرفت أن والدها ينتمي إليهم، بحدسها علمت أنه سيكون عدوا لها أكثر من ذي قبل، ها قد بدأ انكسار الطموح، لقد أرغم أواخر الثمانينيات أختها على مغادرة المدرسة معتقدا أن النساء مكانهن هو البيت وأنهن ناقصات عقل ودين !!! والدها الذي كان من قبل يتسلل إلى غرف النساء المستيقظات صار الآن مفتيا، أليس الله يغفر كل الذنوب ما عدا الاشراك به ؟ وردة المسكينة بعزم لا يلين، واصلت رغبتها في الدراسة في المدينة، كانت كل صباح تركب على دراجتها وتمضي إلى الاعدادية، بعد مضي سنتين راح الوالد يرصدها، وفي العام الثالث بعد أن نجحت برتبة مشرفة قرر ارغامها على مغادرة المدرسة !!!!
كانت نكبة عظيمة، لقد شعر بالحزن كل من يحب وردة وكل من كان يرى فيها قدوة ونموذجا، فهي الوحيدة التي نجحت في القرية بعد أن رسب جميع التلاميذ في ذلك العام، لكن الملتحي لا أحد يقرر محله . عادت وردة إلى حضن المرعى متذمرة، تحت الشجرة التي تستظل بظلها كورت كل جرائدها وراحت ترميها نحو السماء، لم تعد تحب أحدا غير نعاجها الأليفة والغابة الصامتة، حين الرجوع إلى القش لم تكن تنام، كانت تبكي في صمت، فلا يجوز لها الحديث، في القرية النساء عليهن الصمت، انهن مجرد وعاء للإنجاب، مرت بضعة شهور قرر الوالد تزويجها رفضت، عذبت، أصيبت بحالة من الهذيان لعنت شريعة السماء وسبت الوالد وفضحت سيرته العاهرة أمام الجموع، وقالت بصوت عال : " أريد أن أدرس " . صارت تجمع كل كتبها وتحمل محفظة على ظهرها وتركب الدراجة وتقول لوالدها : " رغما عنك أيها الحقير؛ إني ماضية إلى المدرسة، كم من المساجد بنيت أيها المنافق ؟ إنها ستسقط عليك وتموت ميتة الحشرات، يا ذوي اللحى أنتم منافقون" . جاؤوا لها بفقيه حرقها على عنقها، سبته ولعنته، ثم أخذت إلى طبيب وتماثلت للشفاء بعد شهور . مرت سنوات وزوجت، لكن نوبة الهذيان والحنين إلى المدرسة ظل راسخا لا يفارقها . في كل نوبة كانت تذكر تلميذا نجيبا يدعى أحمد، لقد كان يدرس معها وكانت تسلمه كتبها، صار الآن يدرس في الجامعة وكانت وردة هي قدوته في الصبر والمثابرة والعمل، كانت تقارن نفسها به، فبعد إرادة قوية وجدت نفسها في مخفر الأسرة من أجل إنجاب، ماذا جنت والدتها العليلة من الولادة ؟ الشيخوخة والمرض والألم وضنك الحياة، تقول وردة : " ها قد صرت مثلها، اليوم قد ولدت ولدا وغدا قد ألد آخرين، أية حياة هذه دون أن يصنعها الإنسان بنفسه؟؟ " . كانت هذه آخر رسالة بعثتها وردة لأحمد، وبعد مضي أربعة شهور، كان أحمد يدرس بالجنوب المغربي، فسمع خبرا مفجعا : "لقد انتحرت وردة، لم يحضر إلى جنازتها وكتب هذه القصة عربونا للوفاء والتقدير والاحترام .

ع ع/ الدار البيضاء، 26 أكتوبر 2016 / المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير